في ذكرى رحيل مؤسس علم الاجتماع.. نظرة على مقدمة ابن خلدون أول عمل يتناول العلوم الاجتماعية
آخر تحديث: الجمعة 21 مارس 2025 - 3:22 م بتوقيت القاهرة
محمود عماد
يُعد عبد الرحمن بن خلدون أحد أبرز المفكرين في التاريخ الإسلامي، ومؤسس علم العمران الذي أصبح حجر الأساس لعلم الاجتماع الحديث. اسمه الكامل عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي، وهو أندلسي الأصل، نشأ في تونس، وجاب أقطار شمال إفريقيا، متنقلاً بين بسكرة، وفاس، وغرناطة، وبجاية، وتلمسان، والأندلس، قبل أن يستقر في مصر. هناك، حظي بتقدير السلطان الظاهر برقوق، وتولى منصب قاضي المالكية، ليقضي في أرض الكنانة قرابة ربع قرن حتى وفاته عام 1406م، عن عمر ناهز 76 عامًا، حيث دُفن قرب باب النصر شمال القاهرة، تاركًا إرثًا فكريًا لا يزال تأثيره ممتدًا حتى يومنا هذا.
وُلد ابن خلدون في 27 مايو 1332م بتونس، ورحل عن عالمنا في 17 مارس 1406م بالقاهرة. وفي ذكرى وفاته، نسلط الضوء على واحدة من أعظم إسهاماته الفكرية، وهي مقدمة ابن خلدون، التي لم تكن مجرد تمهيد لكتابه العِبَر، بل عملًا موسوعيًا أسّس من خلاله لنظريات لا تزال تدرَّس حتى اليوم، في مجالات الاجتماع، والتاريخ، والاقتصاد، والسياسة، والعمران، ليظل فكره نبراسًا يهتدي به الباحثون والمفكرون عبر العصور.
مقدمة ابن خلدون
"مقدمة ابن خلدون"، والمعروفة أيضا ب "المقدمة"، هي كتاب ألفه ابن خلدون في عام 1377 حيث يقدم رؤية حول التاريخ العالمي، ويرى بعض المفكرين المعاصرين أنه أول عمل يتناول العلوم الاجتماعية مثل علم الاجتماع، والديموغرافيا، والتاريخ الثقافي.
تتناول المقدمة أيضا علم العقائد الإسلامية، وعلم كتابة التاريخ، وفلسفة التاريخ، والاقتصاد، والنظرية السياسية، وعلم البيئة. والعلوم الطبيعية وعلم الأحياء والكيمياء.
وألف ابن خلدون هذا الكتاب كمقدمة لمؤلفه الضخم الموسوم كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر.
واعتبرت المقدمة لاحقا مؤلفا منفصلا ذا طابع موسوعي إذ يتناول فيه جميع ميادين المعرفة من الشريعة والتاريخ والجغرافيا والاقتصاد والعمران والاجتماع والسياسة والطب.
وقد تناول فيه أحوال البشر واختلافات طبائعهم والبيئة وأثرها في الإنسان، كما تناول بالدراسة تطور الأمم والشعوب ونشوء الدولة وأسباب انهيارها مركزا في تفسير ذلك على مفهوم العصبية.
بهذا الكتاب سبق ابن خلدون غيره من المفكرين إلى العديد من الآراء والأفكار حتى اعتبر مُؤَسِّسًا لعلم الاجتماع، سابِقًا بذلك الفيلسوف الفرنسي أوغست كونت.
ملخص المقدمة
يمكن تلخيص المقدمة في مجموعة نظريات وأسس وضعها ابن خلدون لتجعل منه المؤسس الحقيقي لعلم الاجتماع على عكس ما يدعيه علماء الغرب أن المؤسس الحقيقي هو الفرنسي أوجست كونت ومن خلال قراءة المقدمة يمكن وضع ثلاثة مفاهيم أساسية تؤكد ذلك وهي أن ابن خلدون في مقدمته بين أن المجتمعات البشرية تسير وتمضي وفق قوانين محددة وهذه القوانين تسمح بقدر من التنبؤ بالمستقبل إذا ما درست وفقهت جيدا، وأن هذا العلم (علم العمران كما أسماه) لا يتأثر بالحوادث الفردية وإنما يتأثر بالمجتمعات ككل، وأَخيرا أكد ابن خلدون أن هذه القوانين يمكن تطبيقها على مجتمعات تعيش في أزمنة مختلفة بشرط أن تكون البُنى واحدة في جميعها، فمثَلا المجتمع الزراعي هو نفس المجتمع الزراعي بعد 100 سنة أو في العصر نفسه.
وبهذا يكون ابن خلدون هو من وضع الأسس الحقيقية لعلم الاجتماع، واعتبر ابن خلدون مؤسّس علم الاجتماع وأوَّل من وضعه على أسسه الحديثة، وقد توصل إلى نظريات باهرة في هذا العلم حول قوانين العمران ونظرية العصبية، وبناء الدولة وأطوار عمارها وسقوطها، وقد سبقت آراؤه ونظرياته ما توصل إليه لاحقا بعدة قرون عدد من مشاهير العلماء كالعالم الفرنسي أوغست كونت.
أبواب المقدمة
عالجت مقدمة ابن خلدون موضوعات متنوعة ضمن 6 أبواب، حيث طال البابان الثالث والسادس عن غيرهما، فكان أن جاء:
الباب الأول: في العمران البشري على الجملة وأصنافه وقسطه من الأرض.
الباب الثاني: في العمران البدوي وذكر القبائل والأمم الوحشية.
الباب الثالث: في الدول والخلافة والملك وذكر المراتب السّلطانية.
الباب الرابع: في العمران الحضري والبلدان والأمصار.
الباب الخامس: في الصنائع والمعاش والكسب ووجوهه.
الباب السادس: في العلوم واكتسابها وتعلمها.
نظرة على المقدمة
كتب ابن خلدون النسخة الأولى من المقدمة في قلعة بني سلامة، حيث اعتزل بنفسه لمدة تقارب 4 سنوات بعد انسحابه من الحياة السياسية، وهي الجزء الأول من 3 أجزاء من مشروع عمل عليه لمدة تقارب الثلاثين عاما وهو كتاب العبر: عمل ضخم في التاريخ العالمي يتكون من سبعة عشر مجلدا، كل منها يحتوي على 500 صفحة في طبعتها الحديثة، انتهى من مسودة المقدمة في عام 1377.
المخطوطات المنسوخة من المقدمة خلال حياة ابن خلدون لا تزال موجودة، وعدد منها يحتوي على ملاحظات أو إضافات بخط يده.
في المقدمة، يشرح ابن خلدون "علما جديدا" كان قد حافظ على سريته حتى تقاعده إلى قلعته، وهو علم لدراسة ما يسميه "بالعُمران"، هذا العلم الجديد، علم العمران، يعتمد على الفلسفة اليونانية العربية ويسعى لدراسة تطور الإنسانية والمجتمع عبر التاريخ باستخدام منهج تاريخي وتجريبي وعقلاني وبياني.
المقدمة في عيون كتاب عصرها
شكلت المقدمة التي تميزت برؤية ابن خلدون المعتدلة في تناول السياسة والدين، موضوعا لم يلق إشادة كبيرة أو انتقادا واضحا في القرون الأولى بعد كتابتها.
وقد أشير إليها في أعمال كاتبين مغربيين، محمد بن السكاك (ت. 1413) ويعقوب بن موسى السيطاني، لكن محمد بن علي ابن الأزرق (ت. 1496) هو الكاتب المعاصر الوحيد الذي أيد عمله بوضوح، مقتبسًا منه بكثرة في كتاب بدائع السلك في طبائع الملك.
تكرر الاستشهاد بها في الأعمال من مصر، حيث احتفل بها تلاميذ مثل المقريزي (1364–1442) وابن عمار، وواجهت انتقادًا من آخرين مثل ابن حجر العسقلاني ومعلمه نور الدين الهيثمي.
في القرون التالية، ظهر ابن خلدون بشكل بارز، موصوفا كسلطة في التاريخ السياسي، في العديد من القواميس البيوغرافية—خاصة في نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب—لكن المقدمة ظلت غائبة إلى حد كبير.
قدر المؤرخون العثمانيون مثل كاتب جلبي (ت. 1657) ومصطفى نعيمة (ت. 1716) النظريات الاجتماعية والسياسية في المقدمة، لكنهم لم يطبقوها في تحليل مجتمعهم الخاص. تُرجمت الأجزاء الخمسة الأولى من أصل ستة إلى التركية العثمانية بواسطة بيري زاده محمد صاحب أفندي (ت. 1749)، تُرجم الفصل السادس بواسطة أحمد جودت (ت. 1895)؛ ونُشرت الترجمة الكاملة عام 1860/61.
بداية الاهتمام بالمقدمة
طبعت المقدمة لأول مرة عام 1857 في مطبعة بولاق بالقاهرة كجزء مستقل صنعه نصر الهوريني، بدعم حاسم من رفاعة الطحتاوي، وكأول مجلد في مجموعة مكونة من سبعة مجلدات من كتاب العبر بعد عقد من الزمن.
يخلص عبد السلام شذادي إلى أن "المساهمة العلمية الصارمة لابن خلدون في مجال التاريخ والعلوم الاجتماعية لم يُعترف بها بالكامل في العالم الإسلامي حتى أواخر القرن التاسع عشر."
المقدمة غربيا
اكتشفت المقدمة لأول مرة في فرنسا من خلال الترجمة التركية الجزئية لـ بيري زاده محمد صاحب أفندي (ت. 1749).
في عام 1858، السنة التي تلت أول نشر لها في القاهرة، طبع إتيان مارك كواتريمير نسخة من النص العربي للمقدمة في ثلاثة مجلدات في باريس تحت عنوان Les Prolégomènes d’Ebn Khaldoun.
نشر وليام ماكجوكين دي سلين ترجمة فرنسية في ثلاثة مجلدات عام 1863 اعتبرها عزيز العظمة أفضل ترجمة لنص ابن خلدون، نشرت ترجمة إنجليزية بواسطة فرانز روزنتال عام 1958.