رواية باقي الوشم.. البحث عن الأمل المفقود

آخر تحديث: الأربعاء 29 يناير 2025 - 6:12 م بتوقيت القاهرة

إيمان صبري

لا شيء أقسى علينا من اليأس إلا الأمل لأننا نظل معلقين به ويتجدد هذا التعلق على أبسط الأسباب التي قد يضيع العمر ولا تنتهي ولا تأتي بما نريد في النهاية، وهكذا عاشت حمضة لسنوات طويلة أسيرة الأمل تنتظره، أوتنتظر الربيع كما اعتادت أن تطلق عليه، الربيع الذي ودعته منذ سنوات طويلة لا تستطيع أن تحصيها بل تعرفها باللحظة التي فقدت فيها أغنامها وودعت الصحراء دون رغبة منها على أمل العودة، ولم تكن تعلم أنها سوف تصبح هي وعائلتها أسرى الانتظار لسنوات طويلة يتغير فيها كل شيء كانت تعرفه حمضة.
بين صفحات رواية الوشم للكاتب عبدالله الحسيني الصادرة عن منشورات تكوين، الحاصلة على جائزة غسان كنفاني عام 2024، ندخل إلى تاريخ الكويت من بوابة الصحراء، بالتحديد مرحلة انتقال البدو والعائلات منها إلى المدينة، يرصد ما فقده هؤلاء خلال رحلات انتقالهم الجبرية فقد كانت هناك محاولات لتغيير شكل الصحراء والمدينة فتغيرت خارطة عائلات واختلطت الأوراق وإذا بنا أمام أصعب أنواع الشتات حين تغترب داخل وطنك، تنتمي له ولا تنتمي، فالانتماء الذي تعرفه أنت غير ذلك الذي فرضته الدولة ومن ثم الظروف حتى عرف الشعب للمرة الأولى جنسية تسمى "البدون".
عن هؤلاء يتحدث الكاتب برصد ظروف معيشتهم بين القوانين وبين انتظار حمضة الذي لا ينتهي ويتمثل في شعورها الدائم بالبرودة بالرغم من ارتفاع درجات الحرارة.
تعيش حمضة مع ابنها وعائلته الذين تكتفي منهم بحجرة بسيطة تطل على فناء المنزل وتتمكن في جلستها من متابعة حركة النجوم فتبدو حمضة وكأنها تعيش في عالم آخر وهي كذلك بالفعل، أو لعل ذلك ما كان في استطاعتها أمام هذا الرفض والتضييق شأنها في ذلك شأن كثيرين ممن يحملون جنسية "البدون" لمجرد مشكلات حدثت شككت في هويتهم، لتصبح حمضة هنا في مضمونها كناية عن وضع المجتمع الذي انقسم إلى جزئين كل منهم يعيش في معزل عن الآخر وكان شعور حمضة بالبرد هو شعور الغربة في الوطن.
استطاعت حمضة أن تعيش بمعزل عن هذه الحقائق ومعاناة من هم على شاكلتها وكأنها لم تفقد حياة الصحراء وتودعها، بل تستغرق فيها بين حين وآخر وتفرضها على من حولها حين تتفقد أغراضها القديمة التي لم تفقد الأمل في استخدامها مرة أخرى في يوم من الأيام، يذكرنا الكاتب هنا بالعادات والتقاليد التي نحاول استدعائها في غير موضعها وسط أناس يتنكرون لها ويرفضونها فكيف تفقد حمضة جنسيتها وهي تحمل على كاهل سنوات عمرها الطويلة هذا التاريخ؟ وما يزيد الأمر سوء أنها تستيقظ من فترة لأخرى على قسوة الواقع في معاناة ابنها الوحيد وابنتها وأحفادها.
خليف هو ابنها الوحيد الذي لم يستطع أن يفعل شيء في مواجهة الجنسية التي تحرمه من الكثير من الحقوق سوى أن يلتحق بعمل تابع للدولة يوفر له المسكن وفرص تعليم غير مستقرة لابنائه، فتتحول حياته إلى نوبات غضب بين غياب الأم وقسوة الواقع.
وضحة هي الابنة الوحيدة، ضحية محاولات تغيير الهوية بين ليلة وضحاها دون أن نعرف ما السبب، هل هو رغبة في الهروب مما أورثنا إياه الماضي من متاعب وحروب وتوجهات سياسية طاحنة؟ هل هي محاولات للتقدم؟ وهل يعني التقدم أن تتخلى عن كل ما كان يرمز إليه الماضي؟
فإن لم يكن لك تاريخ تستند إليه متمثل في العادات والتقاليد سوف تعود حتما بعد حين خالي الوفاض لا تعرف الربيع أبدا، تصبح الحياة إما قيظ يعني الحرمان إما شتاء يغرقك في المزيد من الشتات الذي بإمكانه أن يحول المجتمع كله إلى "بدون" فالوطن ليس جنسية على ورق بل هو أفكار وتاريخ وصراعات تشارك فيها وتتحمل تبعاتها.
وبين هذه التساؤلات لم تجد وضحة مفر سوى الهجرة إلى كندا بالرغم من معارضة أمها، فإذا بها تواجه المصير الأقسى على الإطلاق.
مريم الحفيدة التي لم تجد مهرب من واقع عائلتها سوى التنصل منه أمام الناس وصب اللعنات على الجدة التي كانت جذورها البدوية هي السبب، وما يزيد الأمر سوء احتفاظ حمضة بزيها البدوي والوشم على وجهها وكف يديها.
محمد الحفيد الذي لم يجد مهرب من سوء الحياة وتناقضها سوى التعامل معها كما هي، يبدو في تمام الرضا لكنه بعيد كل البعد عن ذلك، استسلم للواقع بعد محاولات عديدة للثورة والتمرد، ولكن كل تصرفاته تنذر بالانفجار.
عبود هو راوي الأحداث ورمانة الميزان في المنزل يعترف بالواقع لكنه يؤمن في إمكانية تغييره، لا يشعر بالحقد على أحد بل بالعكس يلتمس العذر ل حمضة وأحيانا يشعر القاريء أنه يتمني أن يعيش مثلها أو كما قررت أن تعيش.
كما يمثل جيل يدفع ثمن كل ما لم يشارك فيه أو يصنعه فيشير إلى التمزق بين الوعي بالحاضر والتطلع لمستقبل أفضل، وحب الماضي بكل ما كان عليه وتسبب فيه.
وبذلك تمثل عائلة حمضة في مجملها الجيل الذي ورث برودة الوطن التي تشعر بها حمضة لكن لكل منهم رد فعل يختلف عن الآخر بين الهجرة، غضب، تسليم، هروب من الواقع إلى الحلم، لكن تظل حقيقة أن هذه الأسرة بمشكلتها الأساسية في وضع ليس بالغريب على أوطاننا ولا علينا فنحن مولعين بالتصنيفات دينية كانت أواجتماعية حتى وإن لم نفصح عن ذلك.
وتستمر حياة حمضة وأحلامها ومعاناة عائلتها التي تبدو وكأن كل منهم يعيش بمعزل عن الآخر ولا يربط بينهم وبين الجدة سوى اللكنة التي جاءت في صورة سرد متميز سيطرت عليه اللكنة البدوية المحببة التي كانت في بعض المواضع يغلب عليها الصعوبة التي تدفع القارئ للتساؤل لماذا لم يستعين الكاتب بالهوامش لمزيد من التوضيح؟ ولكن لهذه الكنة الغارقة في التراث هدف يتضح من الأحداث التي تفرض لغتها كما تفرض مضمونها، فقد أراد الكاتب التأكيد على هوية حمضة وعائلتها التي تواجه التشكيك من خلال اللكنة الغارقة في تراث وأعماق التاريخ.
وتستمر الأحداث بين انتظار حمضة ويوميات أسرتها ورجوعها الخاطف للتاريخ والعودة إلى الواقع الذي رغم مرارته ينتظر الجميع أن يتغير، وخلال ذلك تكشف أن حمضة اسم في واحد من معانيه يعني المذاق اللاذع ولذلك معني روائي بالوجود القوي.
كما يتضح العنوان فالوشم الذي يرسم على جسد الإنسان بأصعب الطرق منذ الصغر يصعب الخلاص منه ومهما حدث له من تغيرات بتغير الجسم بمرور الزمن يظل منه أثر لا يمحى وهكذا الانتماء للوطن هو وشم في القلب لا يمحى سوى بتوقفه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved