يقدم تفسيرا علميا للخيال وعملية الإبداع.. العقل أوسع من السماء: كتاب جديد عن طبيعة الخيال
آخر تحديث: الجمعة 10 يناير 2025 - 6:56 م بتوقيت القاهرة
منى غنيم
قالت الشاعرة الأمريكية إميلى ديكنسون ذات يوم عبر إحدى قصائدها: «العقل أوسع من السماء/ لأنك إذا وضعت الاثنين جنبًا إلى جنب/ يمكن لأحدهما أن يحتوى الآخر بسهولة»، إن ما يقدمه لنا العالم من خلال حواسنا يُضاف إليه تلقائيًا فى عقولنا أمور تفوق مجرد الإدراك الحسى، هذه هى طبيعتنا كبشر لأننا نملك شيئًا نمتاز به عن كل المخلوقات التى عرفت الحياة على سطح الأرض؛ ألا وهو الخيال.
الخيال هو القوة الخارقة الفريدة التى يمتلكها الإنسان، وربما أكثر ما يميزنا عن بقية المخلوقات، ومن هذا المنطلق حاول طبيب الأعصاب البريطانى آدم زيمان عبر صفحات كتابه الجديد بعنوان «الأشياء غير المرئية» تفسير آليات عمل الخيال داخل عقل الإنسان، كما حاول تقديم تفسير علمى له؛ فقدم الكتاب كمًا كبيرًا من المعلومات المثيرة حول عملية الإبداع، والصور الذهنية، وتطور الأدمغة منذ الطفولة، كما تشعب أيضًا لمواضيع جانبية مثل أصول الحياة، وجائحة كوفيد-19، وأزمة المناخ.
ولم يصل الكتاب إلى تفسير كامل للغز ــ برغم طرحه العديد من المعلومات العلمية ــ ألا وهو: لماذا تبدو قدرتنا على الخيال أوسع بكثير من احتياجاتنا الغريزية الأساسية ــ وربما المادية ــ للحياة على كوكب الأرض؟ وعن ذلك قال المؤلف إن الأمر ربما يتخطى حدود العلم؛ إذ يقدم علم الأعصاب الكثير عن الخيال، لكنه لا يمكنه الوصول إلى جوهره بشكل كامل.
الموضوع ذاته متعدد الجوانب؛ فعلى سبيل المثال ليست هناك ثمة علاقة مباشرة بين العلم والأدب؛ فإلى أى مدى يمكننا إيجاد أرضية مشتركة بين الشاعر الرؤيوى ويليام بليك (الذى اعتبر أن هذا العالم هو رؤية متصلة من الخيال) والفيزيائى بول ديراك، الذى كان يجد صعوبة فى تخيل نفسه فى عقول الآخرين، لكنه تمكن من ابتكار مفاهيم المادة المضادة والمغناطيسات أحادية القطب؟
يبدو أن الخيال مرتبط بوضوح بالإبداع، والتعاطف، والقدرة على استحضار الصور الذهنية. ومع ذلك، هناك أشخاص مبدعون للغاية مثل إد كاتمول، مؤسس شركة «بيكسار» والرئيس الحالى لاستوديوهات «والت ديزنى» للرسوم المتحركة، يعانون من حالة «العمى التخييلى»، وهى عدم القدرة الفطرية على تخيل أى شىء فى عقولهم.
إن الخيال جوهر كل التجارب الإنسانية. وعن ذلك قال المؤلف: «الإدراك والخيال يشتركان فى مساحة أكبر مما نعتقد»؛ فنحن نُكوّن عالمنا الذى ندركه من معلومات غير مكتملة يتم تفسيرها عبر الترجمة العقلية للبيئة المحيطة بنا، والتى بدورها تخلق توقعات لما يوجد فعليًا حولنا وكيفية تفاعلنا معه.
وأضاف: «الصور الذهنية موجودة لتمكننا من تقديم تنبؤات أدق عن الأحداث المستقبلية من أجل سلوك أكثر فعالية، ويتم ذلك من خلال السماح لنا بمحاكاة تلك الأحداث بطريقة تشبه الواقع إلى حد ما». وبالتالي، يصبح التمييز بين المتخيل والواقع غير واضح: فالتمارين المتخيلة يمكن أن تزيد القوة البدنية، والأدوية المتخيلة قد تسهم فى الشفاء ما يعرف باسم "تأثير الدواء الوهمى - Placeop"، والألم المتخيل يمكن أن يصير ألمًا حقيقيًا.
إن واقعنا هو، فى النهاية، ما يسميه بعض العلماء «هلوسة موجهة»: عالم متخيل يتطابق بدرجة ما مع العالم الفيزيائي، ولكنه قد يفقد هذا التوافق عندما تضطرب وظائف الدماغ بسبب الأدوية أو الأمراض.
وقدم المؤلف أيضًا عبر صفحات الكتاب مفهوم يمكن تسميته "القابلية للخيال" – وهو ليس الخيال بحد ذاته، بل السمات العقلية التى يحتاجها. تمامًا كما يمكننا التمييز بين أفعال عزف الموسيقى وسماعها من جهة، وبين "الموسيقية" كمهارات أساسية لأداء تلك الأفعال.
إن مفهوم القابلية للخيال يوضح كيف نشبه الحيوانات الأخرى ونختلف عنها فى آنٍ واحد، يبدو أن الخيال بالنسبة لنا سمة اجتماعية فريدة ومميزة للغاية، حيث يتمتع البشر بما يسمى "نظرية العقل"، وهى قدرتنا على افتراض أن الآخرين يمتلكون عقولًا مثلنا، بأهداف وتجارب خاصة بهم، تظهر بعض الحيوانات علامات على ذلك ــ مثل الطيور التى تخفى طعامها بطريقة تشير إلى إدراك لما قد يعرفه الآخرون ويفعلونه ــ لكن لا يبدو أن أى مخلوق آخر يمتلك هذا التوجه الاجتماعى بنفس القوة.
الأطفال الصغار ليسوا أكثر مهارة جسديًا من الشمبانزى أو إنسان الغاب فى أداء العديد من المهام، لكنهم يسعون غريزيًا إلى التعاون ويتوقعونه من الآخرين، وعن هذا قال «زيمان»: «الحالة الإنسانية هى حالة مشاركة عقلية مستمرة. عندما نخجل ــ سواء من الفخر أو الحرج أو العار ــ فإننا نعبر عن وعينا الإنسانى الفريد بمكانتنا فى عقول الآخرين وإدراكنا الكامل أنهم بدورهم يفهمون تلك المشاعر».
الخيال الاجتماعى ربما يحمل المفتاح للفارق الأهم بيننا وبين المخلوقات الأخرى، ألا وهو اللغة. وكما هو الحال مع العديد من السمات البشرية، فقد مكننا الخيال أن نبتكر قصصًا تفسر القيمة التكيفية، وفقًا لنظرية داروين، للقدرة على إيصال الأفكار والتعليمات المعقدة، ولكن بعض الباحثين يعتقدون أن اللغة نشأت ليس لأغراض نفعية مباشرة، بل لتمكيننا من نقل عوالمنا الداخلية من فرد لآخر: بمعنى آخر، لرواية القصص مثلًا.
ووفقًا لهذا الرأى، فإن اللغة هى أداة معرفية إبداعية بامتياز، ليست فقط لتنسيق النشاط الاجتماعى، بل أيضًا لابتكار الأعمال الأدبية مثل الملاحم الأغريقية، والقصائد العالمية على غرار «الأرض اليباب»، وحتى البرامج الإذاعية والأعمال السينيمائية والتليفزيونية وغيرها.
وأشادت صحيفة الجارديان بالكتاب الجديد لتناوله الجانب العلمى من الخيال بشكل جيد وغير مسبوق ولكنها أخذت عليه بعض المآخذ، ومنها: معالجته للجوانب الثقافية كانت غير متعمقة، وذكرت منها سبيل المثال: «بالنسبة إلى الشاعر الأشهر تى إس إليوت فى عشرينيات القرن الماضى، كانت المشكلة تكمن فى كيفية التعبير عن شعوره بالتفكك الشخصى والاجتماعى بعد الحرب العالمية الأولى، حيث بدت الأشكال الشعرية التقليدية غير كافية لتحقيق هذا الهدف».
كما أن قواعد الإبداع التى قدمها المؤلف تبدو وكأنها موجهة إلى سوق التحفيز والتنمية الذاتية، ومن هذا المنطلق ربما كان الكتاب بحاجة إلى إعادة صياغة أقصر وأكثر تنظيمًا لإيصال الرسالة المهمة بأن الخيال ليس ميزة حصرية للنخبة الفنية، بل هو قدرة عالمية أساسية للعلم أيضًا، أو كما قالت عالمة الرياضيات والمؤلفة الإنجليزية من القرن الـ 19، آدا لوفلايس: «الخيال هو القدرة الاستكشافية التى تخترق العوالم غير المرئية من حولنا». الخيال، فى جوهره، جزء لا يتجزأ من التجربة الإنسانية.