فهيمة ثابت في مذكراتها مع سعد زغلول: رحلته إلى جبل طارق الأسوأ فى حياته.. وضعوه فى حجرة صغيرة ومنعوه عن الكلام
آخر تحديث: السبت 13 يوليه 2019 - 3:33 ص بتوقيت القاهرة
إسماعيل الأشول
كان الباشا يشترى الماء المعدنى المستورد.. ثم استعملنا حجرًا من الفحم لترشيح المياه
كان يحب السمك فى الصباح واللحوم فى الظهر والطيور بالليل فى العشاء مع الخضراوات
شكت زوجته حرارة الشمس.. فأنشد: خطرات النسيم تجرح خديه.. ولمس الحرير يدمى بنانه
كثيرة هى الكتب التى رصدت ثورة 1919 ودور زعيمها سعد زغلول، ودراما السياسة والثورة والحكومات والملك والإنجليز، غير أن الكتاب الذى بين أيدينا «الزعيم الخالد وأم المصريين فى جبل طارق»، وإن بدا صغير الحجم (نحو مائة وثلاثين صفحة من القطع الصغير)، يكشف عن جوانب ربما لم يطرقها كتاب سواه.
فبعد الإفراج عن سعد زغلول ورفاقه من مالطا، تحت ضغط الانفجار الثورى فى مارس 1919، والسماح لهم بالمشاركة فى مؤتمر الصلح بباريس الذى لم يستجب لمطالب المصريين، عادت انجلترا لنفيهم مجددًا إلى جزيرة سيشل.
وحين مرض سعد باشا زغلول فى منفاه، نقله الاحتلال الإنجليزى إلى جبل طارق، حيث مكث هناك حتى صدر قرار الإفراج عنه فى أبريل 1923.
فى السطور التالية، نطالع صورًا من حياة الزعيم، من واقع مذكرات السيدة فهيمة ثابت التى رافقت أم المصريين فى رحلتها إلى سعد زغلول بمنفاه فى جبل طارق. المذكرات خرجت إلى النور لأول مرة عام 1946، وأصدرت دار «الشروق» طبعتها الأولى منها مؤخرًا.
فهيمة هانم ثابت، هى كريمة المرحوم حسين بك ثابت رئيس محكمة أسيوط سابقا، وكانت هى وشقيقاتها فى مقدمة السيدات اللاتى تزعمن الحركة الوطنية سنة 1919.
تقول صاحبة المذكرات: رأيت وسمعت العجب العجاب من زعيمة مصر وشريكة الزعيم وهى تروى حديثها الوطنى الباهر مع اللورد اللنبى تليفونيا إذ قالت له: «إنى طلبت إليكم أن تعتقلونى مع قرينى سعد لأتولى السهر على راحته لأنه مريض (..) فلم تقبلوا ولما علمتم أن الوفد يجتمع فى بيت الأمة أرسلت تصرح لى بالسفر واللحاق به، فاعلم إذن أننى أرفض السفر، وسأقوم مقام سعد (..) وإن اعتقلتموه وأصحابه أعضاء الوفد ظلمًا وعدوانًا فسيقوم مقامه كل مصرى، وستتلوه الوفود من أبناء الأمة حتى آخر فلاح مصرى يلبس الجلباب الأزرق».
قادت أم المصريين، والكلام لفهيمة ثابت، الحركة الوطنية بإيمان وثقة مدة إقامتها فى مصر، ولما نقلوا الزعيم من سيشل إلى جبل طارق وهو معتل الصحة أرسل إليها برقية للشخوص إليه، فلبت نداء الواجب كرغبته، وأزمعت المسير إليه فسافرت فى الحادى والعشرين من سبتمبر سنة 1922.
شعرت أم المصريين بمسيس الحاجة إلى أن تصحبها فى رحلتها مصرية مخلصة، وتقدمت حرم اللوزى بك وحرم أمين بك يوسف، وكثيرات غيرهما، إلا أن أم المصريين شكرت الجميع وقالت: «لا أحب أن تبتعد سيدة عن قرينها، وضميرى لا يرتاح لذلك».
كان موقف أم المصريين دافعًا لفهيمة ثابت لتعود إلى مشاورة أسرتها فى مرافقتها إلى جبل طارق، فأجابوا بالموافقة، فأوفدت شقيقتها تبلغ أم المصريين برغبتها، وأقنعتها بأنها ستترك نجليها فى رعاية عميهما وخالتيهما، فتقبلت صفية زغلول ذلك قبولًا حسنا.
وصفت فهيمة ثابت فى مذكراتها المعتقل الذى احتجز فيه سعد زغلول، قائلة: «بعد بضع خطوات من الباب الكبير تجد ممشى حلزونيا ينحدر من أعلى إلى أسفل حتى أن الواقف على باب المعتقل يرى من فى المنزل أو داخله كأن أمامه بئرا عميقة».
«.. والمنزل مبنى فى الطرف المنخفض المطل على الوادى الموصل إلى البحر، ومن الجهة الغربية للشارع فإذا رفعت الرأس ترى الباب فقط، ولا يمكن للرائى أن يرى الشارع (..) ودائما على يمينك الجبل وعلى يسارك البحر».
أما عن جو المكان وظروف العيش فتقول: «.. أما الباشا فكان يشرب الماء المعدنى المستورد من أوروبا كفيشى وافيان وفيتيل، وكل منا يشرب ما يستسيغه من المياه المعدنية، ولكنى شخصيا فضلت ماء المطر على أى ماء معدنى فأبديت رغبتى أمام معالى الباشا فى غلى الماء وتقطيره بواسطة مرشح فاستحسن رأيى، وقمنا فى الحال إلى السوق لنشترى المرشح فلم نجد الجهاز المطلوب، وأخيرًا وجدنا حجرًا أسود من الفحم على الطراز القديم فكنا نصب الماء على الحجر فيخرج من الجهة الأخرى مرشحا تمامًا كالفضة فاستعملناه دائما، فخفف مضايقتنا من الماء وأبطل الباشا المياه المعدنية وكان مسرورًا بذلك مدة إقامتنا فى جبل طارق، وكانت ستة شهور وثلاثة أيام».
أسوأ رحلة
«أخبرنا عن رحلته (إلى جبل طارق) فى البحر بأنها كانت أسوأ رحلة قام بها فى حياته، إذ وضعوه فى حجرة صغيرة جدا غير مريحة وأغلقوا عليه الباب والنافذة ولم يسمحوا له بالرياضة فوق سطح الباخرة ولا بالتكلم مع أحد، ووضعوا حرسا مسلحًا على بابه حتى مرض».
وبعد أيام قليلة من استقرار ثابت مع أم المصريين رفقة الزعيم، آلت إدارة أمور البيت (المعتقل) بالمنفى إلى صاحبة المذكرات التى بين أيدينا، بل إن سعد زغلول استودعها «مبلغ ألف جنيه أوراقا مالية، وقال لى: لا تضعيه فى الدولاب، أو فى أى مكان، فإنى أريد أن تحتفظى بهذا المبلغ حتى إذا طلبته منك فى أى وقت أو فى الخارج يكون حاضرا بيدك، أفهمت يا فهيمة؟ قلت نعم، وضحكنا جميعا».
الكتاب الذى يتضمن نصوص مراسلات وبرقيات من وإلى سعد زغلول بالمنفى، يحوى كذلك مواقف إنسانية شتى، منها على سبيل المثال ما تورده المؤلفة تحت تاريخ الرابع من يناير عام 1923 فتقول: ذهبنا إلى الرياضة المعتادة وهناك تحدثنا فى السياسة قليلا، وانتقلنا إلى العلم والقرآن فقلت: لو كنت من الأغنياء لأنشأت جامعة للفتيات، ومعهدا للسيدات (..) فقال الباشا: يجب أن تتعلم المرأة كل شيء، وكلما تعلمت المرأة أنجبت أولادًا متعلمين، وكلما كان الرجل كامل التربية كان الوطن متقدمًا».
ثم قالت أم المصريين: هل تحفظ القرآن يا سعد إلى الآن ولم تنسه؟ فقال لها: «إننى أحفظه وأجوّده وأعرف تفسيره».
ومن مواقف بعض أيام الشهر نفسه (5 و6 و7 يناير 1923)، تروى كيف كان زعيم المصريين ودودًا وصاحب شخصية مثقفة من طراز رفيع، فكان يعلق على ما يراه بالشعر حينًا وبالأقوال المأثورة حينًا آخر، كعبارته: البر شيء هيّن وجه طليق وكلام ليّن. وكان معاليه قد ذكرها فى مناسبة حسن معاملتها للناس، بحسب الكتاب.
أما عن عادات الزعيم الراحل مع الطعام، فتحت تاريخ 27 يناير 1923 تقول فهيمة ثابت: فى الغداء قال لى الباشا مبتسما: «يجب أن يكون لنا قائمة طعام وتجعلى لكل يوم طبقا معروفا منا جميعا»، وابتدأ يسرد أسماء الأطباق، وقال: تذكرا معى ولنتناقش فيه فإن وافقتما على طبق بالأغلبية نكتبه، والذى لا يبدى رأيه فيه لا يأكل منه».
وتواصل: ضحكنا، وقلت لمعاليه أنا من الآن رأيى من رأيكما، وسآكل مما تأكلانه، فسر الباشا وقال: هذا لكى تخلصى، لا، عليك أنت بوضع القائمة على أيام الأسبوع، واعرضيها علينا ونحن نغير ونبدل فيها»، وفى المساء حررتها حسب رغبته وراعيت فيها الموافقة بالأغلبية فسر جدا، وقال: الآن سنضمن كل يوم لونًا جديدًا على الأقل.
وتعلق قائلة: وكان يحب السمك فى الصباح واللحوم فى الظهر، والطيور بالليل فى العشاء مع جميع الخضراوات، وأما خبزه فكان من بسكوت النخالة أو الخبز الأسمر من النخالة الناعمة، وحلوه الفواكه المطبوخة والفطائر الخفيفة ومن الحلوى أنواع كثيرة، و«الاجبسيان» خصوصا.
«كل شيء هيّن»
وفى التاسع والعشرين من يناير 1923 سجلت فهيمة ثابت فى مذكراتها: صادفنا ساعى البريد فتناول الباشا مظروفا بداخله عدة خطابات، فسأله من أين هذا ومن الذى اجترأ على فض غلافه؟ فقال الرجل: جئت به من البوليس. فتأثر الباشا وثار على هذا الظلم والاستبداد وعلى ما يحيط به من معاملة تدل على الإساءة فهدأت خاطره أم المصريين قائلة: «يا سعد هوّن على نفسك، وانظر إلى من هم الآن بين ظلمات السجون، إنهم مظلومون أكثر منا، بعضهم فى المعتقلات البعيدة وبعضهم فى مصر ولكن أحدهم لا يستطيع أن يرى زوجه وأولاده إلا مقدار ربع ساعة وهو فى رقابة حرس السجن، أما نحن ولله الحمد فأحسن بكثير وإذا كانت أرواحنا معذبة لانعدام الحرية المطلقة، فهذه تضحية فى سبيل الوطن»، فقال: «نعم كل شيء هين فى سبيل الوطن».
السعادة لمن يطغى..؟
كما كتبت صاحبة المذكرات: قلت للباشا: أريد أن أسأل معاليك لماذا يعطى الله السعادة لمن يطغى والشقاء لمن يعمل الحسنات؟ فرد على ضاحكا وقال: مثل من؟ فقلت له: مثل الإنجليز، يحتلون الشعوب ويظلمونها وقد طغوا فى الدنيا والشمس لا تغرب عن ممتلكاتهم فألفوا أكبر دولة، فقال لى الباشا: «إن الله سبحانه وتعالى له فى خلقه شئون».
ولم يحل زحام المشكلات فى رأس الزعيم الراحل دون أن يغازل أم المصريين فى رقة بين الحين والآخر، حيث تذكر فهيمة ثابت فى مطلع فبراير من عام 1923، أن الشمس الساطعة داعبت وجه أم المصريين فقالت: انظر يا سعد جلد وجهى لم يعد يحتمل شعاع الشمس وفى الحال يتأثر وجلد إصبعى جرح من خيط حريرى فقال لها: إذن أنت التى عناها الشاعر بقوله: «خطرات النسيم تجرح خديه.. ولمس الحرير يدمى بنانه» (..) وأخذ يحفظها هذا البيت ويكرره.
لو كنت أنجبت ولدًا
السادس من فبراير هو تاريخ زواج سعد باشا زغلول بقرينته، وفى ذلك التاريخ يورد الكتاب ما دار بين صاحبته وبين أم المصريين: قالت لى: «اليوم هو تاريخ زواجنا، وقد مضى سبعة وعشرون عامًا عليه. فى مثل هذا اليوم بمصر كنا نجدده كل سنة بفرح، يجتمع فيه كل أقاربى وأحبابى، فلو كنت أنجبت ولدًا لكان الآن ستة وعشرين عامًا وتأسفت»، فقلت لها «إن الأمة المصرية كلها أولادكم».
الإفراج عن الباشا
فى العاشرة من صباح السبت 29 مارس 1923، وردت برقية للبنك تحمل نبأ الإفراج عن الباشا، فأرسل المدير يبشره فلم نلاحظ عليه شيئًا، وكان متماسك القوة لما وصله النبأ ولو أن وقعه كان غير منتظر، وفى المساء جاءت برقية من كامل بك سكرتير الوفد المصرى يهنئ الباشا بالإفراج وذهابه إلى فيشى ويتمنى له صحة جيدة.
وتواصل صاحبة الكتاب رواية يومياتها تحت تاريخ الأول من أبريل 1923: شعرت بحركة بسيطة بالحديقة فنهضت واقفة أنظر من النافذة فوجدته الطبيب الخاص فالتفت للباشا وقلت: قد ورد الإفراج الرسمى على يد الطبيب (...).
وتضيف: قبيل سفرنا إلى مصر (...) قلت أحقا يا عمى سنعود إلى مصر، فقال: نعم إن شاء الله. ترغبين شيئا تذكارًا منا لمعاشرتك لنا مدة هذه السنة؟ فقلت: نعم، أريد تذكارًا هو عندى أثمن من الجواهر وهو صورتكما (...)، وهذا ما كتبه لى سعد باشا على صورته: «تذكار أيام صرفتها معنا السيدة النبيلة فهيمة هانم ثابت فى صدق ووفاء»، 8 سبتمبر 1923 – سعد زغلول.