فرصة لغرام أخير.. نصوص تخترق جدار العزلة لتلامس أعماق النفس البشرية

آخر تحديث: الجمعة 12 يوليه 2024 - 8:05 م بتوقيت القاهرة

أسماء سعد

حسن داوود يحول واقع الحجر الصحي لكورونا إلى مادة إبداعية ثرية

في ظل وباء كورونا الذي فرض قيودا على البشرية جمعاء، تنبثق من رواية "فرصة لغرام أخير" للكاتب اللبناني حسن داوود، إبداعات فنية ساحرة، تحول واقع الحجر الصحي القاتم إلى لوحة فنية نابضة بالحياة.

تطل علينا الرواية، الصادرة عن دار الشروق، من خلال شرفات تخرق جدران العزلة، لتجسد لنا يوميات حية تظهر هشاشة الإنسان في مواجهة الوحدة القسرية. ففي عمق هذه الشرفات، تنبثق حكايات إنسانية تنسج خيوطها من مشاعر وأحاسيس متباينة، تتمازج وتتفاعل لتشكل لوحة فنية متكاملة تلامس أعماق النفس البشرية.

يبدع الكاتب داوود في تحويل واقع الحجر الصحي إلى مادة إبداعية ثرية، ليثبت لنا أن الفن الحقيقي قادر على الازدهار حتى في أحلك الظروف. فمن خلال رصد تفاصيل الحياة اليومية في ظل الحجر، يقدم لنا الكاتب دراسة عميقة للنفس البشرية، ويسلط الضوء على قدرة الإنسان على التكيف والصمود، حتى في مواجهة أصعب التحديات.

تجسد رواية "فرصة لغرام أخير" قدرة الفن على تجاوز الواقع، وتحويله إلى تجربة جمالية ثرية تثري المشاعر وتحفز التأمل. فمن خلال هذه الرواية، يؤكد لنا الكاتب داوود على أهمية الفن في حياتنا، وقدرته على مساعدتنا على فهم أنفسنا والعالم من حولنا بشكل أفضل.

تتسلل رواية "فرصة لغرام أخير" بخطوات خافتة بين ثنايا الحجر الصحي الذي فرضه وباء كورونا، حاملة حكاية تروى همسا، كأن جدران العزل تترقب كل كلمة، حيث يسعى الكاتب جاهدا لملء الفراغ الذي خلفته تلك الهوة العميقة في العلاقات الاجتماعية، متسلحا بحس رهيف يضفي على السرد سحرا خاصا. تصبح الأحداث نافذة تطل على عمق إنساني فريد، في زمن فقد فيه الناس عفويتهم وتلقائيتهم، وتتجلى دوما مشاعر الحنين إلى الماضي.

تروى حكاية "فرصة لغرام أخير" بأربعة أصوات: ثلاثة رئيسية ورابع هامشي متطفل، حيث نطل على عزت الطبراوي من خلال شرفته خلال فترة الحجر، حيث يتلصص عبر نافذته الوحيدة للنجاة من الفراغ القاتل. تسيطر العزلة على المشهد، وتخيم على المدينة صمت ثقيل، فلا لغة تعبر عن مشاعر أبطال الحكاية سوى لغة الإشارة الصامتة.

نعاين عبر المرور بين محطات الرواية بلغتها السلسة، مغادرة زوجة عزت وعائلته إلى أستراليا في وقت يجد نفسه وحيدا في بيروت تحت إجراءات الوقاية، حيث فضاء صامت لا تواصل فيه ولا جرأة على لقاء الآخر، تقرب الجائحة بين الجيران بعد ما كانت العلاقة بينهما شبه معدومة، حيث يشتركوا في حكاية التلصص، ليجد القراء أنفسهم عالقين في قصة شبيهة بما يسمى حبا لما بعد الستين، فالمرأة على الشرفة المقابلة تتلصص بدورها على الرجل الستيني "عزت" وهي مثله عالقة، ليس بسبب ما فرضه الحجر الصحي فقط، إنما بزواجها من رجل غائب ومجهول المصير في إفريقيا إلى جانب وجودها مع أمه العجوز، والتي تجسد دور تطفل يتمثل في رصد تحركات زوجة الإبن الغائب. من غير أن نغفل عن صوت آخر، هو صوت خادمتها والتي تظهر في النص لتأدية دور محدد وهو تفسير بعض ما يحدث بين أبطال الحكاية.

تبحر بنا الرواية عبر 258 صفحة، حاملة على متنها عبء مشاعر معقدة تتأرجح بين التعقل والشعور بالذنب حيال غياب شخصيات ظلت حاضرة بظلالها على مدار الأحداث، حيث تنسج لنا خيوط قصة حب غير تقليدي، نشأت من رحم الظروف كفرصة عابرة سرعان ما تلاشت، تاركة وراءها مرارة الفقدان، فنجد الشخصيات تتصرف وكأنها لم تضيع شيئا من وصولها المتأخر إلى تلك العلاقة، محاولين تعويض ما فات من خلال التذكر المفرط لما كان.

يسيطر اليأس على أبطال الرواية تارة ويتمالكون أنفسهم تارة أخرى، عبر نصوص تلامس الروح بعمق مشاعر الإنسان المعقدة، وتغوص في ثنايا العلاقات الإنسانية المتقلبة، تاركة القارئ يتأمل في معنى الحياة والحب والفقدان في زمن غامض ومضطرب.

ونعاين على غلاف الكتاب بعض مقتطفات دالة مما يحويه النص: «أرادت أن تبلغ شيئا بوقوفها على شرفتها، مع أنها لم تنظر ناحية بنايتنا، إذ لم تشأ أن تضيف شيئا على ما قد يعنيه ظهورها بتلك الثياب. لم أعرف إن كانت لمحتني وأنا أخطو خارجا إلى الشرفة. ولا إن كانت رأتني فيما هي تنتظر، هناك في الأسفل، ارتفاع العارض الحديد للمرأب كي يتيح خروجها بسيارتها، رغم ذلك رحت أفكر أن ظهورها على الشرفة كان لي. لتخبرني أنا. وهي ظلت مبعدة نظرها عن بنايتنا لكي يظن عزت، إن رآها هو أيضا، أنها خرجت هكذا، ليس من أجل أن يراها أحد لكنني في الوقت الذي تلا راحت تخطر لي تفسيرات أخرى لظهورها ذاك. فكرت مرات أن أتصل بعزت، لعلي أفهم شيئا، لكني لم أفعل ثم خلصت إلى أن تشوشي حيال ظهورها يعود إلى اضطرابها، ربما بين علاقة توشك أن تنتهي وعلاقة على وشك أن تبدأ».

الجدير بالذكر، أن حسن داوود روائي لبناني، مواليد بيروت 1950عمل في الصحافة الأدبية في جرائد: «السفير» التي أدار تحرير ملحقها الأسبوعي، و«الحيـاة» (1988-1999)، كما في «المستقبل» التي رأس تحرير ملحقها الثقافي «نوافذ» (1999-2012)، جائزة المنتدى الثقافي اللبناني في فرنسا عن رواية "غناء البطريق"، جائزة المتوسط الإيطالية عن رواية "مئة وثمانون غروبًا"، جائزة نجيب محفوظ للرواية العربية عن رواية "لا طريق إلى الجنّة"، صدرت له مجموعات قصصية وأعمال روائية، من بينها: «بناية ماتيلد» (1983)، «غناء البطريق» (1998)، «مئة وثمانون غروبًا» (2009)، و«لا طريق إلى الجنّة» (2015)، كما صدرت له «نساء وفواكه» (2020) عن دار نوفل، وقد تُرجمت رواياته إلى لغاتٍ عدّة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved