نبيل نعوم يكتب: أصيلة.. الوداع محمد بن عيسى

آخر تحديث: الجمعة 14 مارس 2025 - 7:41 م بتوقيت القاهرة

 يعرف العديد من المثقفين والكتاب والفنانين فى مصر وفى البلاد العربية ومن حول العالم بأكمله، هذا الاسم وهذه المدينة الصغيرة الساحرة فى غرب المغرب والواقعة على بعد 20 كم جنوب مدينة طنجة المعروفة. ويعود الفضل إلى شهرة هذه المدينة إلى ابن أصيلة الراحل محمد بن عيسى (1937-2025) المثقف والفنان والسياسى المغربى ورجل الدولة الذى شغل عدة مناصب مهمة منها سفير للمملكة المغربية فى الولايات المتحدة الأمريكية من 1993 إلى 1999، ثم وزير للخارجية من 1999 إلى 2007. وهو صاحب الرؤية التى جعلت من أصيلة بسبب موسمها الصيفى ملتقى لاستضافة المثقفين والعلماء والكتاب والفنانين من أنحاء العالم للمشاركة فى أحد أنجح المواسم الثقافية، وأيضا الاستمتاع بتلك المدينة الخلابة وبمنازل المدينة القديمة بواجهاتها البيضاء وجدرانها التى يقوم الفنانون المدعوون بتزيينها برسوماتهم كل عام للتحول المدينة إلى متحف مفتوح يطل على المحيط الأطلسى، وأيضا بكرم المضيف المرحوم بن عيسى الذى غادرنا فى نهاية فبراير الماضى عن عمر ناهز واحد وتسعين سنة.

وُلد محمد بن عيسى بمدينة أصيلة، فى 3 يناير 1937م. أعرب منذ صغر سنه عن ولعه بالثقافة ومجال الاتصال، وفى عمر السادسة عشر انتقل إلى مصر لدراسة الصحافة.

فى عام 1961، حاز على منحة لمتابعة دراسته فى الولايات المتحدة الأمريكية فحصل على بكالوريوس فى الصحافة من جامعة مينيسوتا، التى منحته فيما بعد دكتوراه فخرية فى القانون فى 4 ديسمبر 2007، لإنجازاته فى سلك الخدمة العامة.

بدأ محمد بن عيسى عمله ملحقا إعلاميا فى البعثة المغربية الدائمة إلى الأمم المتحدة. وبجانب عمله مبعوثا إلى الأمم المتحدة، أجرى دراسات عن مناطق مختلفة فى إفريقيا لتقييم ظروفها التنموية والبيئية، وأسهم فى البحث عن حلول طويلة الأمد لتحسين الظروف المعيشية فيها. عام 1976، عاد إلى المغرب ورأس إدارة جريدة تصدر باللغتين العربية والفرنسية، وأصبح عضو المجلس البلدى، ثم انتُخب نائبا فى البرلمان المغربى ممثلا مدينته أصيلة. وقد كان هذا الترشيح الخطوة الأولى فى مسئوليات سياسية ذات أهمية.

شغل محمد بن عيسى منصب رئيس بلدية مدينة أصيلة، والأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة، وسبق له أن عمل مسئول معلومات فى مقر الأمم المتحدة فى نيويورك وأديس أبابا فى منتصف الستينيات. وتقلد مناصب فى روما وغانا منها مدير للمعلومات فى منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة.

فى سنة 1977، انتُخب نائبا فى البرلمان. وفيما بين عامى 1985 و1992 تولى منصب وزير الثقافة.

وحصل المرحوم محمد بن عيسى على العديد من الجوائز منها:

وسام العرش من درجة ضابط، عام 1993، ومن درجة ضابط كبير، عام 2008. جائزة آغا خان للهندسة المعمارية، فى سويسرا، عام 1998، عن مشروع التنمية الحضرية لمدينة أصيلة. جائزة الشيخ زايد للكتاب، جائزة أفضل شخصية ثقافية للدورة الثانية 2007- 2008. جائزة بطرس غالى، من مصر، فى مجال الدبلوماسية والسلام.

أما عن علاقتى بمدينة أصيلة المستمرة من عام 2001 إلى عام 2018، فبدأت بدعوتى سنة 2001 إلى منتدى أصيلة تحت رعاية المرحومين محمد بن عيسى والفنان محمد المليحى بتوصية من الفنان مدير متحف معهد العالم العربى السابق الأستاذ إبراهيم العلوى، وذلك للمساهمة بتقديم مداخلتى عن فن التصوير التجريدى المغربى فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى، وخاصة أعمال رواد تلك الحركة فى المغرب مثل أحمد الشرقاوى الذى استفاد من التراث التقليدى المغربى والأمازيرى من الطلاسم والعلامات والوشوم والحروف العربية فى لوحاته التجريدية، وأيضا الجيلالى الغرباوى الذى ولع بالخطوط والفراغ والألوان متراكمة الطبقات.

وما زلت أذكر دعوة الراحل محمد بن عيسى لجميع المدعوين للمنتدى فى ذلك العام إلى حفل استقبال وعشاء بمنزله الرائـع، حيث ذخرت الموائد بعشرات الأطباق الشهية من المطعم المغربى شديد الثراء. كما أذكر فى تلك الزيارة الأولى لى للمغرب مقابلتى لأحد أصدقائى المغاربة من باريس حيث دعانى فى إحدى الليالى إلى مقهى خارج سور المدينة القديمة والمعروفة بمقهى النخلتين لموقعها المواجه لنخلتين، وكانت الدعوة لشرب الشاى بالنعناع والاستماع بالدور الثانى من المقهى إلى فرقة هواة من المدينة يسهرون بها للغناء وإنشاد التواشيح الأندلسية. كان صديقى يعزف الناى وكانت سهرة رائعة مليئة بالسرور والشجن بسبب ألحان وكلمات هذه التواشيح القديمة التى تعيد إلى المخيلة أيام الأندلس وتاريخه. ولأن الوقت تقدم فى الليل، عند نهاية السهرة تطوع أحد العازفين بمرافقتى إلى مكان إقامتى داخل المدينة القديمة بقصر الضيافة لقلة معرفتى بشوارع المدينة. وأذكر أنه بالقرب من مكان إقامتى وأثناء توديع مرافقى، سمعت من ينادينى باسمى، وكان رحمه الله محمد بن عيسى الذى كان يمر بالقرب منى وسألنى إن كنت فى أمان تخوفا إن كان هناك من يضايقنى. شكرته بشدة وطمأنته بأن الرجل الذى يحدثنى تطوع بتوصيلى. تعجبت حينها من مدى كرم وحسن ضيافة هذا الرجل الهام، وكيف مع تعدد الزوار كان بمقدرته كسياسى قدير أن يتذكر اسمى.

وأذكر أيضا اللحظات السعيدة التى قضيتها بتعرفى فى تلك الرحلة الأولى للمغرب على الكاتب السودانى الكبير الطيب صالح، وأيقونة الأدب المغربى الكاتب محمد شكرى، والفنان الحفار السودانى العالمى محمد عمر خليل، وغيرهم من الكتاب والفنانين.

المغرب كم هو رائع هذا البلد.

وكما يقول الشاعر المصرى أحمد الشهاوى:

الشمس فى مذهبى تنام على كف المغرب، وتشرق منها، ولا تغرب بعدها أبدا.  

 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved