كتاب حكاية الحكايات لـ أماني العشماوي.. براعة السرد وسحر الحكي في نسيج قصصى ممتع

آخر تحديث: الجمعة 28 فبراير 2025 - 6:35 م بتوقيت القاهرة

أسماء سعد

رحلة مشوقة بأسلوب يرسخ لمجموعة من القيم الإيجابية والأفكار البراقة 


نصوص بديعة، مصحوبة برسومات ساحرة، تشكل قوام كتاب «حكاية الحكايات وبناتها»، الصادر عن «دار الشروق» للكاتبة أمانى العشماوى؛ حيث مجموعة من الحكايات التى انتشرت بعد ذلك فى مختلف بلاد وقارات الأرض لتصور روح الشعوب المختلفة وأفكارها ومعتقداتها، والتى قد نجحت الكاتبة معهم، فى أن تأخذ القارئ برحلة تشمل جميع قارات العالم.

فى هذا العمل الأدبى، تغوص الكاتبة فى أعماق الحكاية الشعبية الإفريقية، مستحضرة لحظة ميلادها الأولى بوصفها الأصل الذى تفرعت منه شجرة الحكايات الكبرى التى امتدت أغصانها عبر القارات، ناشرة ظلالها فى مختلف أرجاء العالم، وذلك فى خمس عشرة حكاية شيقة وطريفة، نتعرف من خلالها على الجوانب المشرقة والخيرة من شخصيات كل شعب كما يتعرف أيضا على عيوبه ونقائصه.

بسلاسة واضحة فى الأسلوب، وتميز على صعيد السرد، يجد القارئ نفسه بين مجموعة محطات تشكل ثقافات مختلفة، يكتشف من خلالها كيف تماهت الحكايات مع بيئاتها المتنوعة، فتلونت بطابع كل شعب تبناها، واكتسبت من عاداته وتقاليده ما جعلها تعبر عنه بعمق وصدق. فى هذه الحكايات، تتجلى الطبيعة الإنسانية فى أبهى صورها؛ حيث تتداخل الطرافة مع الحكمة، والسذاجة مع الذكاء، والخير مع الشر، لترسم صورة بانورامية للمجتمعات البشرية بكل تناقضاتها وصراعاتها الداخلية.

 الكاتبة لا تكتفى بعرض الحكايات كقصص ترفيهية، بل تضعها فى سياقها الثقافى والاجتماعى، مما يضفى عليها بعدًا فلسفيًا يتجاوز المتعة إلى التأمل فى طبيعة الإنسان وعلاقته بمحيطه.

الأسلوب السردى الذى تعتمده أمانى العشماوى يتسم بالحيوية والقدرة على الإبقاء على انتباه القارئ حتى اللحظة الأخيرة، إذ تعتمد على تصعيد درامى متقن، يجعل كل حدث يبنى على ما قبله، وصولاً إلى ذروة تشكل لحظة المفارقة، التى تأتى كمفاجأة متقنة الصياغة، لكنها فى الوقت ذاته، تبدو منسجمة تمامًا مع طبيعة الحكاية الشعبية التى غالبًا ما تنتهى بخاتمة تحمل درسًا أو حكمة، تبقى فى ذهن المتلقى أثرًا يدفعه إلى إعادة التفكير فى مجريات القصة.

هذه القدرة على خلق التشويق، مع الحفاظ على روح الحكاية التقليدية، تجعل من العمل تجربة أدبية ممتعة، تحمل فى طياتها أبعادًا معرفية وثقافية، تثرى خيال القارئ وتوسع آفاقه.

يعتمد النص على بنية سردية محكمة تستمد روحها من التقاليد الشفهية للحكى الشعبى؛ حيث تأتى الحكايات فى شكلها الأصلى، لكنها محملة بلمسات حديثة تجعلها أكثر ملاءمة للقارئ المعاصر. لا تكتفى الكاتبة بنقل الحكايات كما وردت فى مصادرها التراثية، بل تعيد تشكيلها عبر رؤية جديدة، تحافظ على أصالتها من ناحية، وتمنحها بعدًا أكثر انسيابية وثراء من ناحية أخرى. هذا المزج بين الأصالة والتجديد يجعل القارئ يشعر وكأنه يستمع إلى راوٍ شعبى، لكنه فى الوقت نفسه يجد فى السرد حسًا معاصرًا يواكب ذائقته الحالية.

ما يميز هذا العمل أنه ليس مجرد مجموعة من القصص المسلية، بل هو نافذة على عوالم متباينة، تسلط الضوء على تنوع الثقافات الإنسانية عبر القارات المختلفة. من خلال هذه الحكايات، نكتشف أنماط التفكير التى ميزت كل مجتمع، ونتعرف على الرموز التى صاغت هويته السردية. بعض الحكايات تكشف عن مجتمعات تقدس الشجاعة والقوة، بينما تبرز أخرى قيم الحكمة والصبر والمكيدة الذكية، فى حين تعكس حكايات أخرى منظومة القيم الأخلاقية التى يقوم عليها التفاعل الاجتماعى فى تلك البيئات. هذا التنوع يثرى التجربة القرائية، إذ يمنح القارئ فرصة لرؤية العالم بعيون الشعوب التى أنجبت هذه القصص.

تلعب اللغة دورًا جوهريًا فى نجاح العمل؛ حيث تأتى فى مستوى بسيط لكنه مشحون بالدلالات، ما يسمح للقارئ بالتفاعل مع النص بسهولة دون أن يفقد عمقه. لا تلجأ الكاتبة إلى الزخرفة اللغوية الزائدة، بل تعتمد على وضوح التعبير، مما يعزز الإحساس بأن القارئ أمام حكايات تروى له مباشرة. ومع ذلك، فإنها تحافظ على نكهة الحكى التراثى، مستخدمة إيقاعًا يجعل السرد قريبًا من روح الروايات الشفوية القديمة. هذا التوازن بين الوضوح والعمق، وبين الحداثة والتقاليد، يجعل النص قادرًا على الوصول إلى مختلف شرائح القراء، سواء الباحثين عن متعة السرد أو المهتمين بالغوص فى طبقات المعنى.

تتكئ الحكايات على قدر عالٍ من الرمزية، حيث تعكس شخصياتها معانى أوسع مما يبدو على السطح. البطل قد لا يكون مجرد فرد يسعى لتحقيق هدف معين، بل هو رمز للإنسان الباحث عن مصيره وسط ظروف الحياة المتقلبة. الحيوان، فى بعض القصص، لا يظهر فقط ككائن فى حكاية خيالية، بل يجسد سمة إنسانية معينة، مثل الذكاء، المكر، القوة أو الوفاء. هذا البعد الرمزى يمنح العمل عمقا فلسفيا غير مباشر، إذ يتيح للقارئ أن يرى فى هذه القصص انعكاسا لمفاهيم أكبر، مثل الخير والشر، الصراع والتوازن، النجاح والإخفاق.

لا تقتصر هذه الحكايات على كونها نصوصا تقرأ ثم تنسى، بل تمتلك القدرة على إحداث تأثير نفسى عميق، حيث تجعل القارئ يعيد التفكير فى القيم والمفاهيم التى تحكم مجتمعه وحياته. بعض الحكايات تثير مشاعر التعاطف، وأخرى توقظ مشاعر الحنين إلى القصص الأولى التى سمعناها فى الطفولة، بينما تترك بعض القصص أثرا يدفع القارئ إلى التساؤل عن المعانى الكامنة خلف الأحداث. هذا التأثير التراكمى يجعل الكتاب ليس مجرد تجربة عابرة، بل عملا يحمل قيمة وجدانية وثقافية تظل عالقة فى الذهن.

تأتى الرسومات التى أبدعها الفنان بهجت عثمان كعنصر بصرى لا يقتصر دوره على التزيين، بل يشكل امتدادًا عضويًا للنص؛ حيث تتفاعل الألوان والخطوط مع إيقاع الحكايات لتقديم تجربة بصرية نابضة بالحياة. لا تكتفى هذه الرسوم بجذب عين القارئ، بل تضفى على النص عمقا دلاليا يعزز من تأثير الحكايات، فتترجم الشخصيات والمواقف والأحداث إلى مشاهد مرسومة تحمل فى تفاصيلها روح السرد وروحانية الحكاية الشعبية. هذه التكاملية بين الصورة والكلمة تجعل من الكتاب تجربة حسية متكاملة، حيث يصبح القارئ مشاركا فى الرحلة، لا مجرد متلق سلبى.

تميزت رسوم بهجت عثمان بأسلوب يعكس روح كل حكاية على حدة، مستخدمًا ألوانًا مشرقة وخطوطًا حيوية تواكب طبيعة النص الحكائى، فتبرز سمات الشخصيات وتجسد المشاهد بزخم تعبيرى يوحى بالحركة والدراما الكامنة فى القصص. لم تكن هذه الرسوم مجرد إضافات جانبية، بل جاءت كمحاور سردية موازية تعكس الطابع الثقافى للحكايات، وتضفى عليها طابعا بصريا ملهما يعزز التفاعل العاطفى مع النص، بما يسهم فى خلق تجربة إبداعية متجانسة، تتكامل فيها اللغة مع الصورة لصياغة عالم سحرى يفيض بالحياة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved