وصايا لصوص بغداد الأخلاقية فى العصر العباسى
آخر تحديث: الجمعة 19 أكتوبر 2012 - 11:30 ص بتوقيت القاهرة
عمر الشبراوى
قطعت الحضارة الإسلامية شوطا بعيد المدى فى مضمار التطور والازدهار، بعد أن تحولت الدولة الإسلامية من دولة اقليمية محدودة الإمكانات فى الجزيرة العربية إلى دولة عالمية الطابع ضمت شعوبا من حدود بلاد الهند شرقا حتى بلاد الأندلس غربا، امتاز معظمها بثراء مواردها المادية، وعمق إرثها الحضارى.
وتمكنت من هضم وتمثل وتطوير هذا الميراث الحضارى العظيم، لتسهم بنصيب موفور فى إعادة بناء وصياغة الحضارة الإنسانية فى عصريها الوسيط والحديث.
إلا أن هذا التطور الحضارى العظيم، لم يجتث جذور الفقر والبؤس الذى عاش فى ظله قطاع عريض من عامة المسلمين، بل شكل دافعا محوريا فجّر كثيرا من أحداث التاريخ الإسلامى مثل الفتنة الكبرى فى عهد الخليفتين عثمان بن عفان، وعلى بن أبى طالب، كما تجلى فى انتفاضة رقيق دمشق، وثورات الخوارج والشيعة والمرجئة فى العصر الأموى، فضلا عن ثورة فلاحى دلتا مصر من المسلمين والأقباط، وحركات الزط، والزنج ببصرة العراق، والقرامطة فى البحرين والشام واليمن التى اندلعت خلال العصر العباسى.
وحتى بغداد عاصمة الدولة العباسية ودرة العالم فى العصر الوسيط، والتى تمتعت بازدهار حضارى غير مسبوق على الصعيد العالمى، لم تسلم من مشاهد دائمة للأيتام والمعاقين وأصحاب الأمراض المزمنة، والمحتاجين، والمعوزين الذين تناثروا على جسورها، وبين ميادينها ودروبها وحواريها، فتحول تقديم الصدقات والإحسان لهم تقليد رسمى دائم للأثرياء وكبار رجال الدولة العباسية.
ولكن الأحوال الاقتصادية والاجتماعية تردت بعد إحكام العناصر التركية العسكرية على مقاليد الخلافة العباسية خلال القرنين الثالث والرابع بعد الهجرة، إذ قام أميرهم البريدى بنهب وعسف أهل العراق «وبظلمهم ظلما لم يسمع بمثله قط» كما يشير ابن الأثير فى حوادث سنة 330هـ بكتابه الكامل فى التاريخ، وكذلك ابن شيرزاد الذى تولى إمارة العسكر التركى سنه 334هـ، فحينما افتقد المال الكافى بين يديه شرع «فى مصادره التجار والكتاب، وسلطة الجند على العامة، وتفرغ لأذى الخلق، فهرب (اعيان) بغداد، وانقطعت التجارة» كما يقول ابن تغرى بردى فى حوادث سنة 334هـ، من كتابه النجوم الزاهرة.
ولم تفلح وسائل الإحسان وتوزيع الصدقات فى معالجة مشكلات الفقر والتفاوت الطبقى الحاد بين القلة من الأغنياء الذين استحوذوا على مصادر ثوره المجتمع وبين الفقراء، خاصة بعد أن ضاقت «أحوال الناس جعلتهم يستحبون البخل، ويمسكون عن الإحسان» بملاحظة التنوخى فى الجزء الثانى من كتابه نشوار المحاضرة.
ولم تردع الوسائل العنيفة التى استخدمتها السلطة الحاكمة، الخارجين على القانون، بل أثارت سخرية وتهكم بعض كبار فقهاء أهل السنة الذى شاهد ممثل السلطة الحاكمة ينفذ حد السرقة على أحد اللصوص فقال: «لا اله الا الله، سارق العلانية يقطع سارق السر».
هذه الأوضاع أفضت إلى العصف بحياه شرائح اجتماعية كثيرة من صغار التجار والإداريين والجند، وإلى تدنى أحوال العامة والمهمشين الذين حاولوا مواجهة واقعهم المزرى بوسائل جد مختلفة، إما بالثوره فى المناطق الريفية كما فعل الزنج والقرامطة، أو استخدام أساليب أخرى فى المدن مثل الهروب من دنياهم البائسة إلى الزهد وحياة التصوف، أو احتراف الكدية (النصب والاحتيال) أو التطفيل (التسول) أو ممارسة اللصوصية على نطاق واسع؛ حيث أجبرت الظروف الاجتماعية والسياسية المريرة أعداد هائلة من العامة لاحتراف اللصوصية، فيشير أحدهم إلى دور السلطة فى دفعهم إلى ذلك: «لعن الله السلطان الذى أخرجنا إلى هذا ـ يعنى اللصوصية ـ فإنه قد أسقط أرزاقنا، فأصبحنا عيارين (أى لصوصا)».
ويذكر آخر «نشأت فلم أتعلم غير معالجة السلاح، وجئت إلى بغداد أطلب الديوان (أى ديوان الجيش)، فما قبلنى أحد فانضممت إلى العيارين».
وانضوى إلى هؤلاء العيارين باعة الطرق، وصغار الحرفيين، والسوقة، وجموع العاطلين والمهمشين؛ الذين انتموا إلى أجناس شتى كالهنود والفرس والعرب والأكراد والترك؛ واتخذوا الأسواق والحمامات العامة، والمقابر، والأدغال، والبرارى، مأوى لهم، فضلا عن سكنى بعض المنازل المتهالكة رثة الحال.
وقد انتظم هؤلاء العيارون فى حركة الفتوة التى يدل مصطلحها اللغوى على «الكامل الجزل من الرجال»، الذى يتحلى بجميع الفضائل الأخلاقية والاجتماعية،كالمروءة والشجاعة والشهامة والكرم والإيثار وإغاثة الملهوف ونصره المظلوم.
وقد شكل هؤلاء الفتيان جماعات أخوية،الرابطة بين أعضائها أقرب ما تكون إلى معاهدة بين شخصين «على أن يكونا كالأخوين فى نسبة الولادة»، وأوجبت عليهم «المناصحة والمساعدة والمواساة، وأن يجيبه إذا دعاه، ولا يمنعه من ماله إن احتاج، ويأخذ بثأره أن بغى عليه.. ويخلفه فى ما يؤثر فى أهله إن غاب «كما يذكر ابن المعمار: فى كتابه الفتوة ص 150/194.
وقد صاغت حركة الفتوة (الشطار/العيارين) عدة مراسيم ليصبح المنتسب إلى هذه الجماعة رفيقا (أى عضوا دائما)، تبدأ بشد خصر العضو الجديد بحزام، وإلباسه السراويل، ويتلو ذلك شعيرة أخرى تتمثل فى شرب كأس من الماء المملح «كى يحصل به الألفة والمودة بين الأخوان»، لأن الملح فى الموروث الشعبى العربى يوحى بالمؤاكلة والمراضعة والصحبة.
واحتل الرفيق ـ وهو العضو العادى فى سلك الفتوة ـ سفح الهيكل التنظيمى لها، وانتسب ـ فى العادة ـ إلى كبير «وهو الأب فى النسب» يعلوه فى المرتبة الجد.
ويشكل الأعضاء المتصلون بصلة نسب القرابة ـ المشار إليها ـ حزبا، وكل عده أحزاب تكون بيتا، يتصدى لقيادته زعيم، يخضع بدوره للنقيب الذى يشغل رئاسة تنظيم الفتوة العام.
ولم يكن هؤلاء الفتيان (العيارين / الشطار) لصوصا تقليديين، بل كانوا أصحاب قضية شعارها التمرد على أصحاب السلطة، وسلب ثروات أصحاب المال، وإعاده توزيعها على الفقراء والمحرومين، لتحقيق قدرا من العدالة الاجتماعية تحفظ لهم كرامتهم الإنسانية، لذلك سعوا لإيجاد تبريرات ومسوغات سياسية ودينية تضفى قدرا من المشروعية على أعمالهم، فندد أحد زعمائهم، ويدعى عثمان الخياط، بإطلاق صفة اللصوصية على أعمالهم، التى اعتبرها أعمالا مشروعة على شاكلة الأعمال التى تقوم بها أمم المجتمع الانسانى التى «يسبى بعضهم بعضا، ويسمون ذلك غزوا، وما يأخذونه غنيمة، (ويعدون) ذلك من أطيب الكسب».
كشف الوعى العميق لعثمان الخياط العيار (الرجل الذكى، كثير الحركة) التناقض بالغ الدلالة للمجتمع الإنسانى، الذى استندت أممه فى حياتها على الغلبة والاستئثار واستلاب حقوق غيرها من الأمم، فى حين تدان وتجرم نفس هذه الاعمال إذا قام بها العيارون والشطار للحصول على حقوقهم، لذلك لم يلق بالا لذلك وأوصى رفاقه أن «سموا أنفسكم غزاة»، لإضفاء طابع سياسى مشروع على أعمالهم وفقا لأعراف عصرهم. وحاول أيضا أن يصبغ طابعا دينيا على أعمالهم، فذكر رفاقه من العيارين والشطار بأنهم «أولى بما فى أيديهم (أى الأثرياء)، لكذبهم وغشهم، وتركهم إخراج الزكاة».
وحاول قائد آخر من الفتيان، ويدعى ابن سيار الشاطر (الرجل واسع الحيلة والدهاء)، أن يعمق أحقية الشطار والعيارين بأموال الاغنياء من الوجهة الدينية، مستعينا بعيون الأدب العربى التى كتبها الجاحظ فأشار إلى «أن هؤلاء خانوا أماناتهم، ومنعوا زكاة أموالهم، فصارت أموالهم مستهلكة بها، واللصوص فقراء إليها.... وهؤلاء يستحقون الزكاة بالفقر، شاء أرباب المال أو كرهوا»، وهى دعوة صريحة لإعادة توزيع ثروة المجتمع على الفقراء من الرعية بشكل عادل، خاصة أن العيارين، كما يقول ابن الخياط، ليسوا أدنى منزلة من كثير من أصحاب السلطة بل إن «اللص أحسن حالا من الحاكم المرتشى، والقاضى الذى يأكل أموال اليتامى».
ومن ثم دعا عثمان الخياط رفاقه من الفتيان والشطار إلى انتزاع حقوقهم من «مال الغدرة، والفجرة»، وأنشد:
أسرق مال الله من كل فاجر وذى بطنة للطيبات أكول
ولكنه وضع عدة ضوابط أخلاقية، لحصول اللصوص على حقوقهم، فأكد على رفاقه أنه: «ما سرقت جارا، وإن كان عدوا ولا كريما، ولا كافأت غادرا بغدره».
وعاهد أصحابه قائلا: أضمنوا لى ثلاثا أضمن لكم السلامة، لا تسرقوا الجيران، واتقوا الحرم، ولا تكونوا أكثر من شريك مناصف» أى الحصول على نصف ثروة الغنى.
ونجد صدى هذه الوصية عند ابن حمدى العيار، الذى كان إذا قطع الطريق «لم يكن يعرض لأرباب البضائع اليسيرة، التى تكون دون الألف درهم، وإذا أخذ ممن حاله ضعيفة شيئا قاسمه فيه، وترك شطر ماله فى يديه».
وصاغ عثمان الخياط عدة تعاليم، ينبغى على أنصاره أن يراعوها فى تربية وتلقين ابنائهم إرث الفتيان وثقافتهم: «جسروا صبيانكم على المخارجات (الاشتراك فى أعمال اللصوصية)، وعلموهم الثقافة، وخذوهم برواية الأشعار عن الفرسان، وحدثوهم بمناقب الفتيان، وحال أهل السجون، وأحضروهم ضرب الأمراء أصحاب الجرائم، لئلا يجزعوا إذا ابتلوا بذلك»، والحقيقة أن الفتيان ذاعت شهرتهم بين الناس بقدرتهم الفائقة على تحمل الضرب بالسياط من أصحاب السلطة، دون الإقرار بما ارتكبوه من أعمال، أو الاعتراف على رفاقهم، وهذا الامر أثار دهشة الإمام أحمد بن حنبل الذى روى إنه التقى فى السجن خلال محنته، أبى الهيثم العيار الذى ذكر له: «أنى ضُربت ثمانية عشر ألف سوط بالتفاريق (فى اوقات مختلفة)، وصبرت على ذلك».
كما حض عثمان الخياط رفاقه أن يلزموا أبناءهم بأن يخالط كل منهم «أهل الصلاح، ولا يتزيا بغير زيه» اشهارا له وافتخارا واعتزازا به.
ونهاهم بحسم عن تناول النبيذ قائلا: «وإياكم والنبيذ فإنها تورث الكظة (التخمة)، وتحدث المثقل (الفتور وإثقال الحركة)، لأن صاحب هذه المهنة لابد أن يملك «جراءة، وحركة، وفطنة».
فقد كانوا لصوصا شرفاء، وثوارا أشقياء أرادوا تحقيق العدالة الاجتماعية بمنهج مقبول اجتماعيا وشعبيا، مرفوض من قبل السلطة الحاكمة على الصعيد السياسى والشرعى؛ ومع ذلك لم يكتفوا بدورهم فى تحقيق قدر من العدالة الاجتماعية للفقراء، بل سعوا للقيام بأدوار سياسية للحفاظ على هيبة ومكانة الخلافة العباسية خلال صراعها مع العناصر الفارسية والتركية والسلجوقية، التى حاولت الهيمنة على مقاليدها.