فرمنجهام.. الحكى المستمر لأسرار قلب الإنسان

آخر تحديث: السبت 29 أبريل 2017 - 10:36 ص بتوقيت القاهرة

ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التى أكتب فيها عن فرامنجهام فأنا فى الواقع مفتونة بتلك البلدة الصغيرة التى تقع على بعد عشرين ميلا فى اتجاه الغرب من مدينة بوسطن العريقة بولاية ماساتشوتس الأمريكية.
قد يبهرك جمال الطبيعة فيها خاصة فى أوان الخريف حيث تتنافس الألوان بكل درجات الأحمر القانى والأصفر والبرتقال والأسود والأخضر فى تلوين أشجارها الضخمة السابقة لكن هذا الجمال قد يتوارى إذا ما عرفت أنها أهم موقع على خريطة المعرفة الطبية فى عصر العالم الحديث.
تبدأ فصول قصة دراسة فرامنجهام الطبية فى بداية الأربعينيات حينما بدأت تتردد فى المجتمعات العلمية والطبية الأمريكية أنباء ازدياد معدلات الإصابة بجلطات القلب والوفاة نتيجة مفاجأتها للأطباء والمرضى بلا مقدمات تتيح مقاومتها أو أسباب معروفة يمكن تفاديها.
قبل أطباء جامعة بوسطن التحدى فتبادلوا الرأى مع الهيئات الصحية الحكومية ليبدأ أول عمل علمى على نطاق واسع، فوقع الاختيار على مدينة فرامنجهام التى قبل أهلها جميعا أن يخضعوا للكشف الطبى الكامل الذى أعد مفرداته أطباء وعلماء وباحثو جامعة بوسطن، فقد ضم فريق البحث أطباء من جميع التخصصات وعلماء لوظائف الأعضاء والأمراض وباحثين اجتماعيين وعلماء فى الإحصاء والاقتصاد وبدأ العمل فى الدراسة عام ١٩٤٨ ولم يتوقف إلى يومنا هذا.
العام الثامن بعد الستين وثلاثة أجيال متعاقبة من البشر يتم فحصهم بانتظام ويخضعون لتدوين ملاحظاتهم عن أنفسهم: ماذا يأكلون، كيف يواجهون ضغوط الحياة، أى أعراض يعانون حتى البسيط منها هم فقط يخضعون للفحص الطبى جسديا ونفسيا ويسجلون ملاحظاتهم دون التدخل على وجه الإطلاق ولا حتى بالتوجيه الشفوى حتى تبدو الفرصة كاملة لرصد هذا المجتمع بكل ظروفه البيئية والسلوكية والاقتصادية والغذائية والصحية فى آن واحد فى جميع الأعمار: الجدود والأبوان والأطفال وما يستجد من أجيال.
بدأت تلك الدراسة عام ١٩٤٨ بعد استكمال الخطوات العلمية للتأكد من جدية المتابعة وتطبيق جميع المعايير الأخلاقية والقانونية اللازمة لإجراء تلك الدراسة وبدعم مباشر من حكومة الولايات المتحدة. ثم الإعلان عنها فى الصحف لإتاحة متابعتها من كل مواطنى البلاد.. أما المقابل الذى تعهد به أصحاب الدراسة فقد كان إجراء هذا الفحص الدورى سنويا بانتظام وعلاج كل من يتعرض لأى مرض ما دامت الدراسة قائمة ومستمرة.

كيف كانت البدايات؟
لم يأت اختيار مدينة فرامنجهام من فراغ، فسكانها فى هذا الوقت كانوا ثلاثين ألف نسمة (يقتربون من السبعين الآن) مجتمع يقيم الأناث والذكور السود والبيض وأصحاب الأصول الآسيوية متفاوتون فى مستواهم المادى الثقافى والتعليمى والصحى.. مثال للاختلاف الحقيقى فى المجتمعات الأمريكية. وافق فى البداية منهم خمسة آلاف ومائتا شخص لا يعانون من أى أعراض لها علاقة بأمراض القلب والشرايين ولا مرت لهم أزمات قبلية أو سكتة دماغية. هم الآن يتخطون الثمانية عشر ألف شخص ويرسمون خريطة واقعية لأمراض القلب والشرايين وكل ما يمت لهم بصلة فى العالم كله.

نتائج باهرة للتجربة
توالت النتائج الباهرة لتلك الدراسة الحية المستمرة فكان أن عرف العالم للمرة الأولى عوامل الخطر التى تعد مقدمة لأمراض القلب والشرايين، ارتفاع ضغط الدم، ارتفاع نسبة الكوليستيرول ودور كل من الجيد والردىء منه، تدنى مستوى النشاط والحركة، التدخين، مرض السكر السمنة. تطورت المدارك واتسعت حدود المعرفة وازدادت وسائل التشخيص دقة فظهرت تقنيات حديثة تم استخدامها فى متابعة الدراسة الفريدة: التصوير بالصدى الصوتى، التصوير بالرنين المغناطيسى للقلب والمخ، التصوير الطبقى للقلب والمخ، ثم قياس نسبة كثافة العظام خاصة لدى السيدات. ومازالت الدراسة تضيف أبعادا جديدة للمعرفة الطبية من خلال رصد ومتابعة أمراض لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بأمراض القلب والشرايين. مثل حالات أمراض المخ والسكتة الدماغية، الألزهايمر أو خرف الشيخوخة، هشاشة العظام والتهاب المفاصل، أمراض التغذية وأمراض العيون ومرض السكر واضطرابات السمع وعلاقة كل تلك الأمراض بميراث الصفات على الجينوم البشرى.
أهم ما حققته تلك الدراسة الفريدة هو تدعيم نظرية ضرورة استشراف الخطر والتشخيص المبكر للأمراض فيما يعرف «باستراتيجيات الوقاية الأولية والوقاية المتقدمة».

تواريخ مهمة على مدى دراسة فرامنجهام الطبية:
< عام ١٩٦٠: تأكدت العلاقة القوية بين التدخين والإصابة بأمراض القلب والشرايين.
< عام ١٩٦١: ارتفاع معدلات الكوليستيرول، قياس ضغط الدم، وجود تغيرات فى رسم القلب، كلها عوامل تشير إلى احتمال الإصابة بأمراض القلب والشرايين.
< عام ١٩٦٧: للرياضة علاقة قوية بامكانية الوقاية من أمراض القلب والشرايين بينما ترفع السمنة احتمالات الإصابة بها.
< عام ١٩٧٦: سن اليأس عند المرأة يضاعف من خطورة إصابتها بأمراض شرايين القلب.
< عام ١٩٨٨: ارتفاع نسبة الكوليستيرول الحميد عامل يقلل احتمالات الوفاة.
< عام ١٩٩٩: بعد الأربعين احتمالات الإصابة لدى الرجل ١:٢ بينما هى ١:٣ عند النساء.
< عام ٢٠٠١: ارتفاع ضغط الدم إلى أعلى حد طبيعى يمثل خطرا قادما لذا يجب علاجه.
< عام ٢٠٠٢: السمنة عامل قد يقدم لهبوط القلب.
< عام ٢٠٠٥: احتمالات إصابة الإنسان بزيادة الوزن فى مرحلة ما من عمر الإنسان هى ٧٠٪ بينما احتمالات السمنة ٥٠٪.
< عام ٢٠٠٦: الإعلان عن بداية دراسة علاقة أمراض القلب وشرايينه بالجينات وملفات علم الوراثة.

مازالت فرامنجهام مدينة شجاعة لا تخفى كل ما بقلبها حتى توفر لقلوب كل البشر فى العالم الحماية. اسمعوا ما حكت فرامنجهام فإنه الصدق ولا أظنكم إلا واعين للدرس، حافظين له.. ولنا ــ إن شاء الله ــ حديث قادم عما أفصحت عنه فرامنجهام من أسرار قلبها خلال العشر سنوات التى تلت.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved