غسان كنفانى يكتب ثلاث حكايات بلا نهاية عن النضال الفلسطينى

آخر تحديث: الجمعة 14 مارس 2025 - 8:49 م بتوقيت القاهرة

إيمان صبرى خفاجة:

ألف غسان كنفانى الكاتب والصحفى الفلسطينى الأشهر 18 كتابا تضم العديد من المقالات السياسية والثقافية التى كانت تدور دائما حول القضية الفلسطينية، وقد جمعت هذه الأعمال بالإضافة إلى الروايات فى مجلد واحد وترجمت إلى 20 لغة حول العالم لتظل كلماته تدوى فى فضاء العالم حتى الآن.

آخر هذه الأعمال كانت ثلاث أعمال روائية غير مكتملة، كان قد شرع فى كتابتها ولم يمهله القدر حتى يكتب نهاياتها، جمعت هذه القصص فى كتاب واحد بعنوان «العاشق».

وكأن القدر شاء أن يوافق فكرة غسان وخط سير حياته حتى النهاية، فقد رحل كنفانى والقضية ما زالت دون حل قاطع كما عاش وأراد حتى لحظته الأخيرة، بل كان اغتياله بهدف أن تهدأ القضية أو لعل أصحابها يخشون القتل فيتبعون الصمت منهاجا، كما جاءت القصص مشتعلة بالأحداث والنضال الذى لم ينتهي، وذلك ما سوف نكتشفه من خلال قراءتنا خلال الأسطر التالية لهذه الروايات الثلاث فى نسختها الصادرة عن منشورات الرمال.

العاشق.. حكاية الثورة

تبدأ الحكاية من مدينة ترشيحا حيث يقف قاسم بين الخيل حائرا أين يذهب والمدينة بل الوطن بأكمله محاصر من الإنجليز الذين ينهبون الأرض ويخدشون الصخور بحثا عن الثوار، وقد كان هو واحد منهم بل كان أبرزهم، وزادته الأقدار شرف بالخصومة مع الضابط الإنجليزى الكابتن بلاك الذى استطاع عبدالكريم الفكاك من قبضته ليكمل نضاله فى مكان آخر فى حادثة شهيرة شهودها العيان أهل مدينة عكا وصخورها وخيولها أيضا ومن تلك الحادثة تحول من عبدالكريم إلى قاسم.

لم يفقد الكابتن بلاك الأمل فى أن يجد عبدالكريم يوما ماثلا أمامه ليقتله بيده بعد أن يلقى به بين أسوار السجن ويشفى غليله منه الذى استمر لأشهر طويلة كللته بالعار من قبل دولته، فكيف يستطيع فتى فلسطينى أن يتخلص من قبضته المسلحة؟! فى هذا الجزء يلقى غسان بذكاء المناضل والروائى الضوء على نقطة مهمة، وهى أن المغتصب لا ينسى ثأره حين يهرب منه المناضل، فكيف يطالبون الثوار من أصحاب الأرض ورجال المقاومة أن ينسوا قضيتهم؟! بل ظلوا لسنوات يعملون على إخماد ثورة الشعب الفلسطينى والقضاء بل واقتلاع بذرة المقاومة فيهم فلا يستطيعون، فتعود جذوة الثورة لتشتعل من جديد والبذرة تطرح أجيال جديدة أكثر صلابة ويقين بالنصر من سابقيهم ولعل ما نشهده منذ أشهر طويلة فى غزة خير شاهد على ذلك.

برقوق نيسان.. تاريخ المقاومة

فى هذه القصة يضعنا غسان أمام حقبة مهمة من تاريخ المقاومة الفلسطينية التى طالما تعرض أصحابها ومن ثم أهاليهم للتضييق إلى حد عزوفهم عن الاعتراف بهوية أبنائهم من الشهداء حين كانت قوات الجيش الإسرائيلى تستدعيهم للتعرف عليهم، ففى ذلك فرصة للتنكيل بهم وحرمانهم من دفن أبنائهم، لكن هل استسلمت المقاومة ورجالها لذلك؟! وكيف تحايل الأهل والأصدقاء على هذه الألاعيب؟! تكمن الإجابة فى حكاية أبو القاسم، ذلك الرجل الكهل الذى يحمل باقة من ورود البرقوق إلى سعاد، واحدة من سيدات المقاومة التى كان ضمن دورها التواصل مع أهل الفدائيين وصرف رواتب لهم ورعاية من أستشهد زويهم وتركوهم بلا سند ولا رعاية تحت بطش قبضة الاحتلال التى تتبعهم أينما ذهبوا، فهم يعلمون أكثر منا أن بذرة المقاومة لا تموت، والعائلة التى تقدم اليوم شهيد، تقدم غدا مئات المناضلين ومن ثم الشهداء.

فى واحدة من زيارات أبى القاسم لسعاد يصدم برجال الجيش الإسرائيلى يسيطرون على منزلها، ويضعون الكمائن والفخاخ لكل من يطرق باب شقتها حتى من أهل الحى، وإذا بمن يعرف حقيقة نشاطها ومن لا يعرفه يتحدون فى حمايتها وإنكار كل التهم التى توجه إليها وتعطيل القوات الإسرائيلية حتى تستطيع هى الفرار إلى مدينة أخرى تكمل فيها نضالها الذى بدأ ولم يتوقف.

بين حكاية العاشق وبرقوق نيسان لا يخلق غسان فارقا فى الموضوعات التى يسلط الضوء عليها فقط، بل يحدث طفرة أخرى فى أسلوب سرد الحكايات تحول إلى أبرز أبطالها، ففى حكاية العاشق كان أسلوب السرد المتعدد الرواة هو البطل الأساسى، وتتجلى قوته فى أنك تلمح ثلاثة أشخاص يتحدثون عن نفس المشهد فى صفحة واحدة دون أن ينوه الكاتب قبل أن تبدأ الفقرات السردية بذلك، بل أنت من يتعرف على هوية من يتحدث من خلال المحتوى ووجهة النظر التى يتبناها الراوى.

أما فى برقوق نيسان تتجلى البطولة السردية فى الهوامش التى زينت صفحات الحكاية بالعديد من المعلومات التى صيغت بأسلوب قصصى، فحين تتبع هذه الهوامش تتحول هى الأخرى إلى حكاية منفصلة بذاتها عن الحكاية الأصلية لكنها تثريها وتضيف إليها، فالحكايات الفلسطينية أوجه مختلفة لعملة واحدة.

الأعمى والأطرش.. معاناة يومية

يسلط الكاتب من خلال حكاية عامر وأبوقيس أبناء طيرة حيفا الذين لم يلتق أى منهم بالآخر إلا فى المخيمات، على دور وكالات الغوث الدولية المعنية بشئون اللاجئين والتى عاش المواطن الفلسطينى تحت رحمتها لسنوات فى معاناة بعيدة كل البعد عن الأهداف التى تتبناها تلك الوكالات ومن يدعمونها.

يعانى كل من عامر وأبوالقيس من فقدان حاسة من حواسهم، عاش كل منهما يحاول الشفاء من هذا الفقد واستعادة هذه الحواس دون طائل بالرغم من طرقهم كل الأبواب التى كان آخرها زيارة قبر أحد الأولياء الذين ذاع سيطهم وشهرتهم بالقدرة على شفاء الناس، ولكن هل هناك دواء لمن فقد وطن فودع الأمان إلى الأبد؟!

يستطيع عامر وأبو القاسم أن يكشفون زيف هذا الولى، وأن الناس يروجون لكرامات ولى ليس له وجود من الأساس، ولكن هل يصدقهم أحد؟! وهذا السؤال ما حال بينهم وبين الإعلان عن زيف هذا الولى.

لكنك حين تمعن النظر تكتشف أن رد الفعل العنيف من الناس ما هو إلا نتاج ضعف وقلة حيلة، فما هو سلاحهم فى مقابل الخذلان المتتالى من العالم حولهم سوى الإيمان بالمعجزة حتى وإن كانت أصولها مبنية على الخرافة؟! ألم يقل شاعرنا عبد الرحمن الأبنودى أنه لا حيلة للمحتاج غير أنه يقعد مستنى، يا تنفك الضيقة، يا يموت وتموت حوجته معاه! وهكذا كانت الأسر الفلسطينية فى مواجهة اللجوء لكنهم لا يستطيعون الجلوس هكذا ومواجهة المعاناة اليومية فى طوابير تحصيل الماء والغذاء ومواسم الحصول على الكساء فى صمت، لابد أن يكون هناك أمل فكان أملهم ذلك الولى وشجرته ومعجزة لم تحدث ولكنهم ينتظرونها.

لكن غسان لم ينس أن يسلط الضوء على أن للخرافة أتباعا يحمونها كى يظل الناس عبيدا لها وهذه علة أوطاننا. كما جاء بعنوان الحكاية للتدليل على أن الحق الفلسطينى والقضية واضحة إلى حد أنها لا تحتاج إلى سمع أو بصر، فحين يدعى البعض خاصة الحكومات والهيئات العالمية أنها لا تسمع ولا تبصر، فهل يستطيعون إنكار الإحساس بما يعانيه شعبنا يوميا؟! للأسف يخبرنا الأمر الواقع الآن أنهم استطاعوا لكن الشعب الفلسطينى لم يمل النضال.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved