المكتبة الإسلامية (19).. مسند الإمام أحمد بن حنبل أضخم دواوين السنة النبوية

آخر تحديث: الأربعاء 19 مارس 2025 - 11:21 ص بتوقيت القاهرة

محمد حسين

اكتمل الوحي الإلهي بقول الله -تعالى- في سورة المائدة: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا"، وذلك يوم عرفة في حجة الوداع للنبي محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ ليكون الإسلام دينًا مكتمل الأركان، مستندًا إلى كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-.

وبعد انتقال الرسول الكريم إلى الرفيق الأعلى، حمل العلماء على عاتقهم مسئولية فهم الدين واستنباط الأحكام، فكان الاجتهاد بابًا واسعًا أثرى الأمة بعلوم شتى، وعلى مدار أكثر من ألف عام ظهر تراث إسلامي زاخر بالكتب في التفسير، والحديث، والسيرة، والفقه، وغيرها من العلوم الشرعية.

وفي هذه السلسلة، نطوف معًا بين رفوف "المكتبة الإسلامية"، نستكشف في كل حلقة كتابًا أثرى الفكر الإسلامي، ونتأمل معانيه وأثره في مسيرة العلم والدين.

الحلقة التاسعة عشر..

-الإمام أحمد بن حنبل.. شيخ الإسلام وإمام أهل السنة والجماعة

يعد الإمام أحمد بن حنبل أحد أعمدة الفقه الإسلامي وأحد الأئمة الأربعة الذين قامت على اجتهاداتهم مدارس فقهية امتدت عبر العصور.

وكان مثالًا للعالم الرباني الذي جمع بين الحديث والفقه، وبين الورع والثبات، وبين الاجتهاد العلمي والصبر على الابتلاء، عاش في زمن اشتد فيه الصراع بين الاتجاهات الكلامية المختلفة، فكان صلبًا في موقفه، قويًا في حجته، متواضعًا في سلوكه، زاهدًا في الدنيا، محبًا للعلم وأهله.

ويظل اسمه مرتبطًا بالحديث النبوي وبمحنته الشهيرة في فتنة خلق القرآن، التي جعلت منه رمزًا للصمود أمام الضغوط السياسية والفكرية.

بحسب ما جاء في كتاب "سير أعلام النبلاء" للإمام شمس الدين الذهبي، فقد وُلد أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني في ربيع الأول سنة 164 هـ - 780 م في بغداد، التي كانت آنذاك عاصمة العلم والعلماء، نشأ في بيئة متواضعة، حيث تُوفي والده وهو طفل، فتولت والدته تربيته، وكانت ذات أثر بالغ في نشأته العلمية والروحية.

بدأ في طلب العلم منذ صغره، فحفظ القرآن الكريم، وتلقى علوم اللغة العربية والحديث والفقه على أيدي كبار العلماء في بغداد، ثم اتسعت مداركه فرحل في طلب العلم إلى الحجاز، واليمن، والشام، وخراسان، فكان ينتقي الشيوخ بعناية ويتحرى الدقة في النقل والرواية.

يُعرف الإمام أحمد بأنه كان إمام أهل الحديث في زمانه، حيث جمع بين الرواية والدراية، ولم يكن مجرد ناقل للأحاديث، بل كان ناقدًا لها مميزًا بين صحيحها وضعيفها، متبعًا منهجًا دقيقًا في تصحيح الأخبار وتوثيق الأسانيد.

كان شديد التمسك بالنصوص، مما جعله أقرب إلى المدرسة الأثرية التي تقدم الحديث على الرأي والقياس، وهو ما ميز المذهب الحنبلي لاحقًا، حيث غلب عليه التمسك بالنصوص الشرعية، وعدم التوسع في الاجتهاد العقلي إلا في أضيق الحدود.

-رحلاته في طلب العلم وتأثره بشيوخه

كان الإمام أحمد نموذجًا للعالم الذي يضحي براحته في سبيل العلم، فقد رحل إلى مكة والمدينة والبصرة والكوفة واليمن والشام، باحثًا عن الحديث، مستفسرًا عن دقائقه، مميزًا بين رواياته، من أبرز شيوخه الإمام الشافعي، الذي تأثر به كثيرًا، حتى قيل إنه كان أشد الناس حبًا وتقديرًا له.

كما أخذ عن يحيى بن سعيد القطان، وعبدالرزاق الصنعاني، وسفيان بن عيينة، وعبدالله بن المبارك، وغيرهم من أعلام الحديث والفقه.

وبلغ من دقته في النقل أنه كان يرفض التحديث عن أي شيخ إلا بعد أن يتثبت من عدالته وحفظه، وكان يراجع الأحاديث مرارًا قبل أن يدونها، حتى خرج بموسوعته العظيمة "المسند"، التي تعد من أضخم كتب الحديث، حيث ضمت أكثر من 27 ألف حديث مرتبة وفق أسماء الصحابة، وقال عنه ابن تيمية في منهاج السنة: "شرط أحمد في المسند أنه لا يروي عن المعروفين بالكذب عندهم"، مما يدل على دقة اختياره للأحاديث ومكانة كتابه بين كتب السنة.

-الإمام أحمد وفتنة خلق القرآن

يعد موقف الإمام أحمد في فتنة خلق القرآن من أعظم مواقف الثبات في التاريخ الإسلامي، ففي زمن الخليفة المأمون، فرضت الدولة العباسية عقيدة القول بخلق القرآن، وهي فكرة نشأت في بيئة المعتزلة، وتم فرضها بقوة السلطة، حيث تعرض العلماء للاضطهاد والإجبار على الإقرار بها، لكن الإمام أحمد رفض الخضوع لهذه العقيدة، ورأى أنها بدعة منكرة لا أصل لها في الكتاب والسنة، مما عرضه للسجن والجلد والتعذيب.

وبحسب ما أورده ابن كثير في كتاب "البداية والنهاية"، فإن الإمام أحمد تعرض للضرب بالسياط حتى كاد يموت، لكنه ظل ثابتًا على موقفه، حتى تغيرت الأحوال في عهد الخليفة المتوكل، الذي رفع المحنة عن العلماء، وأعاد للإمام أحمد مكانته بين الناس.

ومنذ ذلك الحين، أصبح الإمام أحمد رمزًا للصمود على الحق، وعدم الانقياد للسلطة في الأمور الدينية، وهو ما جعله محبوبًا بين عامة المسلمين، وعلماء الأمة على مر العصور.

-مسند الإمام أحمد.. أضخم موسوعة حديثية

يعد مسند الإمام أحمد بن حنبل من أعظم كتب الحديث النبوي، حيث جمع فيه الإمام أحمد ما يزيد عن 27 ألف حديث نبوي، ليكون مرجعًا شاملًا لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتبة وفق أسماء الصحابة الذين رووها، ويتميز الكتاب بكونه أكبر كتب السنة حجمًا، وأكثرها شمولًا، حيث يضم الأحاديث الصحيحة والحسنة والضعيفة مع التزام الإمام أحمد بعدم الرواية عن الكذابين.

وظل المسند مرجعًا أساسيًا للمحدثين والفقهاء عبر العصور، حيث اعتمد عليه كبار العلماء في دراسة الحديث واستنباط الأحكام الفقهية.

-منهج الإمام أحمد في تأليف المسند

كان الإمام أحمد دقيقًا في جمع الحديث وروايته، فقد اعتمد في مسنده على الرواية عن الثقات، ورفض الرواية عن من عُرفوا بالكذب.

كما كان حريصًا على جمع أكبر عدد من الأحاديث دون الاقتصار على الصحيح فقط، وذلك حتى يكون الكتاب مرجعًا شاملًا للحديث النبوي، يمكن للعلماء والفقهاء الرجوع إليه عند الحاجة.

ورتّب الأحاديث وفق أسماء الصحابة، وليس وفق الموضوعات الفقهية، مما يجعله من كتب المسانيد، التي تتيح للقارئ دراسة الأحاديث بحسب رواة الحديث من الصحابة.

-آراء العلماء في مسند الإمام

وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة أن الإمام أحمد في المسند لم يروِ عن المعروفين بالكذب، وإن كان به بعض الأحاديث الضعيفة، مضيفا أن ابن الإمام أحمد والقطيعي أدخلا زيادات، تضمّن بعضها أحاديث موضوعة، مما جعل البعض يظن خطأً أنها من رواية الإمام أحمد.

كما ألف الحافظ ابن حجر كتاب "القول المسدد في الذب عن المسند"، حيث أثبت عدم وجود أحاديث موضوعة في المسند، وبيّن أن معظمها جياد، وأنه لا يمكن القطع بوضع أي حديث فيه، إلا نادرًا، مع احتمال قوي لدفع ذلك.

أما السيوطي فقد ذكر في خطبة الجامع الكبير أن كل ما في مسند أحمد مقبول، لأن الضعيف فيه قريب من درجة الحسن.

وغدا نلتقي مع كتاب جديد من المكتبة الإسلامية..

 

 

اقرأ أيضا
المكتبة الإسلامية (18).. مقاصد الصوم للعز بن عبدالسلام

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved