«هواء مالح» لـ«هبة خميس».. صراع الحقيقة والوهم فى رحلة سردية

آخر تحديث: الأربعاء 29 يناير 2025 - 11:03 م بتوقيت القاهرة

أسماء سعد

مزيج بين المشاعر والأفكار البراقة، تجسدها الكاتبة هبة خميس، فى روايتها الصادرة عن دار الشروق «هواء مالح»، حيث صراع داخلى مع الحب، الألم، الفقدان، والرغبة فى التحرر.

 


من نكون إذا جُرّدنا من ذاكرتنا؟ هذا السؤال الجوهرى يُطلق العنان للبطلة «صفاء» فى رحلة مواجهة داخلية عسيرة مع أشباح ذاكرتها المتشظية، المشبعة بتفاصيل تتشابك كأغصان شجرة سرو فى عاصفة. الرواية تنسج خيوطها عبر محورين زمنيين؛ أحدهما سابق لحادثة القطار التى أصبحت رمزًا لغموض يكتنف حياتها، والآخر لاحق للحادثة، حيث تحاول استعادة السيطرة على هويتها الممزقة.
رواية «هواء مالح» ليست فقط تأملًا فى قوة الذاكرة، بل هى أيضًا استكشاف متعدد الأوجه لمعنى الحب، إذ تتأرجح بين حدوده الواقعية وسرابه الوهمى. تسير البطلة فى رحلة مليئة بالبحث والمطاردة لهذا الحب، متنقلة بين الإسكندرية، مرورًا بمطروح، وصولًا إلى سيوة، حيث يلعب المكان، بطبيعته الساحرة وساكنيه من البدو، دورًا رئيسيًا فى تشكيل الأحداث، ليصبح شخصية قائمة بذاتها تُحاور البطلة فى كل خطوة.
فى خضم هذه الرحلة، تجد البطلة نفسها مضطرة لمواجهة ذاتها، بما تحمله من هواجس وشكوك، وسط مسرح تتقاطع فيه مشاهد الواقع والخيال. تظل عالقة فى دوامة محاولاتها الدؤوبة لاستعادة تفاصيل حياة طُمست بفعل الصدمة، وكأنها تسعى إلى إعادة بناء ذاتها من جديد فى عالم يفرض عليها التساؤل باستمرار عن ماهيتها.
نصوص «هبة خميس» تتبع أسلوبًا أدبيًا يغلب عليه الطابع الوصفى المكثف، حيث استخدمت الكاتب لغة حسية قوية لنقل المشاعر والأحاسيس. يظهر التركيز على التفاصيل الدقيقة مثل ملمس مع يد، ورائحتها وحركتها فى الهواء، ما يعكس قدرتها الكاتب على خلق صور ذهنية دقيقة لدى القارئ.
السرد يتميز بتقنية تساعد على أن تغوص الشخصية فى أفكارها ومشاعرها الداخلية، ما يجعل النص حواريًا ذاتيًا فى كثير من المواضع، فهناك انتقال سلس بين الوصف الخارجى للأحداث وبين الحالة النفسية الداخلية للشخصية، ما يخلق إحساسًا بالتشويق المحبب للقارئ.
الإيقاع وتسارع الأحداث، يحدث بشكل تدريجى حيث تعتمد الكاتبة على التمهل فى بعض المقاطع لتمنح القارئ فرصة لاستيعاب مايجرى ثم تزيد من سرعة السرد عند انتقال المشهد إلى المستشفى وضوضاء الناس وصوت القطار.
دلالات الألفاظ والرمزية المحلوظة غير المصطنعة، ضمن مميزات رواية «هواء مالح»، فالنص يعج بالدلالات الرمزية، حيث نجد فى البداية أن ترمز اليد إلى الموت الذى لا مفر منه، وإلى الذكرى العالقة التى تطارد الشخصية، كما أن هناك استخدام مكثف للألوان والروائح، مثل «رائحة الموت»، «الدماء الصدئة»، و«المسعف ببدلته البيضاء»، وهى تعبيرات ترمز إلى التناقض بين الحياة والموت، وبين النظافة والدموية. كما تعكس «صوت القطار» دلالة على مرور الزمن وعدم القدرة على التوقف عند الماضى.
تنجح «هبة خميس»، فى اللعب على وتر التأثير النفسى والتشويق، حيث خلق أجواء مشحونة نفسيًا من خلال استخدام الأوصاف الحسية المتكررة، بما يجعل القارئ فى حالة انتظار دائمة لمعرفة مصير الشخصية ومحيطها، كما أن استخدام الاستعارات والتشبيهات يعزز من قوة السرد ويعكس عمق التجربة الشعورية.
كما تأتى الذاكرة هى المحور الأساسى الذى تدور حوله النصوص. البطلة تعانى من أزمة هوياتية تتجلى فى فقدان أو تشوه الذاكرة، وهو ما ينعكس فى ضياع ملامح الشخصيات الأخرى، وتحول الظل إلى مرآة تعكس ملامحها هى فالتركيز على الذاكرة يعكس كيف يمكن لها أن تكون عبئًا وثقلًا، ولكن فى الوقت نفسه وسيلة للشفاء أو إعادة البناء.
وسنجد أيضًا مع ختام الأحداث أن ورود تطور مفاجئ على تيمة الذاكرة، سوف يمثل لحظة تحرر البطلة من قيود الماضى والآلام المرتبطة به، بما يشير إلى أن الذاكرة ليست مجرد مستودع للماضى بل هى عنصر متغير يُعاد تشكيله وفقًا للظروف النفسية والبيئية.
النص يعبر عن رحلة نفسية شديدة العمق، حيث تواجه البطلة صراعاتها الداخلية مع الحب، الألم، الفقدان، والرغبة فى التحرر، ويتيقن القارئ من أن التركيز على الذاكرة كعنصر محورى يعكس فهمًا عميقًا لأثر الماضى على تشكيل الهوية. السرد الرمزى واللغة الحسية يجعل النص تجربة أدبية ثرية تجذب القارئ وتجعله يتأمل فى معانى الحياة والتحول النفسى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved