قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة».. لهيكل: تطوير الهجوم المتأخر يتسبب فى حدوث ثغرة الدفرسوار (7)

آخر تحديث: الثلاثاء 28 أكتوبر 2014 - 7:18 م بتوقيت القاهرة

عرض- خالد ابو بكر

السادات عطل التطوير يوم 9 أكتوبر بقرار «الوقفة التعبوية» ليبدو «حسن النية» أمام گيسنجر

الرئيس أصـــدر أمـــر الاندفــــاع إلــــى المضايــــق يـــوم 12 أگتوبــــر رغــــم اعتــراض گاســح مــن الشــاذلى وواصــل ومأمــون

فشل تطوير الهجوم يوم 14 أكتوبر وخسرت مصر 240 دبابة.. وأمسكت إسرائيل بالمبادرة واخترقت خطوطنا عند «الدفرسوار»

هدف العبور الإسرائيلى لغرب القناة هو احتلال أرض يمكن المساومة عليها فيما بعد

تصور السادات بعد فشل التطوير أن دور السلاح فى الحرب يتراجع وأن دور السياسة يتقدم

تدخل بنا هذه الحلقة من القراءة التى تقدمها «الشروق» لكتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» للكاتب الصحفى الكبير محمد حسنين هيكل ، إلى محطات مفصلية فى تاريخ حرب أكتوبر، ذلك أنها تستعرض الظروف والملابسات التى أدت إلى صدور قرار الرئيس أنور السادات بقيام القوات المسلحة بإجراء «وقفة تعبوية» عطلت تنفيذ المرحلة الثانية من الخطة «بدر»، التى تقتضى الاندفاع شرقا للسيطرة على خط المضايق الاستراتيجية (40 ــ 50 كيلو شرق القناة)، بعد إتمام العبور والاستيلاء على خط بارليف وتوسيع رءوس الجسور فى الشرق، فضلا عن إعطائه أمر تطوير الهجوم للوصول للمضايق بعد أن تغيرت المعطيات على الأرض فى غير صالح قواتنا، وما رافق هذا القرار من تحذيرات واعتراضات من قادة كبار فى غرفة العمليات التى يدار منها القتال، ثم فشل هذا التطوير الذى تم تنفيذه صباح يوم 14 أكتوبر، وترتب عليه اكتشاف العدو لمنطقة المفصل بين الجيشين الثانى والثالث، وتنفيذ خطته لاختراق خطوطنا عند «الدفرسوار».

يقول الكاتب الكبير ـــ فى كتابه الصادر عن دار «الشروق» ــــ عن مجرى الحوادث يوم 10 أكتوبر 1973 «لم يكن السادات فى أحسن أحواله هذا اليوم، فقد بدت ساحة الحرب أكثر اتساعا من مقدرة رجل واحد على إدارتها. وفرغ من قراءة تقرير الموقف العسكرى، ثم جاءته بعدها رسالة كيسنجر التى وصلت قبل ساعات إلى حافظ إسماعيل. وقرر أن يرد عليها. وكان رده على نحو ما بعيدا عن واقع اللحظة ومستبقا لتطورات الحوادث. وقد بدا واضحا فى سطورها أن السادات فى تلهفه على مواصلة الاتصال بكيسنجر بدأ يقترب أكثر وأكثر من منطقة حساسة لا تستوجبها فى تلك اللحظات ضرورات الموقف».

ويضيف: «من المفارقات أنه عند تسليم هذه الرسالة (منشورة بكاملها فى الكتاب) إلى مندوب المخابرات المركزية الأمريكية فى القاهرة، جرى إبلاغ المندوب بأن الرئيس السادات يتمنى لو استطاع كيسنجر أن يقوم بزيارة القاهرة لبحث موضوعات الساعة مباشرة مع الرئيس الذى يسعده أن يوجه دعوة إلى وزير الخارجية الأمريكى، إذا تلقى إشارة بأن الدعوة مقبولة». ويعلق الأستاذ بأن «ما يلفت النظر أن كيسنجر حين قرأ رسالة السادات استخلص منها نتيجتين: أن الرئيس المصرى يدعوه إلى تقديم مقترحات من عنده، وأنه لم يعد يطالب بتسوية شاملة».

ويؤكد «الأستاذ» أن «الضغوط كانت شديدة على السادات، ولم يكن الضغط مقصورا فقط على ما يجرى فى ميادين القتال، ولا على مناورات كيسنجر التى اختلفت فيها تصرفاته فى واشنطن عن رسائله إلى القاهرة اختلافا فادحا، وإنما زادت على ذلك ضغوط من العالم العربى. ذلك أن الرأى العام العربى على امتداد المنطقة من المحيط إلى الخليج، بدأ يستشعر أن انتصارا عربيا هائلا قد تحقق، أو هو على وشك أن يتحقق.

ويتابع بأن «الضغوط وصلت مداها بعد الظهر حين تلقى السادات ردا على آخر رسالة بعث بها إلى كيسنجر، تحمل تهديدا مبطنا يحذر من استمرار الحرب. ويبدو على نحو ما أن السادات استخلص منها أنه مطالب بإبداء نوع من إشارات حسن النية أمام الجانب الأمريكى، وقرر أن يعطى هذه الإشارة. وبعد اتصال بالفريق أحمد إسماعيل كان من الواضح أن هناك قرارا مصيريا على مجرى الحرب قد تقرر اتخاذه دون أن يكون واضحا بالضبط ما سوف يترتب عليه من عواقب ومضاعفات».

وينوه الأستاذ إلى أنه فى «نهاية ذلك اليوم الحافل تم إعلان ذلك القرار الذى اشتهر بقرار «الوقفة التعبوية»، وبمقتضى هذا القرار أعلن القائد العام للقوات المصرية أن قواته سوف توقف ضغطها الذى كان متواصلا حتى هذه اللحظة على امتداد جبهة القتال فى سيناء».

حشد إسرائيلى

وعلى الجانب الإسرائيلى قال الكاتب الكبير وجه الجنرال بارليف يوم 10 أكتوبر دعوة إلى اجتماع للقيادة العامة لبحث ما يمكن عمله على الجبهة الجنوبية (وكان قد أصبح مسئولا عنها بعد عزل قائدها الأصلى الجنرال جونين)، وكان أهم ما تقرر فى هذا الاجتماع: «وقف العمليات المحدودة التى تشتبك فيها قوات الاحتياطى الواصلة إلى الجبهة لأن هذه السياسة أدت إلى بعثرة القوات وتكبيدها خسائر فادحة. ثم إنها جعلت الجبهة كلها فى حالة اهتزاز. وبما أن الجيش المصرى لم يتقدم بعد مساء 7 أكتوبر عندما فرغ من تعزيز مواقع الجيشين (الثانى والثالث) فإن هناك فرصة لالتقاط الأنفاس وحشد قوة كافية للقيام بهجوم كبير، والتفكير والتخطيط لوضع خطة تدفع هذا الهجوم الكبير إلى أية مواقع تتجاوز خطوط 1967، وذلك لمحاولة العبور إلى الناحية الأخرى من القناة لاحتلال أرض يمكن المساومة عليها فيما بعد. مع ضرورة التحرك عسكريا بسرعة لأن الضغوط فى نيويورك تتزايد من أجل اتخاذ قرار فى مجلس الأمن يقضى بوقف إطلاق النار».

ويقول «الأستاذ» إنه «فى صباح 11 أكتوبر فى القاهرة كانت إشارة الخطر بدأت فى الظهور على آفاق ميادين القتال، لكن أحدا لم يتنبه بالقدر الكافى لملاحقة الإشارات وربطها معا، واستخلاص النتائج التى كان يجب استخلاصها منها. ربما كانت أسباب ذلك القصور راجعة إلى مجموعة عوامل تكاثفت معا فغطت على بعض جوانب الصورة».

وأوضح أن هذه العوامل هى «أن السادات فى ذلك الوقت بدأ يركز أكثر على اتصالاته مع كيسنجر، وراوده ظن أن هذه الاتصالات هى النقطة التى يجب أن يكثف عليها جهده الرئيسى. كما أن التنسيق بين الجبهتين المصرية والسورية كاد يتلاشى، وكل ما بقى منه هو إمكانية تبادل بعض المعلومات عن سير العمليات فى حدود ما يقوم به ضابط الاتصال بين الجبهتين. بالإضافة إلى أن قرار القائد الأعلى (السادات) والقائد العام (الفريق أحمد إسماعيل) بأن تتخذ القوات المصرية على الجبهة «وقفة تعبوية»، ثم إعلان هذا القرار أدى إلى نوع من البلبلة لم تعد القوات إزاءه واثقة بالضبط من طبائع مهامها فى هذه المرحلة من القتال، وبجانب ذلك كان مدد السلاح الأمريكى لإسرائيل راح يحدث تأثيره على الجبهة. وفى المحصلة، فإن إدارة الحرب على كل الجبهات بدأت تهتز بطريقة محسوسة على الأرض لأول مرة».

ومن أهم التطورات التى حدثت فى تل أبيب فى هذا اليوم أن «الجنرال بارليف تقدم للمجلس بمشروع خطة لعبور إسرائيلى مضاد إلى الضفة الغربية من قناة السويس، على أن يتم ذلك فى المفصل الحرج بين مواقع الجيشين الثانى والثالث. وخوله المجلس دراسة هذه الخطة وإعدادها للتنفيذ فور صدور قرار سياسى بالبدء فى تنفيذها».

قرار تطوير الهجوم

يؤكد «الأستاذ هيكل» أنه مع صباح يوم 12 أكتوبر «كانت الضغوط المتعددة الواقعة على الرئيس السادات سياسيا وشعبيا شديدة وقوية. وعاد مرة أخرى إلى الاتصال بالقائد العام الفريق أحمد إسماعيل طالبا منه الآن أن يستأنف تطوير الهجوم، ويعود إلى الخطة الأصلية ويتقدم إلى المضايق.

ونتيجة لذلك، فإن الفريق إسماعيل عقد اجتماعا لقيادته عند الظهر، وبدأه بقوله: «إن هناك قرارا سياسيا يحتم علينا ضرورة تطوير الهجوم نحو المضايق، ويجب أن يبدأ ذلك صباح غد 13 أكتوبر». وحين حاول بعض القادة مناقشته استمع إلى وجهات نظرهم، ثم كان قوله فى النهاية «إنه قرار سياسى».

ويؤكد الكاتب الكبير أن القرار لقى معارضة من الفريق سعد الشاذلى، رئيس الأركان، وأيده فى ذلك قائد الجيش الثانى الميدانى اللواء سعد مأمون، وقائد الجيش الثالث اللواء عبدالمنعم واصل، وتقرر عقد مؤتمر بالقيادة فى الساعة السادسة مساء، دعى إلى حضوره كل من قائدى الجيشين الثانى والثالث، وامتد المؤتمر إلى قرب منتصف الليل. واستمع القائد العام إلى كل وجهات النظر، ثم أبدى فى النهاية رأيه وهو «ضرورة تطوير الهجوم لأن ذلك قرار سياسى ويتحتم الالتزام به». وبعد مناقشات لاحقة قبل القائد العام تأجيل موعد الهجوم ليصبح فجر 14 أكتوبر بدلا من 13 أكتوبر.

وفى نفس اليوم دعت جولدا مائير إلى اجتماع لمجلس الوزراء المصغر انعقد فى الساعة العاشرة والنصف صباحا، ليستمع من الجنرال بارليف المسئول عن الجبهة الجنوبية إلى تقرير عن خططه للعمل. وكان تقرير بارليف كما يلى:

ــ تم التخطيط والإعداد لهجوم إسرائيلى مضاد يخترق ثغرة المفصل بين الجيشين الثانى والثالث ويعبر قناة السويس إلى الضفة الغربية، ويحتل أكبر مساحة ممكنة من الأراضى المصرية على هذه الضفة.

ــ إن المخابرات الإسرائيلية (وفى الغالب عن طريق التسمع الإلكترونى) علمت أن الفريق أحمد إسماعيل يرتب لهجوم مصرى فى اتجاه المضايق، وبالالتفاف حول منطقة الطاسة، متقدما نحو مضيق الجدى. ومعلوماتهم أن الهجوم غدا أى يوم 13 أكتوبر (ويبدو أنهم لم يستطيعوا معرفة قرار تأجيله لمدة 24 ساعة ليكون يوم 14 بدلا من 13).

ــ إنه مع وجود خطط واستعدادات إسرائيلية جاهزة للبدء فى العملية فإن بارليف يقترح تأجيل الهجوم الإسرائيلى لعدة ساعات حتى يبدأ أحمد إسماعيل هجومه ويتم ضربه، فإذا ما تحقق ذلك وتم ضرب الهجوم المصرى، فإن عملية التقدم للنفاذ من ثغرة ما بين الجيشين سوف تكون أسهل وأضمن.

تحذيرات من التطوير

فى الساعة السابعة والربع من صباح يوم السبت 13 أكتوبر، كان محمد حسنين هيكل فى مكتبه فى «الأهرام» يحاول وضع الخطوط العريضة لخطاب سوف يلقيه الرئيس أمام مجلس الأمة بعد ثلاثة أيام (يوم 16 أكتوبر). وفوجئ هيكل بأن اللواء حسن البدرى موجود فى الغرفة الخارجية لمكتبه يطلب مقابلته على وجه الاستعجال. وأدهشه مجىء اللواء البدرى فى تلك الساعة من الصباح، ولم يكن سمع منه خلال الأيام السابقة. وقدر أنه كان مشغولا بالكامل مع رفيقيه: اللواء طلعت حسن واللواء مصطفى الجمل (فى المركز رقم 11) يتابعون مجرى العمليات عن بعد، متحررين من ضغوط المعركة، باعثين بما يعنى لهم من توصيات إلى القائد العام.

ودخل اللواء البدرى، وكان باديا من أول لحظة أنه رجل مثقل بالهموم وقد بدأ حديثه مع هيكل داخلا بدون مقدمات إلى الموضوع الذى دعاه إلى ترك شواغله فى هذا الوقت والمجىء إلى «الأهرام». كان كلام البدرى خطيرا، وكان مؤداه كما يلى:

1ــ إن الموقف فى قيادة القوات بالمركز رقم «10» ليس كما ينبغى له أن يكون. فهناك اختلافات وتوترات وضغوط لا داعى لها فى هذا الوقت تؤثر على أخطر القرارات.

2ــ إنهم (فى المركز رقم «11») لم يقصروا فيما طلب منهم، وقد بعثوا بتوصياتهم باستمرار إلى المركز رقم «10»، ولكن يبدو أن الكل هناك مستغرق فيما يفعله وليس لديه وقت لسماع رأى من خارج هذا المركز. وهم يشعرون بالإحباط لإهمال توصيات بعثوا بها إلى القيادة ولم يكن لها أثر على القرار، فى حين أثبتت تطورات المعارك أن كثيرا منها كان صائبا ومفيدا لو أنه أخذ فى الاعتبار. ومن ذلك مثلا أنهم نصحوا بالتقدم إلى المضايق ابتداء من يوم 7 أكتوبر، ولم يستجب لهم أحد ولا حتى برد يناقش وجهة نظرهم. بل وقد حدث يوم 8 أكتوبر أن اللواء طلعت حسن الذى رأى فرصة سانحة توشك أن تضيع كتب بنفسه وبخطه على ورقة أمامه رسالة إلى القائد العام من ثلاث كلمات: «اطلق المدرعات للمضايق»، ووصلت الرسالة فعلا إلى القائد العام، ولم يظهر لها أثر.

3ــ لقد توصلوا جميعا إلى استنتاج ملخصه أن النجاح الذى حققته القوات فى عملية العبور كان مفاجئا للقيادة السياسية والقيادة العسكرية التى لم تتوقعه بهذه السرعة، ولم تتحرك لاستغلاله فى الوقت المناسب.

4ــ إن هناك الآن عملية إعداد لتطوير الهجوم إلى المضايق. وهذه العملية لسوء الحظ فات وقتها، والإقدام عليها مخاطرة كبيرة ما لم تكن هناك عوامل عسكرية موجودة على الأرض تعلم بها «القيادة» ولا يعلم بها الآخرون! وإذا تقرر المضى فى الهجوم الذى يرتب الآن والمنتظر خلال ساعات فإن نتائجه قد تكون خطيرة ليس فقط بالنسبة لهذه الخطوة من المعركة، ولكن كذلك بالنسبة للخطوة التالية. فإذا لم ينجح هذا الهجوم وفرص نجاحه لا تزيد على ما بين 20 إلى 30٪ فإن العدو سوف يستغل نجاحه هو فى تعميق هجومه المضاد وتشديد ضغطه على رءوس كبارى العبور.

وكان طلب اللواء البدرى بعد هذه الصورة الخطيرة هو «أن يتوجه هيكل الآن لمقابلة الرئيس السادات ويتحدث إليه فى الأمر». وأبدى هيكل تردده مستندا فى ذلك إلى حجتين:

ــ أولاهما: أنه لم يتدخل أبدا فى أمور العمل العسكرى، وكان أقصى ما وصل إليه هو اقتراح مجموعة عمل (فى المركز رقم «11») تفكر وتتصور، وأمامها كل المعلومات دون أن تكون عليها أثقال وأعباء المعركة.

ــ وثانيتهما: أنه لا ينبغى لأحد فى هذا الوقت خصوصا إذا كان مدنيا أن يتدخل فى شىء يمس العلاقة بين القائد الأعلى للقوات المسلحة وبين قيادتها العامة.

وبعد مناقشة امتدت إلى أكثر من ساعة برز اقتراح مؤداه أن يقوم الضباط الثلاثة الكبار المكلفون بالتفكير والمتابعة والاقتراح بكتابة وجهة نظرهم للرئيس السادات. ولم يتحمس اللواء البدرى وكان قوله فى النهاية إنه أدى واجبه ونبه إلى خطورة الحالة، وطرح ما لديه أمام رجل يعرف أنه قريب من الرئيس السادات ويستطيع الوصول إليه فى أى لحظة.

وصل هيكل إلى قصر الطاهرة فى الساعة العاشرة وخمس دقائق. وكان السادات قد فرغ من قراءة تقرير مكتب الشئون العسكرية. ووجد هيكل أن المعلومات الواردة فى التقرير تعطيه مدخلا إلى ما سمعه من اللواء حسن البدرى من ساعة واحدة. وكان تعليق الرئيس وهو يطلب من محدثه أن يطمئن: «إن الذين يتابعون الموقف من خارج القيادة يتحدثون بطريقة نظرية بعيدة إلى حد كبير عن الضرورات التى تحكم القرار فى هذه اللحظات». ثم أشار إلى أنه يحاول تخفيف الضغط على سوريا.

وفى الساعة الواحدة والنصف وقع حادث خطير كان لابد له أن يلفت الأنظار. لقد قامت طائرة أمريكية من طراز (SR-71-A) بعملية استطلاع واسعة لم تقتصر على الجبهة، وإنما امتدت إلى كل الدلتا وراء منطقة قناة السويس. وكانت تطير بسرعة ثلاثة أمثال سرعة الصوت (3 ماخ). وبذلك فقد كانت بعيدة عن مجال عمل كل أنواع الصواريخ المتاحة لمصر. وعرفت القيادة على الفور أنها عملية استطلاع أمريكية شاملة لجبهة القتال وما وراءها، وأن صورها سوف تكون فى إسرائيل خلال أقل من ساعة واحدة.

فشل التطوير

يصف «الأستاذ» مجرى الحوادث صباح يوم تطوير الهجوم فيقول «كانت أجواء ميادين القتال مزدحمة بإشارات الخطر مع شروق الشمس صباح يوم 14 أكتوبر. فقد بدأ الهجوم المصرى المنتظر نحو المضايق فى الساعة السادسة صباحا. وكانت خطة الهجوم تتضمن استخدام 4 ألوية مدرعة ولواء مشاة ميكانيكى فى أربعة اتجاهات مختلفة على طول الجبهة (حددها الأستاذ فى الكتاب).

وكان ظاهرا منذ البداية أن القوات الإسرائيلية مستعدة لمقابلة الهجوم، ومزودة بمعلومات مسبقة عن اتجاهاته الأساسية. كذلك فإن سيل الإمداد الأمريكى لإسرائيل بدأ يصل إلى الجبهة، وأهم بنوده صواريخ «تاو» TOW المحملة على طائرات هليكوبتر (وهى صواريخ مضادة للدبابات) ونزلت بها الطائرات الأمريكية فى مطار العريش، ودخلت فورا للعمل فى المعركة التى بدأت تحتدم وقتها. وقد أضيف إلى ذلك عنصر آخر، وهو أن تدفق المدد العسكرى الأمريكى على إسرائيل دفعها مطمئنة إلى استعمال مخزون احتياطياتها الاستراتيجية فى المعركة بدون تردد.

وكان السادات يتابع تطورات المعركة منذ الصباح. وفى الساعة الواحدة ظهرا توجه بنفسه إلى المركز رقم «10» ليعرف على خرائط العمليات كيف تسير الأمور. ولم يكن ما رآه مشجعا. فعندما جاءت الساعة الثالثة بعد الظهر، كانت خسائر القوات المصرية فى الدبابات قد وصلت إلى 240 دبابة. وكان ذلك فوق الاحتمال. وقد استأذنه الفريق «أحمد إسماعيل» فى إيقاف الهجوم، وأذن، وعاد إلى قصر الطاهرة وهو فى حالة من الاكتئاب النفسى استولت عليه.

ينتقل بعد ذلك «الأستاذ» للحديث عما جرى فى هذا اليوم فى تل أبيب، فيقول «كان الجنرال بارليف يقوم بنفسه على إدارة المعركة المحتدمة على مشارف المضايق، وفور انتهائها بتوقف الهجوم المصرى فى الساعة الثالثة بعد الظهر وتراجع قواته إلى مواقعها الأصلية قام بنفسه بتبليغ نتائجها تليفونيا لرئيسة الوزراء جولدا مائير، طلب منها فى نفس الوقت إعطاء الإذن ببدء الهجوم الإسرائيلى المضاد، والعبور إلى الغرب إذا أمكن (...) وأعطته الإذن الذى طلبه. والغريب أن وزير الدفاع الجنرال «ديان» كان مترددا.

ثغرة الدفرسوار

ويرى «الأستاذ» أن يوم 15 أكتوبر «كان واحدا من تلك الأيام التى يصدق عليها الوصف المشهور: «ضباب الحرب»، والمقصود به هو تلك الأيام التى تلى أو تسبق المعارك الكبرى التى ينشغل فيها الأطراف بإعادة حساباتهم وبتأمل خططهم، وفى التفكير فيما يجب أن يمكن أو يحتمل.

وكان السادات صباح ذلك اليوم قد استوعب الصدمة العسكرية التى تلقاها فى الأمس، وراح يقلب أموره على وجوهها المختلفة. وقد راوده تصور لعله كان سابقا لأوانه أن دور السلاح فى الحرب قد تراجع، وأن دور السياسة هو الذى يتقدم. والحاصل أن ذلك كان متناقضا مع منطق ونظرية الحرب المحدودة فى صميمها. ذلك أن الحرب المحدودة لكى تحقق نتائجها لابد لها أن تركز على أن يكون تأثير السلاح عند النهاية أكثر مما كان عند البداية. وبالتالى فإن ما يستطيع أى طرف أن يصل إليه فى الساعات الأخيرة من القتال هو الذى يعكس ظله على الأرضية السياسية التى تجرى فوقها أية جهود للبحث عن حلول للأزمات».

وفى تل أبيب اجتمع مجلس الوزراء الإسرائيلى المصغر فى الساعة السابعة من صباح «15 أكتوبر». وكان أمام المجتمعين تقرير من الجنرال بارليف يقول فيه إن القوات جاهزة، وأن الموعد الذى تقرر لبدء الهجوم الإسرائيلى المضاد هو السابعة مساء، وأن اختراق المفصل ما بين الجيشين الثانى والثالث لفتح ثغرة بينهما إلى الغرب سوف يجرى فى منطقة الدفرسوار.

وتقرر دعوة مجلس الوزراء إلى اجتماع فى نفس هذا الساعة حتى تكون القيادة السياسية جاهزة لاستقبال المعلومات الواردة من الجبهة، واتخاذ أية قرارات قد تدعو إليها ظروف العمليات.

وكان الجو العام فى الجبهة محموما باستعدادات التنفيذ، كما أن الجو السياسى العام كان متوترا فى انتظار بدايته. وتقدمت المدرعات الإسرائيلية بالفعل فى منطقة المفصل، واقتربت من خط المياه، لكن القوات المصرية تنبهت إلى تحركاتها وتصدت لها، مما تسبب فى تأخير العملية بحيث لم يبدأ نزول القوارب المطاطية لعبور القناة إلا فى الساعة الواحدة والنصف صباحا. ومع ذلك فقد كان المقاومة المصرية شديدة إلى درجة حالت دون تمكن قوات الجنرال الإسرائيلى «برن» من تركيب وتأمين موقع جسر تعبر عليه القوات الإسرائيلية.

وفى لحظة من اللحظات كان احتمال فشل العبور ماثلا أمام مجلس الوزراء الإسرائيلى الذى ظل مجتمعا منذ الساعة السابعة مساء حتى الفجر. وقد وصلت إليه توصيه من ديان يقترح وقف العملية وصرف النظر عنها. ولكن بارليف أبدى معارضة شديدة لوقف العملية. وانحازت جولدا مائير ووراءها مجلس الوزراء بالكامل إلى بارليف فى ضرورة الاستمرار لاحتلال وتأمين جسر تعبر عليه المدرعات لحماية مجموعات من قوات الكوماندوز سبقت إلى العبور بالقوارب المطاطية. وعهد بارليف إلى زميله الجنرال «آرييل شارون» بالتقدم بمدرعاته مهما كانت المقاومة أمامه، بحيث يتحقق تأمين رأس جسر يمد عليه ولو «كوبرى» متحركا حتى تتمكن المدرعات من العبور. وعند الفجر «الساعة الرابعة والنصف صباحا» انفض اجتماع مجلس الوزراء الإسرائيلى بعد تأكد أن عملية «شارون» تمضى فى طريقها.

وفى واشنطن دعا كيسنجر إلى اجتماع لمجموعة العمل الخاصة فى الساعة السادسة صباحا من هذا اليوم «15 أكتوبر»، وذلك لاستعراض الموقف وتقرير الخطوات التالية فى ظرف كان يعتبره كيسنجر معبأ بالاحتمالات.

وقبل الظهر «بتوقيت واشنطن» تلقى كيسنجر ردا عاجلا على رسالته الأخيرة إلى السادات، وقد أدهشته هذه الرسالة. وسجل دهشته قائلا بالنص: «لقد كنت أتوقع غضبا عربيا عارما بعد أن ظهر تأثير الأسلحة الأمريكية عمليا فى الميدان ولكن الرسالة التى تلقيتها من حافظ إسماعيل مساء يوم 15/10 جاءت بطريقة لا يمكن وصفها فى الملابسات التى وصلت فيها إلا بأنها «شىء خارق للعادة». ولخص كيسنجر أهم نقاط الرسالة فى مذكراته على النحو التالى:

إن مصر «برغم كل شىء» «ترغب فى إبقاء قناة الاتصال الخاصة مفتوحة». وإن الإشارة بالتعريض بالاتحاد السوفييتى واضحة فى قول الرسالة «إنه لا أحد يتحدث باسم مصر»، وأن مصر تريد التوصل إلى «شروط لا تؤدى إلى إهانة إسرائيل لأن مصر نفسها عانت معنى الإهانة!». كما بدا له (كيسنجر) أن السادات يحاول إبعاد نفسه عن الاتحاد السوفييتى، والتوجه إلى الولايات المتحدة.

 

الحلقات السابقة..

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لـهيكل : روايتى عن حرب أكتوبر تدور أساسا حول السادات (1)

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل:مأزق السادات بعد رحيل عبدالناصر(2)

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل: معركة السادات مع «مراكز القوى» والرهان على واشنطن للوصول للحل السلمى (3)

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل: مصر عاشت نوعا من الانفصام بين السياسة والسلاح عام 1972 - (4)

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل: معجزة البشر على جبهتى سيناء والجولان في أكتوبر 1973 - (5)

قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» هيكل: «السياسة» تكشف خطوط «السلاح» بعد 20 ساعة قتال (6)

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved