مصطفى الفقي يكتب: أطفال فلسطين ومستقبل الصراع

آخر تحديث: الإثنين 20 نوفمبر 2023 - 5:56 م بتوقيت القاهرة

لقد برعت إسرائيل ومؤيدوها فى الخلط بين الكفاح المسلح والإرهاب الدولى
سؤال مباشر لكل الذين لم تهتز ضمائرهم ولم تخجل كلماتهم أمام أشلاء ودماء أطفال فلسطين أو كل القتلى من الأطفال عموما فى غمار الزحف الشرس على المدنيين فى مدنهم وقراهم وتطبيق سياسة الأرض المحروقة.
أريد أن أفهم كيف يمكن أن نفسر التصريحات التى تتعارض تماما مع قوانين الحرب وأصول القتال، وتجد مبررا عندما تقول إنها ضد إيقاف إطلاق النار، كما فعل المسئولون فى الإدارة الأمريكية، وكما قال أيضا مستشار ألمانيا وغيره من كبار المسئولين فى الغرب، وكأنهم يدوسون بأقدامهم قواعد الحرب ويستخدمون الأساليب الهمجية فى القتال، بل يسجلون صفحات من العار عليهم، بل وعلى بلادهم أيضا؟!
الكل يدرك أننا أمام محرقة كاملة وهولوكوست فلسطينى بامتياز، وأنا أدهش كيف يمكن أن نكون على مشارف الربع الثانى من القرن الـ20 والمشاهد مروعة والأحداث دامية، خصوصا ضرب المستشفيات وتحطيمها على الأطفال بدعوى أنه توجد تحتها قيادات «حماسية» لا بد من اصطيادها؟!
الغريب أن ذلك لم يثبت يقينا ولم يتأكد عمليا وهو ما يعنى أن المعلومات التى يعتمد عليها القتلة ليست معلومات دقيقة، وأنا لا أقول ذلك دفاعا عن دولة معينة أو تنظيم بذاته، لكننى أشعر بالأسى وقلبى يتمزق مع الملايين فى أنحاء الكوكب إزاء المذابح الدامية التى شهدتها الأرض الفلسطينية منذ السابع من أكتوبر 2023.
لقد اتضح أن شهوة الانتقام فى الدولة العبرية تتجاوز حدود الإرهاب، وتصل إلى الإبادة الجماعية واعتماد سياسة النزوح القسرى والتطهير العرقى، وهى أمور كنا نظن أنها قد اختفت أو على الأقل توارت فى زحام الأحداث المروعة والتظاهرات الصاخبة، إن لنا على ما نشهده من جرائم ضد الإنسانية من جانب الدولة العبرية وأعوانها وأنصارها ما نسجله وما نربأ به عن روح العصر، لأنه يبدو وكأنه ردة فى منظور حقوق الإنسان والمفهوم الذى انطلقت عنه المواثيق الدولية، ولنا فى هذا الشأن ملاحظات أطرحها فى المحاور التالية:
أولا: إننا نظن أن المقاومة ضد الاحتلال حق مشروع للفلسطينيين كغيرهم من شعوب الأرض ودول العالم الأخرى، ولكن هذا الحق المشروع يحتاج أيضا إلى حساب المكسب والخسارة فى الأرواح والممتلكات، وليس يعنى ذلك أننا نستنكر المقاومة كمبدأ أو نرفضها على إطلاقها، بل إننا نريد لها أن تتواكب مع زخم سياسى وجهد دولى يجعلان المقاومة جزءا من كل وليست عملا عسكريا أصما، بل إننا نعترف بأن جرائم الاحتلال الإسرائيلى فى الأرض المحتلة تفوق الخيال، وأن ما فعله «الحماسيون» لم يكن من فراغ، كما قال سكرتير عام الأمم المتحدة بعد حضوره افتتاح معبر رفح المصرى أمام سكان غزة وغيرها.
ومع ذلك نحن نرى أن مقاومة الاحتلال تحتاج إلى ترتيب دون الاكتفاء بشجاعة القتال وبسالة المواجهة. فالحرب كر وفر وهى محكومة أيضا بميثاق أخلاقى يمنع العدوان على المدنيين، ويبتعد تماما من الأطفال والنساء وكبار السن، حتى تكون للمقاومة أساليبها المشروعة.
ثانيا: لقد برعت إسرائيل ومؤيدوها فى الخلط بين الكفاح المسلح وبين الإرهاب الدولى، فدمغت بذلك المقاومة المشروعة ضد الاحتلال بخاتم الإرهاب الذى يسىء إلى حركة التحرير ويظهرها فى غير ما هى عليه، لذلك فإن تجنب الاندفاعات غير المحسوبة إنما هو تعزيز لذلك الافتراء الذى تعمدته دائما الدعاية الإسرائيلية على امتداد العقود الأخيرة، عندما قارنت بغير وعى بين حركة للتحرير وأخرى للإرهاب من دون مضمون، وبلا جوهر حقيقى يوضح الأشياء ويمضى بها فى الطريق الصحيح.
ثالثا: إن المقاومة المشروعة تتمثل فى عدد من البنود الواضحة التى تمنع احتجاز الرهائن من غير العسكريين، لذلك فإن من العسير تبادل ذلك الفعل بين الجانبين الإسرائيلى والفلسطينى مع الفارق بين قوى الاحتلال وقوى المقاومة ضد ذلك الاحتلال.
المساواة بين الجانى والمجنى عليه هى مساواة شكلية لا تنصرف للجوهر أو مضمون العمل العسكرى أو شبه العسكرى من أحد الطرفين أو منهما معا، فالأمر هنا يحتاج إلى توصيف دقيق لمعنى المقاومة بأنواعها الإيجابية والسلبية، إذ أصبحت مدرسة المهاتما غاندى فى المقاومة السلبية فى ذمة التاريخ، لأن العصيان المدنى والاعتصام الطويل أصبحا أمرين لا يشكلان ضغطا شديدا على الطرف الأقوى فى مواجهة نظيره الأقل قوة.
رابعا: لقد كشفت الولايات المتحدة الأمريكية عن وجهها أمام المجتمع الدولى، وعبرت عن انحيازها الكامل لدولة إسرائيل على حساب الحق والمنطق، ضاربة عرض الحائط بكل القرارات الدولية والمواثيق العالمية، بل وتجردت أيضا من الحس الإنسانى الذى كان مرتبطا بصحوة الضمير الإنسانى، وازدهار الديمقراطيات، وانتعاش مبادئ حقوق الإنسان، حتى إن البعض كان يرى أن الولايات المتحدة الأمريكية تجسد ذلك إذا دخلت ميدان الصراع الدولى وأصبحت طرفا فيه، ولكن ذابت مبادئ الرئيس نيلسون وأصبحنا أمام دولة تدعم طرفا على آخر وتنحاز ضد الحق والحقيقة، بل وتنصر الإثم والعدوان. ولذلك فإن دورها فى الشرق الأوسط محكوم عليه بالفشل، لأن السياسة الأمريكية فقدت شعبيتها الواسعة ومصداقيتها التاريخية، إلى الحد الذى جعل البعض يتصور أن دورها الدولى قد بدأ يضعف فى مناطق مختلفة من عالم اليوم وفى مقدمتها منطقة الشرق الأوسط.
خامسا: إن الدعم الأمريكى ــ الإسرائيلى قد كشف أمام العالم عن تبنى الولايات المتحدة الأمريكية لسياسة ازدواج المعايير والكيل بمكيالين مع تأكيد غياب العدالة الدولية والانتقال إلى مرحلة سيطرة التيارات اليمينية والدينية على مراكز الأعصاب فى النظم الغربية الحاكمة، بل ونضيف إلى ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية ترحب فى صمت بعودة الصراع الدينى إلى مسرح الأحداث فى أنحاء العالم، حيث تسود الفوضى وتغيب القيم وتتوارى المبادئ.
سادسا: إن دماء أطفال غزة وأشلاء الجثامين المتراصة سوف تبقى لعقود طويلة فى الذاكرة الإنسانية دليلا على الخلط المتعمد بين الكفاح المسلح لمقاومة الاحتلال وبين الإرهاب، الذى لا يتبنى قضية ولا يمتلك مبررا أخلاقيا قد يكون وطنيا أو قوميا أو حتى دينيا.
سابعا: إن محاولات حل الصراع العربى الإسرائيلى وفك الاشتباك بين العرب واليهود فى فلسطين عن طريق المقايضة بين تصفية القضية الفلسطينية وبين الادعاء بحلها، وفى الحالتين، فإن ليس هناك من يقبل بأن يدفع ثمن الاستيطان الإسرائيلى وشهوة التوسع لدى قيادات الدولة العبرية والأهواء العنصرية التى تحكم التيارات الصهيونية فى أنحاء العالم.
ما زلنا نتذكر أن وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية أنتونى بلينكن قد قال بعد أحداث غزة، إنه يأتى إلى إسرائيل كمواطن يهودى بالدرجة الأولى، ولا عجب فالرئيس جو بايدن نفسه يكرر فى كل مناسبة حوارا قديما مع والده عندما سأله بايدن هل من الضرورى أن يكون يهوديا لكى يكون صهيونيا؟ فرد الأب: ليس ذلك شرطا إذ يمكن أن تكون صهيونيا مع أنك لست يهودى الديانة.
هذه العبارات من وزير الخارجية الأمريكية ورئيسه تعكس حقيقة الممالأة المكشوفة والانحياز الفاضح من جانب الولايات المتحدة الأمريكية تجاه الحركة الصهيونية والدولة العبرية. نقول ذلك ونحن ندرك أن الانتخابات الرئاسية الأمريكية قريبة وأن كل المرشحين ينافقون يهود الولايات المتحدة للوصول إلى البيت الأبيض فى النهاية.
من هذه الملاحظات السبع، تبدو الدماء الطاهرة للأطفال التى أريقت من الجانبين منذ السابع من أكتوبر 2023، كأنما هى بمثابة ناقوس يدق ليوقظ الضمائر المتبلدة، ويحيى الأفكار المتجمدة التى لا تستطيع أن تستوعب روح العصر وتستشرف مستقبل الإنسانية بكل ما يحمله من قيم عصرية وأفكار جديدة ورؤى عادلة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved