وطنيات ثورة 1919 (28).. أحمد محرم يندد بفظائع الإنجليز ويحث الشعب على الصمود: إن الحياة لأمة مقدامة

آخر تحديث: الخميس 28 مارس 2019 - 12:43 م بتوقيت القاهرة

حسام شورى:

تواصل «الشروق» على مدار شهر مارس، تذكير قرائها بنخبة مختارة من الأغاني والقصائد الوطنية التي أنتجتها عقول شعراء وفناني مصر الرواد، بالتزامن مع ثورة 1919 أو تفاعلاً معها أو مواكبة لمطالبها وشعاراتها، بهدف إلقاء الضوء على أشكال مختلفة من إبداعنا منذ 100 عام ورصد الآثار الكبيرة للثورة على الفن والأدب في مصر.
••••••••••••

يعد الشاعر المصري ذو الأصول الشركسية أحمد محرّم (1871- 1945) من دعاة الوحدة الوطنية والإصلاح الاجتماعي والأخلاقي فضلاً عن دعوته للتمسك بالخلافة الإسلامية، وكان أدباء جيله يضعونه خلف أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وخليل مطران، وهو من دمنهور بمحافظة البحيرة ولم يغادرها إلى القاهرة، وعاصر حادثة دنشواي وكتب عنها كما عاصر بزوغ مصطفى كامل وسعد زغلول، وثورة 1919 وتأثر بهم في شعره الوطني.

وكان يعقد بقهوة المسيري بدمنهورندوته الشعرية كل ليلة، وكان يرتادها مفكرو وشعراء البحيرة والإسكندرية لأنه كان شاعرا حرا ملتزما. فكان مصطفى كامل يعجب بشعره ويشيد به على صفحات جريدة «اللواء» وأسماه «نابغة البحيرة».

فكتب في خضم أحداث ثورة 1919 قصيدة يندد فيها بفظائع الإنجليز في إخماد الثورة، وما ارتكبوه من القتل والتنكيل بالأبرياء:
يا سوء ما حمل البريد ويا لها … من نكبة ٍ تدع النفوس شعاعا
يا رب ما ذنب الذين تتابعوا … يسترسلون إلى المنون سراعا
جرحى وما حملوا السيوف لغارة ٍ … صرعى وما سألوا العدو صراعا
قالوا الحياة فعوجلوا أن يقرعوا … عند النداء بتائها الأسماعا
عزريل نبئ ما أصاب جموعهم … فارتاب ثم رآهمو فارتاعا
مرأى ً يشق على العيون ومشهدٌ … يدمي القلوب ويقصم الأضلاعا
لما أطل الظلم فيه بوجهه … ألقى عليه من الحياء قناعا
ودعا بنيرون الرحيم فما رنا … حتى تراجع طرفه استفظاعا
وصفوا المصاب لدنشواي فكبرت … للمصلحين مقابراً ورباعا
واستيقنت أن الألى نكبت بهم … كانوا أبر خلائقاً وطباعا
يا مصر خطبك في الممالك فادحٌ … ومصاب أهلك جاوز المسطاعا
قومٌ يروعهم البلاء مضاعفاً … وتصيبهم نوب الزمان تباعا
لاذوا بحسن الصبر حتى زلزلت … هوج الحوادث ركنه فتداعى
حملوا القلوب تفور مما تصطلي … وتمور مما تحمل الأوجاعا
إن هاجهم طمع الحياة رمى بهم … خطبٌ يروع منهم الأطماعا
وإذا أرادوا نهضة ً نفرت لهم … حمرٌ خلا الوادي فكن سباعا
سفكوا الدماء بريئة ً وتنمروا … يرمون شعباً لا يطيق دفاعا
أخذوه أعزل آمناً متجرداً … يلقي السلاح وينزع الأدراعا
أمروا فما نبذ الخضوع ولا عصى … ونهوا فأذعن رهبة ً وأطاعا
لم يذكروا إذ نحن نبذل قوتنا … ونظل صرعى في البيوت جياعا
بئس الجزاء وربما كان الأذى … عدلاً لمن يألو العدو قراعا
جاءوا فقومٌ يضمرون مودة ً … ورضى ً وقومٌ يضمرون خداعا
فتكافأ الحزبان في حاليهما … ومضت حقوق العالمين ضياعا
لا يستقل الشعب يترك حقه … ويرى البلاد تجارة ً ومتاعا
يخشى العدو فلا يطيق تشدداً … ويهال منه فلا يريد نزاعا
إن الحياة لأمة ٍ مقدامة ٍ … تعيي العدو شجاعة ً ومصاعا
تزجي إليه من الحفاظ جحافلاً … وتقيم منه معاقلاً وقلاعا
إن سامها في الحادثات تفرقاً … عقدت على خذلانه الإجماعا
وإذا أراد بها الهضيمة أرهقت … همماً يضيق بها الدهاة ذراعا
يا رب مصر تول مصر وهب لها … شعباً يريد لها الحياة شجاعا
لو سيم يوماً أن يبيع بلاده … بممالك الدنيا معاً ما باعا

وكتب في هذه الفترة قصائد أخرى يرثي فيها زعيم الحزب الوطني محمد فريد، وفي قصيدة قرضها في ذكراه في عام 1925 ندد فيها بانقسام الأحزاب وبمساوىء الحكم القائم وقتها:

سائل الأحزاب ماذا عندها.. غير ترجاف وهم مقلق
وتأمل هل ترى اليوم سوى... دولة فوضى وحكم أخرق
فات نيرون ورجال رزقوا.. من فنون الظلم ما لم يرزق
لو جرى فرعون أو هامانه.. يتعاطي شأهم لم يلحق
سجنوا الدستور طفلا ناعما.. واستبدوا بالسجين الموثق
لا جرى النيل على الوادي ولا .. بورك الشعب إذا لم يطلق
تلك ذكرى النيل للنفس التي.. عكف النيل عليها يستقي
هل عين من حياة عذبة.. في يفاع من سناء مشرق
فزعت مصر إلى أبطالها.. فالبس النقع وسر في الفيلق
لا أرى الندة إلا في الأولى.. هم أولو العهد الأبر الأصطق
ننصر الله ونحمي أمة.. نحن منها في الصميم المعرق
همة المقدام من آلائها.. وبيان العبقري المفلق

وفي عام 1925، عين اللورد جورج لويد مندوبا ساميا لبريطانيا في مصر خلفا للمارشال أللنبي الذي استقال من منصبه، وقد حضر المعتمد البريطاني الجديد إلى مصر في أكتوبر من نفس العام، فظم أحمد محرم قصيدة يخاطبه فيها ويحذره من مغبة السياسة الاستعمارية، وفيها يندد بانقسام الزعماء ويهيب بالأمة ألا تقع في شرك الاستعمار ومناوراته، وأن تصمد في الجهاد، فقال:

أتسأل مصر ما حمل العميد … وهل عند الرماة لها جديد؟
هو السهم الذي عرفته قدما … وجرب وقعه الشعب الوئيد
تمرد مبدئ وطغى معيد … ولم تزل الرمية تستزيد
مسيح الهند إن بمصر شعبا … يشق عليك إن خضع الهنود
فأنصف مصر واعص القوم فيها … إذا اطرد الحديث وهم شهود
فما نظر المسالم أين تبغي … ولا عرف المساوم ما تريد
دع الزعماء إن لهم لدينا … يدين بغيره الشعب الرشيد
إذا ذكروا الزعامة فهي دعوى … يكيد بها الكنانة من يكيد
وما تبقى البلاد إذا أصيبت … بمن يبغى الزعامة يستفيد
غزاة الشعب والشعب المواضي … وأسراب الصوافن والجنود
رموه به فنال السهم منه … بقية ما رمى الخصم العنيد
تأمل هل ترى إلا شعاعا … تفرق في الجواء فما يعود
تطير الذاريات به سراعا … دوائب ما لعاصفها ركود
كأن القوم حين جرى عليهم … قضاء الله عاد أو ثمود
لمن تتألب الأحزاب شتى … وما هذي الصواعق والرعود
تداعوا للوغى فهوى صريعا … على أيديهمو الوطن الشهيد
مضت أسلابه تزجى إليهم … فمأتمه لدى الأقوام عيد
تضج جموعهم فرحا إذا ما … دعا بمصابه الناعي المشيد
برئت إلى الكنانة من أناس … أضاعوها فليس لها وجود
قضينا الدهر ننشدها فضاقت … مذاهبنا وأخففت الجهود
لعمرك إن ما تعد الأماني … لحسب النفس لو وفت الوعود
عميد الغاصبين نزلت أرضا … يبيد الغاصبون ولا تبيد
يذود الواحد القهار عنها … إذا قهرت جنودك من يذود
أتذكر إذ لقومك ما أرادوا … وإذ لكرومر البطش الشديد
تطوف جنوده فتصيد منا … ومن سرب الحمائم ما تصيد
أتذكر دنشواي وكيف كادت … جوانبها بأهليها تميد
تضج من العذاب ولا سبيل … إلى غير العذاب ولا محيد
أقامت لا يتاح لها هبوط … يزول بها ولا يقضى صعود
ولو ظفرت بأجنحة لأمست … لها بين النسور مدى بعيد
يدير بها على القوم المنايا … قضاء تستبد به الحقود
أقاموها على الضعفاء حربا … من العدوان ليس لها خمود
فما تعيا المشانق بالضحايا … ولا تفنى السياط ولا الجلود
لئن فزع الفتى والشيخ منها … فما أمن الجنين ولا الوليد
يعاقبنا الجناة ولا كتاب … يقام به القضاء ولا حدود

ويشير إلى طغيان اللورد كرومر وكيف أكرهته مصر على الاستقالة من منصبه:

سيوف الجند مظهر كل حق … ورأي كرومر الرأي السديد
أتذكر إذ نعاتبه فيطغى … ويهدر في مقالته الوعيد
أخذناه بقارعة ألحت … عليه فزال واشتفت الكبود
صدعنا ركنه فانقض يهوي … وذاب الصخر أجمع والحديد
هوى جبل من العدوان عال … وزلزل للأذى صرح مشيد
ونحن القائمون بحق مصر … إذا ما استسلم القوم القعود
نضن بمصر إن عدت العوادي … ولكنا بأنفسنا نجود
هي الذمم المصونة والعهود … فما يبغي كرومر أو لويد
أخا السكسون هل نبئت أنا … جلاوزة لقومك أو عبيد
لقد كذبوا عليك فليس فينا … لمن يبغي الهضيمة مستقيد
إذا سعت الوفود إليك فاحذر … عواقب ما تقول لك الوفود
فما أجد بمالك أمر مصر … وما بالشعب جبن أو جمود
مضت دنيا القيود وتلك دنيا … تذم بها وتحتقر القيود
أتلك ديارنا أم نحن موتى … تقام لنا المقابر واللحود
حمينا ما حمى الآباء قدما … وصان لنا وللنيل الجدود
بلاد ما تباع وباقيات … من الآثار معدنها الخلود
أيسمع صيحتي في مصر قوم … هم اللهب المؤجج والوقود
أبر الناس عندهم المداجي … وشر القوم ذو النصح الودود
رأوا برهان شاعرهم فزاغوا … وللأحداث شاعرها المجيد
رماهم بالزواجر لا ارتياب … إذا رمت الوجوه ولا جحود
تموج مع الدياجر في يديه … صحائف من خطوب الدهر سود
له في كل آونة جديد … من البلوى يقال له نشيد
لنا منه النحوس تصيب منا … مواطنها وللقوم السعود
أما والناهضين لغير مصر … لقد عثرت بنا وبها الجدود
إذا ساد التخاذل في أناس … فأعوز ما ترى شعب يسود

وقال في عام 1927 يدعو إلى اليقظة السياسية، ويندد بالتراخي في الوطنية:

تسعى الشعوب ونحن في غفلاتنا … نأبى الفعال ونكثر الأقوالا
يا شرق ما هذا الجمود أميتٌ … فنطيل حول رفاتك الإعوالا
لو لم تمت لسمعت دعوة صائحٍ … ذعر الدهور وأفزع الأجيالا
يا باعث الموتى ليوم معادها … تنساب من أجداثها أرسالا
أعد الحياة لأمة ٍ أودت بها … غفلاتها فثوت سنين طوالا
وأضئ لها سبل النجاة ليهتدي … من زاغ عن وضح الطريق ومالا
وتولها بالصالحات ولقها … منك الأمان ووقها الأوجالا
وامنن عليها من لدنك بقوة ٍ … توهي القيود وتصدع الأغلالا
لا تجعلنا في المهانة آية ً … تخزي الوجوه وفي الجمود مثالا
واجمع على صدق الإخاء فضاضنا … فلقد تفرق يمنة ً وشمالا
أودى بنا بين الشعوب تباغضٌ … صدع القلوب ومزق الأوصالا
ما نستفيق وما نزال لحيننا … في الخاسرين من الورى أعمالا
تستفحل النكبات بين ظهورنا … ويزيد معضل دائنا استفحالا
نلهو ونلعب جاهلين وإنني … لأرى حياة الجاهلين محالا
لهفي على الشرق الحزين وأمة ٍ … لا تبتغي عزاً ولا استقلالا
الله يحكم في الممالك وحده … ويصرف الأقدار والآجالا

وقال أيضا في هذا المعنى عام 1927 موجها حديثه للشعب:

ادفع بنفسك لا تكن متهيباً … ما اعتز في الأقوام من يتهيب
عجز الفتى في ظنه ورجائه … الظن يخلف والرجاء يخيب
إشرع لأمتك الحياة ولا يكن … لك في حياتك غير ذلك مأرب
لم يعرف الأقوام حقاً واجباً … إلا وخدمتها أحق وأوجب
لو شئت لم تعتب عليك ولم يلم … وطنٌ أسأت به الصنيع معذب
تعب المطالب والرجاء مفجع … ما انفك يرزأ بالخطوب وينكب
ترمي يد الحدثان منه مروعاً … حل العقاب به وأنت المذنب
هل عند نفسك للحفاظ بقية ٌ … تحمي البقية من حياة ٍ تسلب
ذهب الألى كانوا الغياث لأمة ٍ … حاق البلاء بها وضاق المذهب
صدعت تصاريف الخطوب رجاءها … فهوى وطاح بها الزمان القلب
بطشت أناملها فأعوز ساعدٌ … وأعان ساعدها فخان المنكب
ذهبت ملمات الزمان بنورها … مما تكر على الهداة وتجلب
في كل مطلع شارقٍ ومغيبه … قمرٌ يزول وفرقدٌ يتغيب
رزئت بينها الصالحين وغودرت … ولهي مروعة ً ترن وتندب
تلغ العوادي في نقيع دمائها … فيطيب من فرط الغليل ويعذب
لم يبق منها غير شلوٍ مسلمٍ … عكفت عليه ضباعها والأذؤب
يدعو الحماة الناصرين ودونهم … ناب يهال النصر منه ومخلب
تجد القلوب عزاءها وعزاؤه … أعيا وأعوز ما يرام ويطلب
عزيته فأبى وما من ريبة ٍ … غيري يخون وغيره يتريب
وأنا الوفي إذا تقلب خائنٌ … شر الرجال الخائن المتقلب
لم أدر إذ جن الظلام ألوعة ٌ … بين الحشا أم ذات سم تلسب
في القلب من مضض الهموم مثقف … ماضٍ ومكروه الضريبة أشطب
قل للفوارس والأسنة والظبى … الهم أطعن في القلوب وأضرب
لو طار في الهيجاء عن يد قاذفٍ … ذاب الحديد له وريع الأسرب
حربٌ يصد البأس عن هبواتها … ويهاب غمرتها الكمي المحرب
ما الحرب موقعة ٌ يطيح بها الفتى … الحرب ما يشقي النفوس وينصب
كذبت ظلال السلم كم من وادعٍ … فيهن يرجو لو يصاب فيعطب
ما العيش في ظل الهموم بنافعٍ … الموت أنفع للحزين وأطيب

وغدا حلقة جديدة...

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved