الشاعر علاء الدين يمزق عباءة الرومى لينقل «كيميا» من سجن «المنقول» إلى براح «المعقول»

آخر تحديث: السبت 28 نوفمبر 2020 - 1:58 م بتوقيت القاهرة

محمد سمير ندا

لسنا أمام معارضة روائية هذه المرة، على الرغم من أن الرواية تحمل فى طياتها تناولا هجائيًا ثائر اللهجة لرواية إليف شافاك الشهيرة (2009)، وبشكل أكبر رواية «بنت مولانا» للفرنسية موريل موفروى (2004)، ولكن هذه السردية تحمل بالأساس طابع المعارضة التاريخية أكثر مما تعارض روايات سابقة الإصدار. يرتكز الروائى فى سرديته على أحداث حقيقية، من وقائع رحلة قام بها عام 2006 بتكليف من «المركز العربى ــ ارتياد الآفاق» لزيارة مدينة قونية التركية للمشاركة فى الاحتفال بمرور 800 عام على وفاة جلال الدين الرومى، وكان يتعين ــ وفق الواقع والنسيج الروائى ــ على الروائى، كواحد من ثلاثة موفدين؛ أن يوثق رحلته وفق منظوره الخاص، وذلك ضمن مشروع عربى معنى بالأدب الجغرافى العربى، أشرف عليه آنذاك الشاعر نورى الجراح.
صدرت الرواية فى عام 2019 عن دار الشروق فى مصر، ونظرًا لموجة المد الصوفى التى تسربت إلى الأدب العربى الحديث منذ رواية إليف شافاك، وأعنى هنا موجات النزوح الجماعى للأقلام العربية المعاصرة إلى القرن الثالث عشر لاستحضار سيرة الرومى وشمس التبريزى، سواء عبر المرويات التاريخية أو الموازية، الأمر الذى أدى بدوره إلى تسلل مفردات اللغة الصوفية إلى الكثير من الروايات التى تدور فى أزمنة مغايرة، لكل هذه الأسباب، لم أتحمس لقراءة رواية «كيميا» فى البداية، وقد صنفتها حسب عنوانها كمجرد رواية أخرى عن جلال الدين الرومى، خصوصًا وأننى لم أكن من دراويش شافاك، وروايتها الأكثر مبيعًا طيلة السنوات الماضية.

الحلم والتجسد كركيزة سردية أولى
يمزج الشاعر والروائى وليد علاء الدين بين الواقعى والمتخيل، قهو يقدم نفسه كبطل الرواية الموفد لحضور احتفالية الرومى كما أسلفت، ولكن؛ الراوى هنا تنتابه نوبات من التجلى، أو الأحلام الصافية (Lucid Dreams).

على هذه العتبة النصية، يشيد الكاتب بنيانه الروائى، فمن خلال نوبات التجلى والأحلام التى تراود الراوى بصورة تتماس بشكل كبير مع الحقيقة، بحيث يصعب فصل الواقعى عن المتخيل، تتسلل روح علاء الدين ولد، ابن جلال الدين الرومى، وعاشق كيميا الطعين، إلى الحاضر، لتوجه البطل إلى البحث عن حقيقة موت كيميا، التى أخفاها المؤرخون تحت عباءة القطب الصوفى الأعظم.

يتجسد علاء الدين ولد كقرين للكاتب، وكأن روحه قد حلت فى جسد هذه الأخير، يحاوره ويوجهه إلى جهات معلومة، يطلب منه البحث عن قبر كيميا التى ظلت إلى يومنا هذا بلا قبر، مأسورة فى هوامش حكايات تأثرت أقلام رواتها بالمسّ الصوفى الشعرى، وطغيان حضور الرومى وشمس التبريزى، فما كان من هؤلاء إلى أن شاركوا ــ عن غير قصد ــ فى المؤامرة التاريخية على كيميا.

توسيع الهوامش، واستبدال الأدوار
قدمت موفروى شخصية كيميا كفراشة شفيفة مجذوبة لنور الرومى وشمس التبريزى، وحمّلت شخصية الطفلة بخصال وخصائص لا تتسق مع عمرها، فحتى الأنبياء والرسل لم يلامسوا تلك الدرجة من الوجد والسمو الصوفى فى عشق الله فى مرحلة سنية كتلك، جاءت كيميا موفروى مسخًا يرضى فضول مستشرقة مسّها جلال المثنوى، وإن كانت أكثر حيادية فى وصف مشاعر كيميا غير المستقرة تجاه شمس، ما بين الفضول والخوف والهوى.
أما شافاك، فقد زعمت أن كيميا ذابت فى عشق شمس، وأن موتها جاء بعد رفضه لتوحد جسديهما (لاحظ أن كيميا طفلة فى الرابعة عشرة)، وقد عارضت شافاك بذلك وصف موفروى للحظات الحميمية التى جمعت كيميا وشمس فى روايتها، وإن كانت قد صبغت تلك المشاهد بمسحة صوفية تغرس بذرة عشق الله فى وحدة الجسدين. فى كلتا الروايتين، ومع اختلاف مساحة الدور الممنوح لكيميا؛ ظلت الطفلة حائرة بين الهوامش، دون ملامح واضحة تشى بحقيقة حكايتها، وتقترب من حدود المعقول.
ثم جاء وليد علاء الدين، فمدّ قلمه موسعًّا الهوامش، حيت تتكور كيميا جنينًا معلقًا، ونطفة لفظها التاريخ خارج أرحام الصحف المنقولة. ينقل الكاتب كيميا إلى المتن، ويلقى بالرومى وخليله شمس فى هوامش الحكاية، يمنح منصة السرد لعلاء الدين ولد، الذى لم نسمع صوته فيما سبق من الحكايات إلا فيما ندر، فقد ورد ذكره فى أغلب الآونة كابنٍ عاقٍ عارض تصوف أبيه على يد الدرويش القادم من تبريز. تنفجر ثورة علاء الدين ولد بين الصفحات، يسكب غضبته المكبوتة منذ سبعة قرون فى صدر الراوى، فهو العاشق الذى سُلب حبيبته، وشهد على مراسم تقديمها قربانًا بشريًا لشمس التبريزى، كحيلة من الرومى لإبقاء الرجل فى كنفه، وإغوائه بطفلة غضة تثنيه عن تكرار الرحيل. غير علاء الدين الكاتب/ابن الرومى العناوين، وعزل الرومى وتبريز بعيدًا عن مركز الحكاية، وطمس صوتيهما بعدما ملكا عبر التراث الأسطورى مركزية لا تزعزعها التأويلات والاستفسارات، موجهًا بذلك ضربة المعول الأولى فى بنيان الأسطورة.

بين التأريخ، ومعارضة التاريخ، وأدب الرحلات
عبر التنوع السردى الذى استخدمه الكاتب، قسم الرواية إلى قسمين، أولهما نوبات حلول روح علاء الدين ولد فى جسد الراوى، وتوازيًا مع ذلك يسرد الراوى تفاصيل رحلته التى استهدفت الوصول إلى مرقد جلال الدين الرومى عبر تدوين نفاصى الرحلة، ومراسلاته مع الشاعر نورى الجراح، المشرف على الرحلة.
هنا كادت الرواية تسقط فى فخ التأرجح بين التقريرية التصويرية التى تعد سمة أساسية لأدب الرحلات، ومحاولة تأريخ الرحلة الحقيقية التى قام بها الكاتب من جهة، والمعارضة التاريخية التى حملها القسم الأول من الرواية، فى بعض الأوقات، شعرت أن بعض تفاصيل الرحلة الحقيقية كانت قابلة للحذف، دون أن تخل بسياق الحدث الرئيسى، مثل زيارة قبر جحا وما شابه ذلك من أحداث مضافة. إلا أن بعض هذا التفاصيل (وليس كلها)، قد ساهم بشكل إيجابى فى توثيق حالة التحول عن مقصد الرحلة الأولى إلى رحلة ثانية أسمى وأنبل هدفًا، فالوصول الروحى إلى الرومى وصومعته الصوفية لم يتحقق، إذ حاد الفؤاد عن اتباع صوت الإنشاد، واهتدى بصراخات كيميا وعلاء الدين ولد إلى رحلة بديلة.

القصّ وألاعيب السرد
من الممتع أن تقرأ رواية لشاعر، لا يمكننى هنا الجزم بسيطرة اللغة الصوفية على مفردات الراوى، فهذه المفردات الشعرية الحافلة بالصور كانت مناسبة لعلاء الدين ولد، أما الراوي/وليد علاء الدين، فقد امتلك ناصية لغته الخاصة، لغة الشاعر التى لا تخلو من جماليات ثرية. علاوة على ذلك فقد جاء التناوب الزمنى بين الأحداث، الماضي/الحلم، والواقع/التوثيقى، سلسًا فى العموم، وقد أجاد الكاتب فى توظيف الألوان والطبيعة بشكل لافت، كما مارس لعبة سردية ممتعة عبر استحضار المرايا فى مشاهد الحلول والتجلى، لتقوم بدور سحرى عكس بعض سمات ألف ليلة وليلة، وهو ما استحسنته كثيرًا كقارئ.

تحكم الراوى بصفته الكاتب فى مسار السرد كراوٍ أساسى، ولكنه منح ــ كما أسلفت ــ مساحة ليست قليلة لعلاء الدين ولد، وكيميا وأمها وجدتها للمشاركة فى قص الحكاية، جاء إلقاء الضوء على امتزاج الأديان فى عائلة كيميا ليمنحا طابعًا إنسانيًا خالصًا، ففى عروقها يسرى مخلوط من دماء بوذية وزرادشتية ومسيحية ومسلمة، وهى لذلك تحضر بصفتها التاريخية، وكرمز إنسانى عام لا يحتمل القولبة.

ما وراء الحكاية
قام وليد علاء الدين بتحرير كيميا من التاريخ المنقول عبر منحها قبرًا صوريًا. نحن إذا أمام عملية روائية/فدائية تهدف إلى تحرير الآلاف من شبيهاتها، واستعادة سير كل المقهورين بسطوة التاريخ الذى يكتب وفق أهواء المؤرخين، أزاح الراوى ثوب الأسطورة عن رفات الممحوين من الضعفاء فى صحف التاريخ، عبر استحضار روح فتاة ماتت فى عمر الثالثة عشرة دون أن تحصل على شاهد قبر (الخامسة عشرة وفق روايتى موفروى وشافاك).

تفردت الرواية بجرأة استجواب التاريخ، وحملت أمرًا روحيًا للعقول المستنيرة بضبط واستحضار الرومى وشمس التبريزى، بعدما فككت بنيان التراث المهيمن على العقول. مزق الكاتب عباءة الرومى، ولم يهتم بتتبع مصير شمس التبريزى الذى عادة ما يحار فيه الرواة، أسقط عمامة مولانا فظهر للرومى وجهًا مغايرًا (موثقًا بالمصادر)، وجه آخر لا يبدى ذات الدرجة من التسامح بين الأديان، وجه متعصب عبوس لا يجد غضاضة فى خيانة الأمانة الموكلة إليه فى شخص كيميا، ويرتضى بتقديمها عطيّة لدرويشه العجوز، الذى يقبلها بشراهة وطمع لم ينقل لنا التاريخ شيئًا عنهما.
عبر الطعن فى جسد المنقول، والتشكيك فى الرومى وصحيح أشعاره وصاحبه التبريزى لحساب المعقول، يوجه الكاتب دعوة صريحة ما أحوجنا إليها، دعوة بتغليب العقل على النقل، وتحطيم الأصنام، سعيًا إلى تحرير كل الأرواح المنفية خارج صحف التاريخ.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved