فى الذكرى الـ42 لتحرير سيناء.. الطريق لاسترداد طابا محفوف بجهود دبلوماسية شاقة (3-3)
آخر تحديث: الأربعاء 24 أبريل 2024 - 6:48 م بتوقيت القاهرة
عرض وتحليل ــ طلعت إسماعيل
الطريق لاسترداد طابا رحلة شاقة من العمل الدبلوماسى والقانونى، استغرقت نحو 7 سنوات، بدأت فى 25 أبريل 1982، مع رفع العلم المصرى على حدود مصر الشرقية عقب الانسحاب الإسرائيلى، وانتهت فى 15 مارس 1989، بعودة جزء عزيز من أرض سيناء إلى حضن مصر عقب معركة التحكيم الدولى، بفضل جهود كوكبة من الخبراء ورجال القانون والدبلوماسية والتاريخ المصريين الذين شكلوا اللجنة القومية لاسترداد طابا.
وفى هذا الكتاب الصادر عن دار الشروق «طابا.. كامب ديفيد.. الجدار العازل.. صراع الدبلوماسية من مجلس الأمن إلى المحكمة الدولية»، يقدم الدكتور نبيل العربى وزير الخارجية الأسبق والأمين العام لجامعة الدول العربية السابق، سجلا لمجريات ملف المفاوضات المصرية ــ الإسرائيلية لاسترجاع طابا بوصفه رئيس الوفد المصرى فى تلك المفاوضات.
29 سبتمبر 1988 هيئة التحكيم الدولية: طابا مصرية
مبارك يهدد بتدمير جميع المنشآت فى طابا إذا ماطلت إسرائيل فى تنفيذ الحكم
هؤلاء ساهموا فى ملحمة الدفاع عن طابا بعيدًا عن البطولات الزائفة
الخارجية المصرية تحملت عبئًا ثقيلًا لحل النزاع بالتحكيم الدولى
اللجنة القومية للدفاع عن طابا ضمت خبراء على أعلى مستوى من الكفاءة
نبيل العربى: رئيس الجمهورية ذكر بالحرف الواحد أنه يعتبرنى المسئول أمامه عن موضوع طابا
الحكومة المصرية أدارت «قضية العصر» بأسلوب علمى ومهنى رفيع
إسرائيل طمست معالم العلامة 90 لإيهام مصر أنها عمود باركر
للهزيمة أب واحد، لكن للنجاح ألف أب، هذه المقولة يمكن تطبيقها على الحكم التاريخى الذى أعاد إلى مصر طابا التى ظلت إسرائيل تناور وتماطل لآخر يوم قبل الانسحاب منها وتسليمها إلى الجانب المصرى صبيحة 15 مارس من عام 1989، فقد نسب البعض الفضل لأنفسهم، فيما حاول البعض الآخر القفز على جهود فريق عمل سهر الليالى وتحمل ضغوطا هائلة لسنوات، فيما حرص البعض الثالث على اللقطة والظهور فى المشهد لحظة تسجيل الكاميرات الفرحة بالنصر الدبلوماسى الكبير.
وفى هذا الجزء من من كتاب «طابا.. كامب ديفيد.. الجدار العازل.. صراع الدبلوماسية من مجلس الأمن إلى المحكمة الدولية» يضع الدكتور نبيل العربى الأمور فى نصابها الصحيح، ويعيد الفضل لأهله فى معركة استرداد طابا قبيل رفع العلم المصرى عليها، مقدما الإجابة عن سؤال عريض: كيف واجهت مصر محاولات إسرائيل الاستيلاء على طابا؟ وهى الاجابة التى لم تغفل شاردة ولا واردة من الكواليس التى سبقت الحكم وحتى يوم تنفيذه.
غلاف كتاب «طابا.. كامب ديڤيد.. الجدار العازل.. صراع الدبلوماسية من مجلس الأمن إلى المحكمة الدولية»
صورة قريبة
يبدأ الدكتور العربى الحديث عن معركة طابا بقوله: أمضيت ما يقرب من خمس سنوات من عمرى مسئولًا عن هذا الملف (طابا) وذلك من نهاية 1983 إلى أن صدر الحكم يوم 29 سبتمبر ، 1988 لتنطلق بعد ذلك جولة جديدة من التفاوض مع إسرائيل إلى أن تحقق الانسحاب النهائى من الأراضى المصرية فى مارس 1989.
فى هذه الفترة كنت فى البداية مديرًا للإدارة القانونية والمعاهدات فى وزارة الخارجية، ورئيسًا لوفد التفاوض مع إسرائيل فى محادثات إبرام مشارطة التحكيم التى وقعتها فى فندق ميناهاوس فى 12سبتمبر 1986، ثم نُقلت فى صيف 1987 سفيرًا ومندوبًا دائمًا لمصر لدى المقر الأوروبى للأمم المتحدة فى چنيڤ لمتابعة تطورات التحكيم عن كثب، حيث تم تعيينى وكيلًا للحكومة المصرية خلال مرحلة إجراءات التحكيم ثم كلفنى الرئيس حسنى مبارك بمتابعة تنفيذ الحكم إلى أن تم التوصل إلى اتفاق بين مصر وإسرائيل، وقمت بتوقيعه فى فندق طابا بتاريخ 26 فبراير 1989 أدى إلى انسحاب إسرائيل يوم 15 مارس.
وفى هذا السياق سوف أطرح بكل أمانة، وجهة نظرى حول ما تحقق من نجاح، وما تأثرنا به من إخفاقات. وأعتذر مقدمًا للقارئ لأننى سوف أتحدث عن نفسى كثيرًا، والسبب وراء ذلك هو أنه فيما يتعلق بطابا تسلمت هذا الملف فى نهاية 1983 وكنت المسئول عن جميع مراحل النزاع حتى إتمام الانسحاب الإسرائيلى فى 15 مارس 1989، فأزمة طابا ــ إن صح هذا التعبير ــ ظهرت قبيل 25 إبريل 1982 وهو الموعد الذى كان قد تقرر لانسحاب إسرائيل من سيناء بالكامل. ومنذ هذا التاريخ بدأت محاولات واتصالات مباشرة وغير مباشرة لإيجاد حل. ولا أزعم أننى على دراية بجميع الاتصالات والمحاولات التى تمت وبالذات فى الفترة التى سبقت استئناف المحادثات مع إسرائيل فى بداية 1985.
وأود عند البدء فى تسجيل أهم معالم النزاع حول طابا أن ألقى بالضوء على بعض الحقائق التى تمثل الإطار العام للنزاع.
أولًا: أن إسرائيل كانت تعلم أن الحكم القضائى لن يصدر فى صالحها. فبعد كل هذه السنين وبعد دراسة جميع مراحل النزاع وبعد تفكير عميق ــ لا شك لدى ــ أن إسرائيل لم تكن تسعى لكسب القضية، لأنها كانت تعرف مسبقًا أن المحكمة لن تؤيد موقفها لأنها تعلم تمامًا أين تقع علامة خط الحدود عند نقطة طابا، وكانت فى جعبتها البيانات الدقيقة حول موقع العلامة رقم91؛ (التى أطلق عليها علامة باركر) فإسرائيل هى التى قامت بتغيير معالم المنطقة بعد احتلالها سيناء عام 1967، وأزالت الشق الجنوبى من الهضبة الشرقية التى تطل على وادى طابا وشيدت طريقًا ساحليًّا يربط طابا بمدينة إيلات.
ولا بد أن هدفها كان إفشال قدرة المحكمة على إصدار حكم. وبذلك لا يكون هناك مفر أمام مصر سوى العودة مرة أخرى إلى التفاوض مع إسرائيل والدخول فى متاهات جديدة قد تستغرق سنوات طويلة، وهو ما يتفق تماما مع المخطط الإسرائيلى العام لتحقيق مآربها الإقليمية.
وسعيًا وراء تحقيق مأربها: تقدمت إسرائيل بمكانين للموقع الذى تدعيه للعلامة 91، القاسم المشترك بينهما أنهما يتركان منطقة طابا فى أيدى إسرائيل، وهو ما يعتبر فى حد ذاته ضَرْبًا من الهزل لا يستقيم مع من يهدف لكسب قضية أمام محكمة دولية.
فالدولة التى تعمل لكسب قضية أمام محكمة دولية يلزم إذا كانت جادة فى مسعاها أن تعرض موقفها بوضوح ولا تقول مكان العلامة إما هنا وإما هناك، الأمر الذى يضعف موقفها من البداية.
كما قامت إسرائيل بطمس معالم العلامة 90 بعد أن تركتها فى موقعها ولم تدمرها ولم تخطر مصر بأنها قد أزالت جزءًا من الهضبة، وأبقت على الرقم 9 فقط لإيهام مصر أنها العلامة 91. وطوال سنوات المفاوضات لإبرام مشارطة التحكيم من إبريل 1982 إلى سبتمبر 1986 عندما وقعت مشارطة التحكيم فى فندق مينا هاوس، أبقت موضوع إزالة جزءٍ من الهضبة سرًّا ولم تصارح مصر بأنها أزالت العلامة الأخيرة عندما شقت الطريق الذى يربط طابا بميناء إيلات على الجانب الإسرائيلى من الحدود ومصر .
كان قرار مجلس الوزراء الإسرائيلى فى يناير 1986 بقبول الالتجاء إلى التحكيم لحل النزاع معلقًا على شرط بأن تكون هناك مرحلة توفيقية ضمن إجراءات التحكيم، ومصر لم تعترض على هذا الشرط على أساس أن الهدف الذى تسعى إليه مصر هو عرض النزاع على جهة قضائية وهذا يتحقق بقبول إسرائيل للتحكيم. أما المرحلة التوفيقية التى سوف تتخلل التحكيم فقد نظرت إليها مصر على أنها لا ضرر منها ما دام ما تتمخض عنه قابل للقبول وللرفض.
بعيدا عن البطولات
وعلى عكس تناول وسائل الإعلام لقضية طابا بأنها كانت «معركة عسكرية» أفرزت بطولات، يقول الدكتور العربى إن النزاع حول طابا برمته منذ بدايته فى إبريل 1982 وحتى نهايته فى مارس 1989 لم يكن معركة عسكرية التحم فيها خصمان، وقام أحدهما بأعمال بطولية عرض فيها حياته للخطر مما يستدعى الإشادة بها.
والواقع أن وزارة الخارجية (الإدارة القانونية والمعاهدات) هى التى كانت مسئولة عن دراسة الوثائق والمستندات وإعداد المواقف لمواجهة إسرائيل فى مختلف مراحل النزاع بدءًا من مفاوضات عقيمة للاتفاق على وسيلة حل النزاع عن طريق التوفيق أو التحكيم، والتى استغرقت سنوات إلى إعداد مشارطة التحكيم الذى استغرق تسعة شهور من مفاوضات مكثفة، ثم تقديم ثلاث مذكرات إلى هيئة التحكيم والاشتراك فى محاولة التوفيق التى أجراها المحكم الفرنسى «بيير بيليه» (Pierre Bellet) ـ بناء على تفويض من هيئة المحكمة.
وكنت عند القيام بهذه المهام الجسام أعمل فى إطار تعليمات واضحة المعالم، صادرة من القيادة السياسية التى تابعت بصورة مباشرة جميع التطورات. وفى إحدى المرات التى استقبلنى فيها رئيس الجمهورية، ذكر بالحرف الواحد «أنه يعتبرنى المسئول أمامه عن موضوع طابا ولن يقبل أن أبرر أى موقف بأننى قمت به بناء على تعليمات صدرت لى أيا كان مصدرها».
كما أن الحكومة المصرية أدارت «قضية طابا» بأسلوب علمى متحضر على أعلى مستوى مهنى. فالمسئولية منذ البداية أُلقيت على كاهل وزارة الخارجية التى تولت الدراسة والتنسيق واتخاذ القرارات المطلوبة. وفى هذا الإطار تم التنسيق مع جميع الجهات الحكومية ذات الصلة بمنتهى الشفافية وروح التعاون.
لذلك اتجه التفكير إلى تكوين لجنة قومية تضم خبراء مصريين على أعلى مستوى فى جميع التخصصات ذات الصلة، وكان الأستاذ الدكتور يونان لبيب رزق ــ رحمه اللـه ــ يتولى بعمق وإخلاص الجوانب التاريخية كما تولى الأستاذ الدكتور أبو الحجاج يوسف سكرتير عام الجمعية الجغرافية بتفان شديد الجوانب الجغرافية. ولم يكن صعبًا اختيار القانونيين لأن أسماء ألمع أساتذة القانون الدولى فى مصر كانت وزارة الخارجية على معرفة بها وكنت أنا شخصيًّا، على معرفة بها. وتم بالفعل اختيار كوكبة من كبار المتخصصين فى القانون الدولى مثل الدكتور وحيد رأفت والدكتور مفيد شهاب والدكتور طلعت الغنيمى والدكتور أحمد القشيرى والدكتور صلاح عامر والأستاذ سميح صادق.
وعلى الرغم من أن الدكتور چورچ أبى صعب لا يقيم فى مصر لأنه يعمل أستاذًا للقانون الدولى فى معهد الدراسات الدولية فى چنيڤ منذ سنوات، فإنه قبل المهمة وقدم إسهامات قيمة وبالغة الأهمية. وقد صاحبت وزير الخارجية وقتئذ الدكتور أحمد عصمت عبد المجيد فى مقابلات مع وزراء العدل والدفاع والبترول والتعليم، وطلب من هذه الجهات أن تنتدب ممثلين للتعاون مع وزارة الخارجية، ونتيجة لهذه المقابلات تقرر أن يمثل وزارة العدل كل من المستشار أمين المهدى الذى أصبح فيما بعد رئيسا لمجلس الدولة والمرحوم المستشار الدكتور فتحى نجيب الذى أصبح فيما بعد رئيسا لمحكمة النقض ثم رئيسا للمحكمة الدستورية العليا، وكلاهما شارك فى جميع مراحل التحكيم وكانا يتقدمان بتحليلات ونصائح على درجة عالية من المهنية والحكمة وبعد النظر، كما كان المستشار أمين المهدى عضوًا فى وفد المباحثات لإبرام مشارطة التحكيم.
وقبل أن تبدأ المرافعات الشفوية وجدا أنه بوصفهما «قضاة» فإنه سوف يكون من غير المناسب أن يترافعا أمام هيئة التحكيم وقدرت لهما هذا الموقف.
وزير البترول كلف الچيولوچى أحمد عبد الحليم رئيس هيئة المساحة الچيولوچية والچيولوچى صلاح حافظ بتمثيل وزارة البترول، وكانت لهما إسهامات هامة. أما وزارة الدفاع فكانت ممثلة فى البداية باللواء بحرى محسن حمدى ثم باللواء فاروق لبيب ثم باللواء خيرى الشماع، كذلك كان العميد المهندس محمد الشناوى يمثل المساحة العسكرية.
وكان كل منهم مثالا حيا للإخلاص والتفانى فى أداء العمل، وقمت من جانبى بالاتصال بالجمعية التاريخية والجمعية الجغرافية والمساحة الچيولوچية وإدارة المساحة العسكرية لنفس الغرض، ثم اقترحت على وزير الخارجية تشكيل لجنة قومية فى يونيو 1985 تحت رئاسة وزير الخارجية وتوليت مهمة المقرر والمنسق لهذه اللجنة بوصفى مدير الإدارة القانونية. واجتمع رئيس الجمهورية مع أعضاء اللجنة القومية فى قصر عابدين للاستماع إلى وجهات نظرهم وإعطاء التوجيهات.
كما أن الفريق الذى كان يعمل فى وزارة الخارجية كان متفانيًا فى عمله إلى أقصى درجة وكان يشمل عددًا كبيرًا من السفراء منهم إبراهيم يسرى وبدر همام وحسن عيسى وأحمد أبو الخير ومحمود عثمان ومحمد عز الدين عبد المنعم ووجيه حنفى وأحمد فتح الله ومحمد جمعة وحسين مبارك ومحمود سامي.
وفى مراحل معينة قدمت الوزيرة فايزة أبو النجا إسهامات قيمة، وبالذات بالنسبة لمستندات فترة عصبة الأمم ولكنها لم تشارك فى أثناء اجتماعات هيئة التحكيم لأنها كانت فى نهاية الحمل وتمت الولادة فى أثناء المرافعات.
وحضر الوزير أحمد ماهر السيد والسفير مهاب مقبل بعض مراحل التحكيم، وشارك الأخير فى بعض الاجتماعات الخاصة بالمرحلة التوفيقية، وبذل السفير ماجد عبد الفتاح جهودا ضخمة فى مرحلة تنفيذ الحكم. أما وجيه حنفى ومحمد جمعة فقد كرسا خمس سنوات كاملة من عمرهما فى التعاون الوثيق معى فى الدراسة والإعداد والتفاوض والمرافعات إلى أن صدر الحكم.
إسرائيل توافق على التحكيم
فى منتصف يناير 1986 وافقت حكومة إسرائيل على عرض النزاع على التحكيم، وتم الاتفاق على البدء فى مباحثات لصياغة مشارطة التحكيم، وكانت مصر قد قررت أن يكون موقفها الإستراتيجى الذى لن تتنازل عنه يدور حول ضرورة إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل احتلال إسرائيل لسيناء.
وفى هذه المرحلة كنت أعتمد على نصائح الدكتور چورچ أبى صعب الذى كانت لديه خبرة عملية فى بعض منازعات الحدود الدولية التى عرضت على محكمة العدل الدولية.
وتشاورت مع چورچ وأخذنا فى الاعتبار أن جميع إجراءات التحكيم بما فى ذلك المذكرات سوف تُعَد باللغة الإنجليزية وأن عددًا كبيرًا من أساتذة القانون المصريين لا يجيدون هذه اللغة. واتجه الرأى إلى ضرورة الاستعانة بعدد من المحامين الذين يجيدون اللغة الإنجليزية ويمارسون التحكيم الدولى.
وقبل أن تنعقد هيئة التحكيم شكلت مصر الوفد الذى سوف يقوم بعرض وجهة نظرها وحججها القانونية والتاريخية والمساحية أمام الهيئة برئاستى بصفتى وكيل الحكومة المصرية. وكان لى نائبان: السفير أحمد ماهر السيد الذى تولى إدارة الشئون القانونية الدولية بعد تركى لها وتعيينى فى چنيڤ، والسفير مهاب مقبل وكان وقتئذ يعمل مديرًا لمكتب وزير الخارجية .
بعد انتهاء المرافعات الشفوية التى تمت على جولتين: الأولى فى مارس والثانية فى إبريل 1988، وبعد قيام المحكم الفرنسى بيليه بمحاولات التوفيق بين الطرفين واقتراحه قبول الموقف المصرى، كان واضحًا أن اتجاه هيئة التحكيم سيكون فى صالح مصر، وبالفعل تسربت بعض أنباء غير مؤكدة حول هذا الموضوع.
وعقب مماطلات ومحاولة للتنصل من الموافقة على التحكيم فى قضية طابا أصدر مجلس الوزراء الإسرائيلى بيانًا فى 14 يناير 1986 قبول إسرائيل الالتجاء إلى التحكيم الدولى.
وبعد مرافعات شفهية وتقديم وثائق لهيئة التحكيم تخللهما مرواغات ومناورات إسرائيلية تحدد يوم 29 سبتمبر 1988 موعدًا للنطق بالحكم، وذلك فى جلسة رسمية فى قاعة ألاباما الشهيرة فى مقر حكومة مقاطعة چنيڤ، وقد جاء حكم هيئة التحكيم قاطعًا وحاسمًا فى أن منطقة طابا تقع غرب الهضبة التى تطل على خليج العقبة، وأنها بالتالى تقع داخل الأراضى المصرية. وقد تضمن الحكم الأدلة المساحية والتاريخية والجغرافية التى لا جدال حولها.
وبالطبع كان كل طرف على علم بقرار المحكمة، وأن الحكم سوف يصدر (لصالح مصر) بأغلبية أربعة أصوات ضد صوت واحد.
عراقيل إسرائيلية
بدأت الصعوبات والعراقيل الإسرائيلية، والتهرب من تحديد موعد للتنفيذ فور النطق بالحكم، ولم يكن أمام مصر سوى الاستمرار فى ممارسة الضغط على إسرائيل لتنفيذ الحكم. وقد أدى تعثر تنفيذ الحكم إلى ضيق شديد لدى الحكومة المصرية، وقرر رئيس الجمهورية عقد اجتماع تحت رئاسته فى أواخر يناير 1989فى مقر الرئاسة دعيت لحضوره، ونظرًا لغياب وزير الخارجية حضره الدكتور بطرس غالى وزير الدولة للشئون الخارجية.
وقد شارك فى هذا الاجتماع الدكتور عاطف صدقى رئيس الوزراء والدكتور رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب والمشير عبد الحليم أبو غزالة وزير الدفاع ومديرا المخابرات العامة والمخابرات العسكرية، كما حضر الدكتور زكريا عزمى والسفير أسامة الباز.
وبعد إدلاء الحضور بآرائهم حول التعنت الإسرائيلى واستحالة قبول الطلبات الإسرائيلية، قرر رئيس الجمهورية الإدلاء بتصريح شديد العنف يطالب إسرائيل بالانسحاب الفورى ويعلن فيه أن مصر لن تقبل استمرار المماطلات والمناورات الإسرائيلية وأنها قد تلجأ إلى تدمير جميع المنشآت فى طابا وحرقها. وبعد مناقشات تقرر عدم ذكر «الحرق» حتى لا تستغله إسرائيل وتشوه معناه.
بعد أيام من التصريح العنيف الذى أدلى به رئيس الجمهورية، تم استئناف المفاوضات فى طابا وكان واضحًا أن الموقف الإسرائيلى قد تغير.
وعند وصول التفاوض إلى ما اعتبرته مصر مقبولًا ويتفق مع المبادئ المتعلقة بحماية السيادة المصرية وعدم إضفاء مركز قانونى متميز لمنطقة طابا بحيث يطبق عليها ما هو نافذ بالنسبة لجنوب سيناء، تم تحديد يوم 26 فبراير 1989 موعدًا لتوقيع وثيقة انسحاب إسرائيل من طابا.
وكان لاختيار يوم الانسحاب النهائى قصة طريفة: بعد أن انتهت المباحثات واتُّفق على توقيع وثيقة الانسحاب يوم 26 فبراير 1989 كان من المقرر أن يتم سحب الوجود الإسرائيلى بجميع صوره من طابا خلال عشرة أيام. وقبل توقيع الوثيقة بساعات حضر إلى حجرتى «إبراهام صفير» المستشار القانونى الأمريكى، وذكر أنه يستحيل أن تنسحب إسرائيل خلال عشرة أيام، وأنه قد حضر ليرجونى الموافقة على أن يتم الانسحاب يوم 15 مارس. وفوجئ صفير تمامًا عندما أعربت عن ترحيبى أن يتم الانسحاب يوم 15 مارس، وذكر أنه لم يكن يتوقع قبولى ما يقترحه بهذه السهولة، لأننى درجت على رفض جميع طلباته.. فماذا حدث هذه المرة؟! ابتسمت وقلت له لم يحدث شىء، كل ما هنالك أن يوم 15مارس هو يوم عيد ميلادى.. وكانت تعليماتى بأن يتم الانسحاب الشامل بأسرع ما يمكن، ولم يكن تأخير بضعة أيام له أهمية؛ لذلك وافقت.
إسدال الستار
الفصل الأخير فى ملحمة طابا من الناحية السياسية كان دعوة من رئاسة الجمهورية للمشاركة مع باقى أعضاء وفد الدفاع الذى شارك فى جلسات هيئة التحكيم للتوجه إلى طابا للمشاركة فى الاحتفال برفع رئيس الجمهورية لعلم مصر على أرض طابا يوم 19 مارس 1989، أى بعد أربعة أيام من انسحاب إسرائيل، كما وجهت الدعوة إلى الدكتور حامد سلطان المحكم الذى كان عضوًا فى هيئة التحكيم. وكان متعبًا صحيًّا ولكنه تحامل على نفسه حتى يشارك فى الاحتفال. وشارك من هيئة الدفاع الدكتور أحمد القشيرى والمستشار الدكتور فتحى نجيب والمستشار أمين المهدى والدكتور مفيد شهاب والدكتور طلعت الغنيمى والدكتور صلاح عامر والدكتور يونان لبيب رزق والدكتور يوسف أبو الحجاج.
وذهبنا جميعًا فى طائرة خاصة مع بعض أعضاء مجلس الشعب وبعض الوزراء الحاليين والسابقين، كان من بينهم الدكتور محمد حسن الزيات وزير الخارجية الأسبق الذى عملت تحت رئاسته فى نيويورك وفى مكتب وزير الخارجية. وشاركنا فى احتفال كبير مهيب كانت فيه قيادات الدولة، كما شارك فيه عدد كبير من الصحفيين والفنانين.
وبعد أن رفع رئيس الجمهورية العلم إعلانًا باستعادة طابا، اغرورقت عيناى بالدموع وأنا أنظر إلى الوراء وأتذكر المشاكل والمتاعب التى مررت بها خلال السنوات السابقة. وقفنا جميعًا فى انتظار أن يتكرم رئيس الجمهورية بتحيتنا وشكرنا، كما أبلغتنا مراسم رئاسة الجمهورية قبل بدء الاحتفال. وبالفعل اتجه رئيس الجمهورية نحونا ثم سمعنا من ينادى: يا ريس.. يا ريس.. وتبين أن المنادى كان الممثل الراحل فريد شوقى وكان بجانبه الفنانة يسرا وهشام سليم، ثم عدنا إلى القاهرة. وبذلك أسدل الستار على ما أطلق عليه «قضية العصر».
اللجنة العلمية لمركز الدراسات التاريخية بدار الشروق: المصداقية والشفافية والتلقائية تجمعت فى كتاب نبيل العربى فى مقدمة كتاب الدكتور نبيل العربى «طابا.. كامب ديفيد.. الجدار العازل.. صراع الدبلوماسية من مجلس الأمن إلى المحكمة الدولية» كتبت الدكتورة لطيفة محمد سالم مقررة اللجنة العلمية لمركز الدراسات التاريخية بدار الشروق قائلة : «إن ما كتبه الدكتور نبيل العربى لا يدخل تحت المذكرات، وإنما الذكريات التى تصاحبها رؤية تحليلية، ولم تكن تلك الأخيرة قد ران عليها الزمن، وإنما هى شاخصة فى ذاكرته، يستحضرها بسرعة فائقة وبجميع تفصيلاتها، ففى أثناء لقاءاتنا معه، كنا نرى ــ وهو يقص علينا ما كان يحدث وخاصة المتعلِّق بصعوبة التفاوض مع إسرائيل ــ كأنه ينقل لنا صورا قد التقطها بالأمس القريب. ومن ثم فإن المصداقية والشفافية والتلقائية تجمَّعت فى شكل كلمات وسطور وصفحات، تبيِّن وتوضح ماذا حدث فى صراعنا مع العدو، وتبرز كيفية التشدّد والتصلب معه، وما هى الطرق والمسالك والدروب التى توصل إلى تحقيق المراد، وهل يمكن الاستفادة من تجارب منْ سبقونا، وإلى أى مدى نستطيع تحقيق ذلك.
لقد أصابت اللجنة العلمية لمركز الدراسات التاريخية بدار الشروق، حينما شجعت اقتراح مقررها الأستاذ الدكتور يونان لبيب رزق (يرحمه الله) أن يُستكتب الدكتور نبيل العربى أحد فرسان الخارجية المصرية عن دوره فى قضايا جوهرية وشائكة، وفى مقدمتها قضية طابا، حيث كان مشاركا معه ضمن هيئة الدفاع عنها، ولمس عن قرب مدى أهمية العمل الذى قام به هذا الدبلوماسى على أكمل وجه بالقانون والمنطق والحس الوطنى العالى (…) وكان الهدف أن ما سوف يكتبه يُشكِّل دورا لا يقل فى أهميته عن الدور العملى الذى أدّاه، بل إنه باق دائما وأبدا، وذلك بعد أن ينتقل من ذاكرة صاحبه إلى سجلات تاريخ مصر المعاصر، ليشهد على أحد أبناء مصر البررة الذين تفانوا فى سبيل رفعة شأن بلادهم.