الأَزَءْ.. مهنة رفع مراكب الصيد واليخوت من البر إلى البحر في مدينة عزبة البرج بدمياط
آخر تحديث: الجمعة 23 فبراير 2024 - 12:47 م بتوقيت القاهرة
حلمي ياسين
يصحو الريس حسن البراوي كل صباح، متوجها إلى ورشة تصنيع وإصلاح مراكب الصيد واليخوت، في منطقة الطابية بعزبة البرج، متوكلا على الله، داعيا أن يمر اليوم بسلام، فمهنته يطلقون عليها «مهنة الموت» فأقل خطأ يودى بحياة الكثيرين ممن يعملون فيها، فالأخطاء واردة من أي فرد من فريق العمل، لذلك يحرص على أن يتابع كل خطوة من خطوات إخراج أو نزول المركب من البر إلى البحر والعكس، فمهنته من المهن القديمة كَقِدَمْ التاريخ، منذ 45 عاما يعمل في هذه المهنة، يعمل معه رجال أشداء، يمتلكون خبرة واسعة في مجالهم، وهو كـ"ريس أَزَءْ" تحلي بالصبر والروية، يبدأ في قيادتهم بترديد الصيحات لتحميسهم في أثناء العمل "صلي على النبي صلي" فيرددون خلفه "هيلا هوب"، "هيلا هيلا ليصا"، "هيلا هوب" تستمر الهتافات داخل الماء وخارجها للتحضير لطلوع المركب أو نزولها إلي البحر، في عمل جماعي وعزم واحد.
دقة الحركة لتجنب المخاطر
يقود الريس حسن البراوي، فريق عمل يصل عددهم من 6 إلي 16 رجلا، بما فيهم الريس الذي يحدد دور كل شخص وموقفه ومكانه في أثناء لحظات العمل الجماعي، ويطلق عليه "ريس الأزء" وبعد "العَمْرَة" أو الصيانة للمركب، والتي تنتهي بالطلاء وكتابة اسم المركب، وبجواره بعضا من الأدعية الدينية، والآيات القرآنية لحفظها من كل شر في البحر، يتم دفع المركب إلى البحر بنفس الطريقة، التي تم بها رفعها، ويعتمد رفع المركب إلى البر أو نزولها للبحر، على آلة كبيرة تسمي "الأَزَءْ"، ويتم وضع "الأَزَءْ" علي ألواح خشبية تسمى "الفلنكات" مثل شريط القطار، يتحرك "الأَزَءْ" عليها، ويتم سحب "الأَزَءْ" عن طريق "واير حديد" متصل بونش جر أو سحب أرضي يعمل بالسولار، ويتم سحب المركب بهدوء وروية، بإشارات من "ريس المجموعة" إلى "الوناش" الذي تكون عيناه مسلطة عليه بشكل دائم، فهذه المهنة مخاطرها كبيرة، وأي خطأ فيها – لا قدر الله – يكون الموت المحقق، مثلا أن انفلت الواير الرئيسي لأي سبب أو انقطع، وتنقلب المركب وتسبب ضحايا، وهذا وارد بنسبة 20% وأقل خطأ فيها قاتل، لذلك يعملون بمقادير ومعايير محسوبة وخبرة عالية.
عدد رجال كل مركب
كل مركب يتم إخراجها من المياه أو دفعها للمياه، لها عدد من الرجال معروف مقدما، فمثلا المركب طول 22 مترا يكفيها 8 رجال، المركب طول 32 مترا يكفيها 12 رجلا، والمركب طول 42 مترا تحتاج لـ20 رجلأ وأحيانا أكثر من ذلك، واليخت الكبير يحتاج إلى حوالي 40 رجلا، وفي عزبة البرج حوالي 15 ورشة، في كل ورشة "أَزَءْ" برجاله، وأيضا " الأَزَءْ " له مواسم، فالعمل يكثر في فصل الشتاء، إذ إن المراكب تتوقف كثيرا بسبب النوات التي تُجبر الصياد على التوقف، ولذلك يفضل أصحاب المراكب إجراء العمرة في فصل الشتاء بدلا من الصيف والربيع، وذروة العمل في شهر ديسمبر.
أصعب مهنة في عزبة البرج
الريس محمد عضمة شيخ الصيادين السابق في عزبة البرج، يؤكد صعوبة مرحلة فصل المركب عن "الأزء" بعد وصولها إلي البر، ويعتبرها من أصعب المهام بعد خروج المركب من البحر ووضعها علي أخشاب وقواعد ثابتة وأعمدة خشبية علي الجانبين بطريقة متوازنة، تتكأ عليها المركب استعدادا للعمل فيها، وهي طريقة تعتمد علي نظريات بسيطة ومركبة، تبدأ بتخليص الأخشاب الرقيقة التي تشبه فلنكات القطار، بالدق عليها بمرزبة حديدية تقيلة، لتخليصها من "الأَزَءْ" بعد أن يتم وضع أعمدة خشبية متينة من جهة اليمين، ثم يتم ذلك من جهة اليسار.
فشل تحديث المهنة
صلاح السمبوسكاني مالك ترسانة بحرية في عزية البرج، يقول: "في فترة التسعينات من القرن الماضي، استقدامنا أحواض عائمة من الخارج، ووضعناها في نهر النيل، كبديل "للأَزَءْ"، ولكنها فشلت لعدة أسباب أولا، لأسعارها؛ قياسا بطول المدة التي يستغرقها المركب في "العَمْرَة" وأقلُها شهر، فكانت التكلفة كبيرة جدا بالنسبة للصياد، قياسا بالورش المتواجدة في منطقة الطابية وغيرها، ثم تم تخصيص هذه الأحواض للحالات الطارئة للمراكب، مثلا سقوط دافع المركب "الرفاص" أو اختلال الدفة، أو ثقب في المركب يحتاج لوقف المياه المتسربة للمركب ومع ذلك وجد أصحاب الأحواض العائمة أنها لا تحقق مكاسب جيدة – في ذلك الوقت- أضف إلي ذلك الرسوم التي فرضت عليها من الدولة".
وتابع: "بعد ذلك تطورت صناعة المراكب من الخشب إلي الحديد، وهذه كانت الرئة التي جعلت هذه الأحواض تستمر في العمل لفترة أطول، ولكن أتت الرياح بما لا تشتهي السفن، فمراكب الحديد عمقها أكبر بكثير من مراكب الخشب، وتحتاج هذه الأحواض لغاطس أكبر، ونهر النيل في هذه المنطقة ممتلئ بالرواسب، التي أعاقت هذه الأحواض عندما يتم ملؤها بالماء حتي تغطس للمسافة المناسبة، وتصبح في مجال مناسب لدخول المركب الحديد عليها، وبعدها يتم تفريغ المياه منها بطلمبات مياه كبيرة فيطفو الحوض وعليه المركب، مما جعل التجربة لا تكتمل، وتم فك هذه الأحواض مؤخرا، وآخرها منذ 4 أعوام، وبقي "الأَزَءْ" وحده الوسيلة الوحيدة لأصحاب المراكب".
الأزء في الأصل آلة فرعونية
ويقول الباحث الأثري رضا الباز، إن كلمة "أَزَءْ" مصرية قديمة، وإلي الآن في العامية المصرية نقول كلمة "يَزُق" من الأصل "أَزَءْ" لأنه كان قديما يعمل "بالزق" أي الدفع، فقد كان يوضع علي قاعدة دائرية مثبتة تثبيتا جيدا في الأرض، ويتم تحريكه بواسطة "عيدان" خشبية متينة وكثيرة، تشبه تروس السواقي الكبيرة، ومثبتة في أسطوانة دائرية، ويتم توصيل حبل ضخم ومتين بها، مرتبط بـ "الأَزَءْ" الذي تم وضعه على أسطوانات خشبية مخروطة بشكل دائري تسمى "البرافيم" ويبدأ عدد كبير من الرجال بدفع الأسطوانة الدائرية، بدفع "العيدان" الخشبية بقوة فيتحرك "الأَزَءْ" بما عليه بسهولة على "البرافيم" التي تكون بمثابة العجلات إلي المكان المحدد.
ويضيف الباز، أن "الأَزَءْ " له رسومات موجودة علي جدران الصرح الأوحد في معبد الكرنك، ورسوم أخرى لنقل التماثيل الضخمة، توضح استخدام هذه الطريقة، ومنها بناء الأهرامات أيضا، مع رافعات ضخمة، تتحمل نقل الأحجار الثقيلة وزن 2 و3 طن فأكثر، متابعا أن أي شيء ثقيل قبل اختراع الأوناش الآلية، كان يتم نقله بنفس الطريقة، والمماليك ومحمد علي، نقلوا الأحجار بنفس الطريقة لبناء منشآتهم، وقريبا وحتى مرحلة السبعينات من القرن الماضي، استخدم عمال الصرف الصحي "الأَزَءْ" لنقل المواسير الكبيرة، داخل الشوارع التي لا تستطيع الأوناش الضخمة الدخول إليها والعمل فيها.