فاروق شوشة.. الباحث عن الجمال في اللغة والحياة

آخر تحديث: الجمعة 14 أكتوبر 2016 - 11:55 ص بتوقيت القاهرة

أ ش أ

بوفاة الشاعر الكبير فاروق شوشة، فجر الجمعة، عن عمر يناهز ال80 عاما، يحق للشعر أن يبكي أحد مبدعيه الكبار ويحق للغة أن تنتحب لرحيل "صاحب لغتنا الجميلة".

وعندما فاز هذا العام بأهم جائزة ثقافية مصرية في الآداب وهي «جائزة النيل» قيل بحق أن الجائزة الكبرى قد عرفت طريقها لمبدع حلق في سماء الإبداع المصري والعربي على مدى اكثر من نصف قرن فيما تكشف الجولة المتمعنة في مسيرته الثرية عن رؤى هامة في قضايا الشعر واللغة والنقد ونظرات متبصرة في سياقات التاريخ الثقافي وولع بالجمال يقابله عداء طبيعي للقبح.

وفاروق شوشة بصوته العذب الحنون هو أيضا الإعلامي المتفرد والذي استخدم الاعلام كمنصة إبداعية لصالح "اللغة الجميلة" وكأنه الضوء الجميل ينساب بين الناس مبشرا بالجمال ومدافعا عن كبرياء القصيدة بقدر ما يبحث دوما عن "الجمال في الإنسان والطبيعة والفن والحياة".

وواقع الحال أن أي جولة متمهلة بعض الشيء في عالم فاروق شوشة- الذي سيبقى متوهجا رغم رحيله عن الحياة الدنيا- كفيلة بمتع ولذائذ متنوعة ومتعددة فضلا عن كثير من الدروس والقيم وفي مقدمتها قيمة الاخلاص للابداع والاخلاص كاعلامي للوطن والشعب .

وابن قرية الشعراء في محافظة دمياط كان من المؤمنين بأهمية الدور الثقافي المصري في المحيط الإقليمي وعلى امتداد الأمة العربية والناطقين بلغة الضاد، ومن ثم ففاروق شوشة هو صاحب الدعوة المخلصة لاستعادة مجد مصر الثقافي والابداعي.

وإذ تتحرك مصر لتحقيق "العدالة الثقافية" فإن فاروق شوشة عرف كأحد ابرز المثقفين الذين سعوا لطرح وتطوير مبادرات تستهدف مواجهة "حالة الحرمان والتهميش الثقافي" في بعض المناطق خاصة بالريف وتجسير الفجوة بين الرؤى النظرية والمستويات الادائية مع عدم الانفصال واقعيا عن السياقات الاجتماعية والثقافية.

و طرح الإذاعي والشاعر الكبير فاروق شوشة قبل فترة من وفاته فكرة جديدة هي «أكشاك الثقافة»، التي ينبغي أن تقام في كل قرية ونجع لتلبي الاحتياجات الثقافية لملايين المصريين، موضحًا أن هذه الأكشاك يمكن أن تكون في صورة مكتبات متنقلة وتقدم أيضا عروضا سينمائية ومسرحية وأنشطة فنية موسيقية وغنائية.

وفي هذا السياق، قال فاروق شوشة: "آن الأوان لكي نحلم بثقافة تمشي على الأرض تلامس الواقع وتشتبك معه بدلا من ثقافة المزاعم والرؤى والتصورات التي تندثر عادة بالكلمات الكبيرة البراقة"، معتبرا أن الواقع على مستوى الاحتياجات والامكانات يتطلب "ثقافة تمشي على قدمين ولاتحلق في الهواء" وهي "ثقافة مغروزة في طين مصر الذي يعيش فيه وعليه الملايين من ابناء الوطن في القرى والعزب والكفور والنجوع".

وفاروق شوشة صاحب "أحلى 20 قصيدة حب"، ولد في مطلع عام 1936 بقرية الشعراء بمحافظة دمياط ودرس بمدارس هذه المحافظة الواقعة بدلتا مصر حتى نهاية المرحلة الثانوية ليلتحق بكلية دار العلوم في جامعة القاهرة ويتخرج منها عام 1956 ونال في العام التالي دبلوم من كلية التربية بجامعة عين شمس فيما التحق بالإذاعة المصرية عام 1958 حتى اصبح رئيسا لها عام 1994.

وفي الإبداع الشعري، يقول فاروق شوشة إنه يترك نفسه على سجيتها وما يأتيه يلتقطه ويحرص على ألا يضيع "لأنه كالبرق الخاطف "الذي يفاجئه في الطريق أو في العمل وإذا لم يسرع إلى التقاطه ينتهي بلا عودة. فيما رأى ان "لكل مرحلة من العمر تجلياتها وأسلوب الاستجابة لها ومايناسبها من الكلام".

ويبقى اسم الشاعر والإعلامي الكبير فاروق شوشة مقترنا بأروع وأشهر البرامج الإذاعية والتليفزيونية ذات المضمون الثقافي وفي طليعتها «لغتنا الجميلة»، و«أمسية ثقافية»، حيث شغل خلال مسيرته الثرية مناصب هامة في الأبنية والكيانات الثقافية المصرية من بينها رئيس اتحاد كتاب مصر ورئيس جمعية المؤلفين والملحنين كما شغل منصب الأمين العام لمجمع اللغة العربية في القاهرة والمعروف «بمجمع الخالدين».

وهذا الشاعر المغرد بكل ماهو جميل والذي قام أيضا تدريس الأدب العربي بالجامعة الأمريكية في القاهرة دفعته غيرته على جماليات الشعر العربي للمطالبة "بطرد البغاث وكل الهوام من الساحة الشعرية" دون أن يعني ذلك إغفاله لضرورة وسنن التطور بحكم متغيرات الزمن و"المخاض الابداعي المتجدد".

وهكذا أقر فاروق شوشة في كتاباته وحواراته بأن حركة الشعر الجديد هزت القصيدة العمودية بعنف، معتبرا أن "شعر التفعيلة فتح بابا لقصيدة النثر التي جاءت كرد فعل لعدم احكام الكثير من نماذج الشعر الحر"، مضيفا: "أصبحنا نرى الكثير من مطولات الشعر الحر وقد فقدت معالمها كقصائد ولم تعد لها بدايات ونهايات اي انها تخلت عن فكرة الاحكام الفني الذي يضبط كل شييء بميزان شديد الدقة".

ومن هنا نزع فاروق شوشة "شرعية الشعر عن قصيدة النثر لأنها تخلت عن الموسيقية في الشعر"، موضحا أن "الخيط الأساسي في أي بناء شعري هو خيط موسيقي"، وهو كما يقول "لا يضاف ولكن به يولد الكلام الشعري كما انه جزء من تكوين القصيدة وحاضر في جيناتها".

ورأى فاروق شوشة أنه بدون "هذه الجينات الموسيقية في العمل الشعري لا يكون الشعر شعرا"، لذا فإنه أوضح أن من يبدعون قصيدة النثر وخاصة في الجيل الرائد أمثال محمد الماغوظ وأنسي الحاج أو ادونيس "كتبوا لنا كلاما جميلا نستمتع به على أنه إبداع جميل باللغة في صورتها النثرية عندما يصبح النثر عملا فنيا جميلا" غير أن هذا الجمال الذي قد يفوق أحيانا الكثير من الإبداعات الشعرية المتعارف عليها لا يعني إضفاء صفة القصيدة الشاعرة على النثر مهما بلغ جماله.

وتجلى حنين فاروق شوشة وانحيازه للشعر العمودي في كلمات تنساب بصدق: "أحس أن هناك جيشانا في داخلي يطمح إلى كبرياء القصيدة العمودية واسميه كبرياء لأن القصيدة العمودية في وجداني كانت تعني الشموخ والهيبة والكبرياء والسلطة الشعرية والاحكام".

وأضاف فاروق قائلا: "الآن لا أجد هذه الأشياء التي كانت تجعلني استشعر الزهو.. هذا هو شعر أمتي.. هذا هو إبداع لغتي وليس هذه الكتابات المهمشة التي يوحي إلى الكثير منها أنها مترجمة وأنها خلت من الوتر أو خيط الأمومة الشعري الذي لا يرى والذي يربط الشعر الراهن بأبيه وجده".

وبلهجة لا تخلو من سخرية حيال الدعوات المفرطة لما يسمى بالقطيعة الشعرية مع الماضي والموروث، قال فاروق شوشة: "الذين يتكلمون عن قطيعة شعرية واهمون" فيما يتساءل: "قطيعة مع ماذا؟! ماذا صنعت ليكون لك قطيعة معه؟! أنت تتمرد على اللغة فما هي اللغة التي امتسبتها لتتمرد عليها ؟! أنت تريد أن تفجر وتهشم فمال الذي بين يديك؟! ما هو الموروث الشعري الذي تعرفت على جمالياته؟!"

وفي الوقت ذاته كان فاروق شوشة يؤكد دوما على "أهمية التواصل بين المبدعين الحقيقيين" و"قراءة الآخر" ومن ثم "معرفة الآخر"، مشددا على أن الشعراء الشباب الذين يمتلكون أدوات الإبداع الحقيقي بما في ذلك القدرة الواثقة في كتابة القصيدة العمودية "يشكلون مصدر الخطورة على هؤلاء الذين لا يملكون لغتهم".

كما اعتبر الشاعر الكبير فاروق شوشة هذا الفصيل من الشعراء الشباب الذين عرفوا لغتهم وجمالياتها بمثابة الدليل على إمكانية التطور من داخل الشجرة الشعرية العربية الأصيلة، "فهم يقدمون الكيمياء الشعرية الجديدة في بناء شعري راسخ اعتادته ذائقة الناس".

ولأنه عاشق كبير للغة العربية فالشعر عند فاروق شوشة "فن لغوي"، ولأنه صاحب عين راصدة لتفاصيل المشهد الإبداعي المصري فإنه اهتم للغاية بشعر العامية وذلك خلافا لما يتصوره البعض عن "فاروق شوشة صاحب لغتنا الجميلة والأمين العام لمجمع اللغة العربية".

بل أنه باح بأن اعجابه بشعر العامية يرجع لأيام طفولته في قرية الشعراء حيث اول شعر استمع اليه كان الشعر الذي ينشده شاعر الربابة وهو يروي السيرة الهلالية ليولد معنى الشعر في وجدان الصبي الصغير مصحوبا بالنغم ومنشدا بالعامية حتى كبر فاكتشف أن قصائد أمير الشعراء أحمد شوقي للملحن والمطرب الموسيقار محمد عبد الوهاب تنافس في جمالياتها بعض قصائده الفصيحة.

فكأن "عامية أحمد شوقي" أيقظت الفتى فاروق شوشة على جمال العامية ثم عرف قصائد العامية لبيرم التونسي فأذهلته ثم كبر أكثر ليعرف أن أول زجال في تاريخ الأدب العربي، وهو الأندلسي «ابن قزمان» هو جد كل من يكتبون بالعامية في الشعر العربي وادرك ان للعامية جذورا بعيدة في الموروث الشعري العربي.

والعامية التي يكتب بها الفن هي "العامية الجمالية الفنية"، كما وصفها فاروق شوشة، وهي تتجلى في إبداعات صلاح جاهين وفؤاد حداد وسيد حجاب وعبد الرحمن الأبنودي، فلا هي عامية الشارع ولا عامية السوق كما أنها بالتأكيد ليست "عامية البذاءة ولا السوقية".

وشعراء العامية الكبار في مصر والعالم العربي وخاصة في لبنان تخرجوا من دواوين الشعر الفصيح قديمه وحديثه كما لاحظ الشاعر الكبير فاروق شوشة الذي قال: "أنا أحس أن ماء الشعر في الفصحى والعامية مشترك والجميع ينهل منه ويأخذ منه والمسافة الآن بين شعر العامية الحقيقي المرتفع المستوى وبين الفصحى تضيق احيانا بالثقافة والوعي والقاموس المشترك".

ولفاروق شوشة نظرات نقدية عميقة في بعض المقولات التي كادت تتحول إلى مسلمات في الحياة الثقافية والأدبية المصرية والعربية مثل مقولة أو فكرة "الأجيال"، فهو لا يعتبرها فكرة صحيحة ويضرب المثل بما يسمى بجيل الستينيات في مصر والذي يضم أسماء مثل محمد عفيفي مطر وأمل دنقل ومحمد إبراهيم ابو سنة وبدر توفيق وغيرهم.

ففاروق شوشة لا يرى بين أحدهم والآخر أية مشابهة من أي نوع على الإطلاق فيما يتعلق "باللغة الشعرية وطرائق التصوير"، فيما ينفي عن تلك الأسماء التي وضعت معا ضمن ماسمي بجيل الستينيات صحة ماقاله بعض النقاد حول وقوعهم في شراك التقربرية والخطابية والمباشرة، معتبرا معطيات الواقع العربي العصيب تتطلب "تعرية كاملة".

وفيما يتعلق بالنقد ونقاد الشعر، قال فاروق شوشة: "النقاد مثل الشعراء مطحونون بلقمة العيش" و"الكتابة النقدية الحقيقية اصبحت تعرض صاحبها للعداوة ولاغلاق الأبواب والنوافذ إذا كان جادا"، كما أن بعض النقاد الآن يفتقرون للقدرات اللغوية التي تمكنهم من النقد التفسيري والتطبيقي الذي يعكف على النصوص ويحلل جماليات الشعر.

ولم يغمط فاروق شوشة أفضال نقاد كبار تصدوا لنقد شعره بجهد واخلاص في الكتابة النقدية مثل الدكتور محمد غنيمي هلال، وهو أول من كتب عن ديوانه الأول «إلى مسافرة»، والدكتور شكري عياد الذي كتب عن «لغة من دم العاشقين»، وكذلك الدكتور مصطفى ناصف، والدكتور محمود الربيعي الذي قام بتحليل نقدي لقصيدة «أجمل من عينيك لا» وهي إحدى قصائد ديوان فاروق شوشة الصادر بعنوان «العيون المحترقة».

وإذا كانت "القراءة" باتت من أصعب الأشياء في هذا الزمن كما رأى فاروق شوشة، فإن "الكتابة" أمست "أصعب الصعب" لأن هناك حساسيات قد تترتب على الكتابة وهناك من قد تسعده الكتابة، غير أن هناك أيضا من قد تغضبه تلك الكتابة الأمر الذي يدفع بعض الكتاب والنقاد للصمت بغية الابتعاد عن المشاكل!

إنه فاروق شوشة المثقف المصري المتعدد الاهتمامات ما بين الشعر واللغة والطروحات والمقالات والإعلام الإذاعي والتلفزيوني والمتطلع في إبداعه للأمام دائما، ولم يبالغ أبدا عندما قال عن نفسه: "رحلة الحياة بالنسبة لي تحولت إلى خزان هائل من المعطيات والخبرات والرؤى".

إنه المثقف "الباحث عن الجمال في كل شيء".. فتحية "لروح طليقة تعانق البشر".. تحية للشاعر "صاحب الوجه الحميم والعطر المقيم الذي تزدهي حروفه وتنجلي كأنها الشعاع أو كأنها الشرر".. تحية لمبدع مصري اصيل "سيبقى ابداعه الرحيب باسطا يديه وصوته الجميل مايزال رغم رحيله سلما الى الجمال وزادا لكل الباحثين عن الجمال.. وداعا للمبدع الجميل للباحث عن الجمال في اللغة والحياة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved