مجانية التعليم فى مصر بين التقرير والإلغاء.. أصل الحكاية

آخر تحديث: الجمعة 24 مايو 2013 - 2:54 م بتوقيت القاهرة
سعيد إسماعيل على

طوال عشرات القرون، إبان حكم الفراعنة، لم يعرف المصريون الطريق إلى دفع مصروفات مقابل تعليم أبنائهم. والشىء نفسه طوال ما يقرب من اثنى عشر قرنا من دخول مصر تحت مظلة الإسلام، بل إن توافر العديد من الأوقاف المخصصة للإنفاق منها على أوجه الخير المختلفة، وفى مقدمتها: التعليم بما من مبان ومرافق، ومن فيه من متعلمين ومعلمين وإداريين، أدى إلى أن يتجاوز الأمر مجرد مجانية التعليم ليصل إلى تكفل تمتعهم بأركان المعيشة من مسكن وغذاء وكساء مجانا، والتأسيس بذلك لأعظم ما شهده التعليم ما سميناه بـ«العدل التربوى».

 

حتى عندما بدأ محمد على نهضة تعليمية على النمط الأوروبى الحديث، حرص على أن تتكفل الحكومة أيضا لا بأجر التعليم، بل وإسكان الطلاب، وكسوتهم وتغذيتهم!

 

إلى أن ابتُليت مصر بكارثة الاحتلال البريطانى عام 1882، فماذا حدث؟

 

 كان المعتمد الأول لسلطة الاحتلال اللورد كرومر يصدر تقرير سنويا عن أحوال مصر، ويهمنا هنا التوقف بعض الشىء أمام ما جاء فى تقريره عام 1905، بصفة خاصة، وإن لم تخل تقاريره السابقة من الحديث عن القضية نفسها، فقد شرح بتفصيل ووضوح منطق سلطات الاحتلال فى التدرج فى إلغاء المجانية، حيث أشار (ص 132 من التقرير) إلى أن ما أخذته الحكومة من التلاميذ أجرة للتعليم سنة 1881، أى قبل الاحتلال بعام نحو 2300 جنيه فقط، لكن بعد مجىء الاحتلال بسبع سنوات، أى عام 1890، بلغ 17000 جنيه، ثم أصبح 76000 سنة 1904، وقدر أن يصبح 90000 جنيه فى العام التالى، أى 1905.

 

وكانت هذه هى السياسة البريطانية فى كل البلاد التى استعمرتها، وهو ما وقف أحد اللوردات المحترمين يفضحه فى مجلس العموم البريطانى نفسه، مما أشار إليه كرومر مبديا أسفه لهذا المنطق، حيث أشار إلى ما قاله اللورد ماكولى فى العاشر من يوليو عام 1833 بخصوص السياسة التعليمية الإنجليزية فى الهند: «هل نُبقى أهالى الهند جهلاء لكى يبقوا خاضعين لنا؟»، ثم أجاب عن هذا السؤال بالنفى والازدراء، قائلا: «إن الحكومات كالأفراد، قد تشترى وجودها بثمن فاحش، والسياسة التى مؤداها أن يقتل الإنسان نفسه لكى يحيا، غاية فى الخرق والسخافة، سواء فى الأفراد أو فى الحكومات».

 

كذلك كتب فى التقرير نفسه يقول: «لما احتل الإنجليز مصر سنة 1882 وجدوا أن كل ما تنفقه الحكومة على المعارف العمومية إنما تنفقه على تعليم أولاد فئة صغيرة أكثرها من أغنى أغنياء السكان، ولا تعلمهم إلا تعليما أوروبيا، فأخذوا فى تغيير تلك الحال، وبذلت الهمة منذ عام 1884 لأخذ الأجور من التلامذة، ولإبطال التعليم المجانى تدريجيا».

 

ولم يكن هذا الذى كتبه كرومر مصورا لواقع الحال، وهو ما يكشف عنه تقرير سابق للجنة العلمية الإدارية الخاصة بالتعليم فى محضرها فى 13/6/1901، فبعد أن أكدت أن مدة الدراسة ــ فى ذلك الوقت ــ فى المدرسة الابتدائية التى كانت أربع سنوات لا تكفى لإعداد موظفين للحكومة، وكان التوظف بالابتدائية أمرا شائعا أيامها، لاحظت اللجنة: «ومع ذلك فقلة المصروفات المدرسية بها تدعو كثيرا من العائلات غير المتيسرة لإدخال أولادهم بها أملا فى حصولهم فيما بعد على وظائف الحكومة».

 

ثم تذكر اللجنة فى المحضر نفسه بعد ذلك: «ولملافاة هذه المضار الجسيمة، (وهى التحاق أبناء العائلات الفقيرة بالتعليم) رأت اللجنة العلمية الإدارية لزوم التعديل فى شروط القبول بالمدارس الابتدائية بحيث لا يقبل فيها إلا الطلبة الذين تسمح لهم حالتهم بالاستمرار على تلقى التعليم الثانوى والعالى بقدر الإمكان، ويكونون من طبقة من الأهالى راقية نوعا تحول تربيتهم الأولية دون الإضرار بمن يختلط بهم من التلامذة!».

 

ومن هنا فقد قررت اللجنة رفع المصروفات المطلوبة من كل تلميذ، وفقا لمستوى التعليم، والمدرسة، وعلى سبيل المثال، فتلميذ المدرسة الداخلية الذى كان يدفع 25 جنيها تقرر أن يدفع ثلاثين.

 

أما التلاميذ الخارجية ــ أى يبيتون فى بيوتهم ــ فقد كانوا نوعين: أــ بدون غدا، حيث كانت مصروفاتهم تتراوح بين 150 و420 قرشا، وفقا للصف، تقرر توحيد مصروفاتهم لتصبح خمسة جنيهات. وأما المدارس الخارجية التى يصرف فيها غداء فقد رفعت المصروفات من ستة جنيهات إلى ثمانية.

 

ولعل هذا ما جعل الجريدة الوطنية (اللواء) التى كان مصطفى كامل يصدرها، أن تكتب فى عددها الصادر فى 20/1/1902، بانية دعواها بأنه، إذا كانت «العلوم والفضائل تكفل للأمة القوة.. فقد عرفنا الطريق».

 

ثم ندد الكاتب بدعوى «نظارة ــ وزارة ــ المعارف» بأن أبناء الأغنياء يتعرضون ــ بسبب مجانية التعليم التى تتيح لأبناء الفقراء فرصة الالتحاق بالمدارس ــ لعدوى سوء الأخلاق عن طريق مخالطة أبناء الفقراء، المتهمين بسوء الخلق، مؤكدا أن من تسمهم سكرتارية المعارف فقراء فاسدى الآداب مفسدى الأخلاق، أو فى أدبا وأوفر كمالا وأشد اجتهادا وأكثر نجاحا، وأحرص على حسن السمعة والشمائل الفاضلة من بعض أولئك الأغنياء الذين تشفق عليهم من سريان العدوى إليهم».

 

وفى عدد أسبق من اللواء (1/1/1902) نشر أحد الكتاب، مؤكدا أن هذه السياسة هى نفسها سياسة حزب المحافظين فى بريطانيا، حيث يرون أن الشرف يتم توارثه من الأجداد إلى الآباء، إلى الأبناء، أما الفقير، فيجب أن يحرم منه: يجب أن يتأصل الجهل فى نفسه، يجب أن يموت أدبيا، بل يجب أن يعدم من الوجود، ولو كان أهلا لكل سمو وعلاء!».

 

وإذا كان هذا هو الصوت الوطنى، إلا أن الأمر لم يعدم وجود بعض من رجال الإدارة العليا، المرتبطة مصالحهم بقوى الاحتلال من أن «يفلسفوا» الدعوة إلى إلغاء المجانية، ومن أبرز هؤلاء «يعقوب أرتين» أحد أركان الإدارة العليا فى أوائل عهد الاحتلال، بل ومن قبل ذلك، فقد وصف فى كتابه (القول التام فى التعليم العام،  ص 46) المجانية بأنها «شىء مخالف للذوق السليم، ومنافٍ للعدالة».

 

وهو يشرح علة وصفه بأنها مخالفة للذوق السليم بأن «الحكومة التى تعجز ماليتها عن تعليم النهاية الصغرى (الشريحة الدنيا) من بنيها المترشحين للتعليم، وعددهم ٥٠٠ ألف، وتقتصر على تعليم 7800 منهم لا ينبغى لها أن تقبل فى مدارسها من التلامذة إلا من يدفع المصروفات حتى يتولد عندها إيراد تتمكن به من تكثير المدارس».

 

إن الزيف فى هذا المنطق يكمن فى الادعاء بأن الأنسب لعموم الفقراء هو الاتجاه لتعليم الكتاتيب، ومن ثم فإن فرض المصروفات على طلاب التعليم العام، يعين الحكومة على مزيد من الإنفاق على أولاد الفقراء فى الكتاتيب، حيث لم ينتبهوا إلى تساؤل مهم مؤداه: وما الذى يدفع أصلا إلى التصور بأن الشرائح الاجتماعية الدنيا، هى وحدها المكلفة بالشرائح الدنيا من العمل المناسب لتعليم الكتاتيب، وأن الشرائح المتوسطة والعالية هى وحدها الصالحة لتقلد الوظائف العالية؟

 

أما وصف المجانية بمنافاتها للعدالة، فيكمن فى زعم «أرتين» أنها تقتضى: «تكليف المالية نفقة فريق من أبناء الممولين دون الآخرين، وبيان كونها تستعمل فى غير ما وضعت لأجله أنها إنما تنال بالنفوذ، وهذا منطق متهافت أيضا، فإذا كان الالتحاق بالمدارس كان يتم بالواسطة، نظرا لعدم توافر ما يكفى من أماكن لطلاب التعلم، فإن من يحصل على هذه الواسطة لابد أن يكون من غير الشرائح الفقيرة، فضلا على المعدمة.

 

وأقر فيلسوف تعليم الاحتلال يعقوب أرتين بعسر التغيير المنشود بإلغاء المجانية، بالنسبة لفريق كبير من الفقراء «وذلك لأن هذا الفريق قد اعتاد أن يرى الحكومة متكفلة بتربية بنيه أبا عن جد وتعليمهم، آخذة على عهدتها ما يلزم لهم من مأكل ومشرب وملبس وسكنى».

 

ورغم مرور قرنين من الزمان على هذا الجدل، فما زال البعض يفكر وفقا لهذا المنطق الطبقى المريض، ليس بالضرورة عن طريق الحديث والكتابة، بل يكفى التمعن فى أوضاع مصروفات التعليم الراهنة على المستوى الواقعى، لتعرف عزيزى القارئ للتأكد من صحة هذا الذى نقول، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

 

دفتر أحوال التعليم فى مصر (1)

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved