شواهد القبور (15 والأخيرة).. محمود سامي البارودي رب السيف والقلم

آخر تحديث: الإثنين 25 مارس 2024 - 9:22 ص بتوقيت القاهرة

محمد حسين

تحتضن مدينة القاهرة، تراثا ثريًا ومتنوعا، يقف شاهدا وموثقا لأحداث تاريخ، وشخصيات مرت على مصر في حقب مختلفة من تاريخها الممتد.

ولا يقتصر تاريخ القاهرة على مساجدها التاريخية ومآذنها الشامخة أو القصور المنيفة؛ ففي مقابرها وجباناتها كنوزا مخفية لم يرها ولم يوثقها الكثير من قبل.

ووثق الدكتور مصطفى الصادق، أستاذ الطب المتفرغ بقصر العيني والمهتم بالتاريخ والتراث، جولاته بجبانات مقابر القاهرة التي أمضى بها سنوات عديدة، وجمع مادة ثرية من صور المقابر التاريخية، وصدرت أواخر يناير الماضي في كتاب: "كنوز مقابر مصر.. عجائب الأمور في شواهد القبور"، عن دار ديوان للنشر.

وتشارك "الشروق"، قراءها رحلة التعرف على الكنوز المخفية لجبانات ومقابر القاهرة من خلال حلقات مسلسلة تحت عنوان "شواهد القبور"، ما يمنحهم زاوية جديدة لإعادة قراءة تاريخ مصر وأحداثه:

الحلقة الأخيرة

نختتم جولاتنا في مقابر القاهرة التاريخية بعدما مررنا بشواهد قبور 14 شخصية كان لها دور فاعل في تاريخنا الحديث والمعاصر.

ونقف في الحلقة الأخيرة أمام قبر محمود سامي البارودين صاحب التأثير الكبير في الأدب والشعر العربي، بجانب كونه جنرالا وقائدا عسكريًا له شأن كبير في العهد الخديوي؛ ما أكسبه لقب رب السيف والقلم.

* نسب شريف

هو ابن حسن بك حسني بن عبد الله بك الجركسي، وينتهي نسبه إلى المقام السيفينوروز الأتابكي الملكي الأشرفي، أحد رجال الملك الأشرف قايتباي المحمودي المتوفى سنة 894 هـ.

وكان محمود سامي باشا شديد العناية والحرص على معرفة نسبه، ويُقال إنه أنفق نحو ثلاثة آلاف جنيه في تحقيق نسبه، والبارودي نسبة إلى بلدة إيتاي البارود بالبحيرة، وكان أحد أجداده الأمير مراد البارودي بن يوسف جاويش ملتزما لها فنسب إليها.

* باشجاويش

ولد سنة 1255هـ الموافقة سنة 1840 في سراي والده بباب الخلق بشارع غيط العدة بالقاهرة ونشأ بها، وتُوفّي والده وكان عمره سبع سنوات فكفله قريب له، وتلقى مبادئ العلوم على أساتذة في منزله، ثم التحق بالمدرسة الحربية وتخرج فيها برتبة «باشجاويش» في عهد محمد سعيد باشا، ثم سافر إلى الأستانة وتقلد بها إحدى الوظائف لمعرفته باللغة التركية، وهناك درس الفارسية وآدابها.

وعاد إلى مصر في أوائل حكم الخديوي إسماعيل، والتحق بالجيش، وترقى إلى رتبة القائمقام فرتبة الأميرالاي، واشترك في حرب كريت سنة 1866، وفي الحرب بين تركيا وروسيا سنة 1877، ولما عاد إلى مصر رقي إلى رتبة اللواء وعين مديرًا للشرقية، ثم محافظا للقاهرة، ثم عيّن وزيرًا للمعارف والأوقاف في وزارة رياض باشا الأولى، وأعيد ناظرًا للحربية في نظارة محمد شريف باشا.

وتولى بعد ذلك رئاسة الوزراء، وناظر الداخلية في أيام الثورة العرابية، واشترك فيها، وعندما انتهت الثورة ودخل الإنجليز القاهرة، قبض عليه وحكم عليه بالإعدام، ثم استبدل بالنفي إلى جزيرة سرنديب (سيلان)، وسافر إليها في 27 ديسمبر سنة 1882، وهناك علم أهلها اللغة العربية، وهو شاعر كبير، وكان عصاميا في الشعر، ولم يتعلق شاعر من معاصريه بغباره.

وأصيب "البارودي"، وهو في المنفى بارتشاح في القرنيتين أفقده النظر، وقرر الأطباء عودته إلى مصر، فعاد إليها في سبتمبر سنة 1900 (بعد أكثر من 17 عامًا)، وعفا عنه الخديوي عباس حلمي الثاني، ومنحه حقوقه المدنية، ورد إليه أملاكه الموقوفة، وحصل على متجمد ريعها من ديوان الأوقاف.

قال عنه عبد الرحمن الرافعي: "للبارودي شخصيتان شخصية أدبية وشخصية سياسية، أما الشخصية الأدبية فهي شخصية خالدة؛ إذ هو إمام الشعراء المحدثين قاطبة، وباكورة الأعلام في دولة الشعر الحديث، وهو أول من نهض به فبعث النهضة الشعرية من مرقدها بعد طول الخمود، وأما الشخصية السياسية فهو رجل الدولة ولكن كانت تنقصه الكفاءة السياسية والإلمام بأسرار السياسة الدولية وحقائق المسألة المصرية.

* صفاته

كان رحب الصدر، رقيق الشمائل، لا يسأم جليسه، ولا يمل حديثه، لا يحب الفحش ولا ينطق به، ولا يرضى أن يُذكر أحد في مجلسه بنقيصة، ولا يذكر من أحوال من عاشرهم إلا المحاسن والفضائل.

وكتب بخط الفنان يوسف أحمد على التركيبة البرونز الخارجية بخط الثلث: "أنشأت هذه المقصورة لفقيد الأدب في بلاد العرب رب السيف والقلم من أحيا دولة الشعر بعد القدم الأمير الأفخم والوزير الأعظم الوارث الإمارة عن أبيه وجده البالغ رئاسة الوزارة بسعيه وَجِدِّه ذي المقام السامي محمود باشا سامي البارودي المتصل نسبه بالأمير نوروز الأتابكي المتوفىسنة 894، وكانت وفاته رحمه الله لست خلون من شوال سنة 1322 عن سبع وستين سنة، وكان الفراغ من إنشائها في شوال سنة 1323 من الهجرة النبوية"

وكتب على التابوت الخشبي الداخلي: "بسم الله الرحمن الرحيم يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنّات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم صدق الله العظيم ورسوله الكريم، أنشأ هذا التابوت للمرحوم الأمير محمود باشا سامي البارودي المتوفى ليلة الثلاثاء لست خلون من شوال سنة 1322 هجرية، وكان الفراغ منه في جمادى الثانية سنة 1323".

* الخطاط الفنان يوسف أحمد

وخلال جولاتنا في شواهد القبور التاريخية اتضح مع براعة اختيار الكلمات والجمل الموثقة لمآثر المتوفى وفضائله، الخطوط التي رسمت بها تلك الكلمات، والتي عبرت عن فن رفيع كان خلفه فنانون أفذاذ ومنهم يوسف أحمد "مؤرخ وعالم آثار مصري".

ولد يوسف أحمد يوسف بالقاهرة سنة 1869، وكان والده مهندسا في لجنة حفظ الآثار العربية، وهو الذي وجهه إلى دراسة فن الخط العربي؛ إذ التحق بلجنة حفظ الآثار العربية، وفي سنة 1891، عُيّن رسامًا وخطاطا بها، وبسببه أضيف الخط الكوفي إلى الخطوط التي تعلمها مدرسة الخطوط.

وتدرج في الوظائف حتى عين مفتشا للآثار العربية بوزارة الأوقاف المصرية، وأستاذًا للخط الكوفي بالجامعة عام 1907، حتى توفاه الله سنة 1942.

ويُعَدُّ يوسف أحمد الباعث لفن الخط الكوفي الحديث وأستاذ الخطاطين، وأحد المجددين في هذا النوع من الخطوط العربية، وله الريادة في انتشال الخط الكوفي من الضياع بسبب إهماله في العصور المتأخرة.
أقرأ ايضاً:

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved