إبراهيم عبد المجيد يكتب: توماس جورجيسيان يفتح نوافذ الجمال

آخر تحديث: الجمعة 21 فبراير 2025 - 7:24 م بتوقيت القاهرة

أتابع منذ سنوات طويلة مقالات الكاتب والصحفى توماس جورجسيان. إعجابى بها يعيدنى بالإضافة إلى موضوعاتها، إلى أيام البهجة التى عرفتها طفلا، بين من أطلقوا عليهم جاليات أجنبية، فى الإسكندرية التى كانت تختصر العالم بما فيها من أرمن ويونانيين وإيطاليين وشوام ويهود وغيرهم، حتى جاءت سياسة عبد الناصر فى الخمسينيات والستينيات، وجرى ما جرى من إخراجهم من البلاد، مما كان موضوع روايتى «طيور العنبر» التى نشرتها عام 2000. لا أنسى محلات الأرمن فى الإسكندرية الذين ينتمى إليهم توماس من مصورين وغيرهم، وظللت احتفظ لسنوات طويلة بأول صورة لى، وأبى يقدم لى بالمدرسة. الصورة التى صورها لى أرمنى كان يقف بالكاميرا قريبا من مسجد أبى الدرداء. أى إطلالة على الأرمن فى مصر تحتاج كتبا، ولقد كتبت عن ذلك وتحدثت عنه كثيرا، وجاء كتاب توماس جورجسيان يعيد ذلك كله إلى الذاكرة.

الكتاب عنوانه «إنها مشربية حياتى.. وأنا العاشق والمعشوق» صادر منذ أسابيع من دار الشروق المصرية فى حوالى مائتى صفحة من القطع الكبير. بعد مقدمة رائعة للدكتور محمد أبو الغار وأخرى لتوماس، تدخل إلى الفصول العشرة للكتاب. الفصول الأولى منها عن نشأته بين أمه وأبيه وزواجه من الأمريكية ليز التى التقاها فى مصر وتزوجها عام1987، وابنته وحياتهم بين مصر وأرمينيا وأمريكا. الفصول الأخرى تشكل حياته فى الصحافة فى مصر، ومراسلا وكاتبا من أمريكا التى استقر بها، وكيف لا يغيب عن مصر كتابة وحضورا.

الكتاب سيرة حقا، لكنه فيض من المحبة، وبلغة تتدفق منها المشاعر الإنسانية بالود والألفة. من هنا جاء عنوانه. فالعاشق والمعشوق هو طائر الحب، والمشربية مفردة فى قاموس التراث المعمارى، تطل منها على المحروسة التى هى مصر أو القاهرة، يقيمها النجار من خشب متداخل عاشق ومعشوق، كما تعكس النظر منها أو إليها، وما أكثر ما عكست قصصا للحب فى الأدب والحياة. العنوان دلالة على أنه ابن مصر وعشقها.

يبدأ توماس الفصول بعنوان «قاهرتى التى تعيش معى». وكعادته فى الكتاب يضع صورة تحت عنوان كل فصل تلخص كل شىء، كأنها المشربية التى سيطل منها، فيكون الفصل شرحا وتفسيرا لها، ولمن فيها عبر الزمان والمكان. هنا صورته طفلا فى مدرسة كالوسديان الأرمنية ومعه عدد من التلاميذ، وبينهم أخته التى كانت مدرّسة فى المدرسة. القاهرة الواقع والخيال والذاكرة والحلم واللقاء والفراق على وعد بلقاء جديد. تتالى ثمانى فقرات طويلة بعنوان «قاهرتى» فيها عبق المكان والنشأة. وسط البلد والأرصفة وساندوتشات الفول من العربات الواقفة على النواصى، وفرشة الصحف على الأرصفة، ومدارسه منذ الحضانة الأرمنية فى شارع الترعة البولاقية فى شبرا، والتعليم الابتدائى والإعدادى بمدرسة كالوسديان فى شارع الجلاء، التى فيها عشق اللغات والإبداع، ثم بيوت الأرمن فى وسط البلد وشبرا والظاهر وغيرها، مما يشكل قاهرته الأرمنية.

شارع الجلاء حيث توجد أول محطاته الصحفية، بدءا من القراءة فى جريدة هوسابير الأرمنية التى صدر عددها الاول عام 1913 وكتب فيها أول كتاباته، ثم بعدها جريدتا الأهرام والأخبار ومن فيهما، وسيأتى هذا بتفصيل رائع فيما بعد. تأتى صورة ثانية تتصدر الفصل الثانى أو إطلالة من مشربية ثانية.

صورة عائلية تضم عائلته فى نهاية الأربعينيات قبل مولده، وفيها جده توماس وأخوه صامويل وحولهم بقية العائلة مثل أبيه كيروب بن توماس، وتاريخ اللجوء إلى مصر. مذابح الدولة العثمانية للأرمن وكيف وفدت عائلته وأبوه معها طفلا عام 2015 فلازمه الصمت فى حياته أكثر من الكلام، معبرا به عما عاشه ورآه. جيل بلا طفولة.

حديث عن بقية الأفراد وتطورهم ومآلهم فى الحياة بين مصر وأرمينيا، وكما قيل فالصورة بألف كلمة ومن ثم تأتى حكاية كل من فيها تتسع كالحياة. من أجمل ما جاء فى الكتاب قول أبيه لهم فى بيتهم عن قيمة سقف البيت الذى يظللهم، فالبيت وطن لمن يدرك معنى الفرار من المذابح، وسقفه استقرار وطمأنينة.

يأخذنا الفصل إلى مشاهير الأرمن فى مصر مثل المصور «فان ليو» مصور المشاهير وغيره، وكذلك صاروخان مؤسس فن الكاريكاتير وشخصية «المصرى أفندى» وفنانين مثل نيللى ولبلبة وفيروز وأنوشكا وغيرهم، ورجال سياسة مثل يوسف افندى الذى جاء إلى مصر بزراعة اليوسفى الذى سمى باسمه أو نوبار باشا.

فى السينما أيضا المنتج تاكفور أنطونيان الذى قدم أفلاما عديدة يذكرها، وفؤاد الظاهرى واسمه فؤاد جرابيد بانوسيان أعظم مؤلف موسيقى تصويرية للأفلام، وموسيقار عالمى أرمنى عظيم مثل خاتشادوريان الذى زار مصر وعزف فيها. يأتى فصل جديد بصورة والدته مع أبنائها فى فرح أخيه بعنوان «عن أمى أتحدث وعن أبى أتذكر..». الأم الحاضرة بقوة وعمق فى حياته اسمها روزيت ديكران مرزيان، توفيت فى سبتمبر عام 2006 وكانت الملكة فى مملكتها فى شبرا حيث بيتهم، راعية الطفولة وأحلام الصبا والشباب، وتفاصيل رائعة عن كل ذلك.

ثم الأب الذى رحل عن الدنيا قبلها عام 1989. الأب الذى كان صمته أبلغ حديث. سنوات الثمانينيات وكيف انتهى توماس من دراسة الصيدلة، لكنه اتجه إلى الصحافة وحصل فيها على الماجستير من الجامعة الأمريكية. وسيأتى ذلك كله بالتفصيل فيما بعد، كما ستأتى سنوات عمله بصيدلية «مترو» بشارع عماد الدين، وكيف كانت عالما من الخبرات البشرية، وأسماء رائعة ممن وفدوا عليها، وشىء من الصيدلة وأعمالها، وكلية الصيدلة فى الجامعة وظهور جماعات الإخوان المسلمين، وأفكار مثل تحريم الأدوية المركبة التى تحتوى على الكحول وغيرها.

يأتى فصل عن ابنته مارجريت تتصدره صورة لها طفلة. كيف ولدت فى أمريكا ونضجت هناك، وكيف كانت رحلتها ورحلته خلطة أمريكية أرمنية مصرية عصرية، هى اللؤلؤة التى ولدت فى الرابع والعشرين من ديسمبرعام 1996. كيف تصادف أن الرابع والعشرين من ديسمبر هو يوم ميلاد ابنته وقبلها أليس كبرى أخواته البنات، وجوهار أو الجوهرة ابنة موفيسيس جورجسيان البطل القومى الأرمنى حفيد عم والده الذى يسرد حياته ونضاله. ثلاث بنات ولدن فى يوم واحد رغم اختلاف السنين.

ننتقل بعد رحلة عظيمة مع العائلة والتاريخ إلى رحله فى الصحافة بدءا من قراءاته حتى كتاباته. يأتى الفصل بعنوان «حواديتى مع القلم والورقة» بصورة له فى جريدة الهوسابير شابا مع صديق عمره ورفيق دربه زافين ليلوزيان، الذى صار رئيسا للتحرير. الرحلة لا يتسع لها المقال من فرط الجمال. من طرائفها كيف كان هناك طقس عائلى يتم مع الأطفال بمناسبة ظهور أول سن من أسنانهم، فيضعون الطفل وسط أدوات ومُنتجات ترمز إلى مهن مختلفة، فراح هو الطفل توماس يحبو حتى أمسك بيده القلم وسط صرخات وتهليلات من حوله، وصار كما قالت له أمه قد أصابته لعنة الصحافة منذ طفولته. لكنها اللعنة الفائقة الجمال. كيف كان يقرأ وكيف كان يكتب بالأرمينية ثم العربية ثم الإنجليزية والحيرة بينها. كيف اكتشف مجلة صباح الخير وكتب فيها.

وتأتى الأحاديث الضافية عن عظماء الصحافة بين صحيفتى الأهرام والأخبار ومجلة صباح الخير. مصطفى أمين ومحمد حسنين هيكل وصلاح جاهين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وأحمد بهاء الدين وحسين فوزى السندباد المصرى فى التاريخ، وكمال الملاخ وصفحة الأهرام الأخيرة التى أسماها «من غير عنوان» فصارت تُقرا قبل الصفحات الأولى، والفنان والشاعر بيكار الأرمنى ولويس جريس وعلاء الديب وغيرهم. حديثه عنهم أقام خيمة من الجمال حولى وذكرنى بكثير من حياتى.

يستمر مع أدباء عرفهم مثل سميح القاسم وأمل دنقل، وهكذا فى أطول فصول الكتاب الذى حمل عنوان «التدوير على الأحباب» والتدوير هنا تعنى البحث من ناحية، والمرور عليهم من ناحية. ينتهى الكتاب بحياته فى واشنطن، ولا يريد فى النهاية للحكى أن ينتهى ولا نحن نريد، لكن انتهى الكتاب الذى يظل ساكنا روحك بالبهجة والجمال والتواضع الإنسانى الجميل.

نقلا عن «القدس العربي»

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved