أطياف رضوى عاشور التي ترفض الرحيل
آخر تحديث: الأحد 1 ديسمبر 2024 - 4:40 م بتوقيت القاهرة
إيمان صبري
علاقة وطيدة تلك التي ربطت بين الكاتبة رضوى عاشور وبين القراء يرجع السبب في هذه العلاقة المتميزة إلى حضور رضوى عاشور بشخصيتها الإنسانية الحقيقية في بعض أعمالها، أعلم أن كل كاتب يضع من روحه وتجربته في النص لكن الوضع في حالة رضوى عاشور كان شديد الاختلاف، فهي حاضرة بشكل واضح لا تستتر خلف اسم مستعار أو شخصية تحمل بعض ملامحها، بل تروي الكثير من الأحداث التي إن ذهبت إلى محركات البحث أو كنت ممن حالفهم الحظ بحضور حفلات توقيع أعمالها الأدبية أو الندوات التي شاركت فيها سوف تتأكد أن ما تقرأه في أعمالها الأدبية هو حقيقتها الشخصية، وامتد الأمر إلى أن شملت العلاقة عائلتها أيضا، فالزوج الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي، والابن الشاعر تميم البرغوثي.
فمن منا لا يذكر موقف رواه أحدهم عن الآخر في أحد الندوات أو اللقاءات الإعلامية والغريب المدهش في نفس الوقت أن العلاقة بينهم وبين القراء لم تتشوه بالفضول واقتحام الخصوصية كما هو سائد خاصة في المجتمعات العربية بل كان هناك حرص دائم من الجميع على قدسية حياة وتجربة هذه العائلة وكأنها حياتهم الشخصية.
يتجلى المزج الذي خلقته رضوى عاشور بين حضورها الشخصي في أعمالها الروائية وبين أبطالها واضحا في رواية أطياف التي صدرت في طبعتها الأولى عام 1999 عن دار الهلال ثم في طبعتها الثالثة عن دار الشروق عام 2008.
تبدأ أحداث الرواية بحكاية عن سيدة تدعى شجر تنتمي إلى أحد القرى، مسؤولة عن أسرة رحل عائلها الوحيد وظلت هي تواجه العادات والتقاليد التي جحدت بعدم احتياجها لأحد واعتمادها الكامل على نفسها حتى النهاية التي جاءت في صورة أطياف لكل من تركوها ورحلوا تستعيد في وجوههم تجربتها، تراجع القرارات التي لا يمكن تغييرها فتزداد قسوة أطيافهم وتتصالح مع قرارات أخرى حتى تأتي لحظتها الأخيرة.
تغلق الكاتبة ملف الحكاية التي ولدت ونمت واكتملت دون الحاجة إلى المزيد من الإسهاب في التفاصيل، فكانت بوابة عبورنا إلى المزيد من الحكايات في حكاية أخرى وكأنها تقر حقيقة أن القصص لا تتطابق لكنها تتكرر، تتشابه ومن إحداها يمكن أن تكتمل تفاصيل الأخرى، كما يتجلى هنا أحد مميزات أدب رضوى عاشور وهو التأسيس السردي للرواية بحكاية تاريخية قد تظن في البداية أنها بعيدة عن بقية الأحداث أو تظل تبحث عن تفاصيلها وأنت تقرأ، قد يقول البعض أنه أمر تستخدمه لكي تتملك القارئ بالفضول لكنه حتما يعكس شغفها بالتاريخ الذي أصرت أن تدخله من خلال الحكاية الشعبة التي توثق أثر الحدث على من عاصروه.
تذهب الكاتبة فيما بعد إلى حكاية شجر الاستاذة الجامعية التي لم تحب شئ في الحياة بقدر حبها للتاريخ، تروي ظروف الميلاد والنشأة والتعليم مرورا بالأحداث التاريخية التي تعاصرها وتنعكس على شخصها وعلى الحياة الاجتماعية من حولها.
تضفر الكاتبة حكاية شجر بحكايتها الشخصية، حكاية رضوى عاشور، ظروف الميلاد والنشأة والتعليم مرورا بالأحداث السياسية الهامة التي شاركت فيها، وصولا إلى الزواج والأمومة والكتابة أيضا، ف رضوى هنا استاذة جامعية وكاتبة استحضرت شخصية شجر لكتابة رواية منفصلة عنها فإذا بالأحداث تتقاطع وفي بعض الأجزاء التي ينتظر القارئ أو يتوقع أن يسمع صوت شجر، يعلو صوت رضوى لتكتمل الحكايتين بينهما.
هنا حتما يتساءل القراء عن جدوى استعانة رضوى بشخصية روائية أخرى في الأحداث بدلا من أن تكون هي صاحبة الحكاية بشكل منفرد؟ تأتي الإجابة من خلال الأحداث فقد أرادت رضوى أن تؤكد على حقيقة أنك والآخر في ظاهر الأمر قد تعيشون نفس المرحلة بنفس الروتين وتجمعكم نفس المواقف ولكن ردود أفعالنا وانعكاس التجربة على شخصياتنا مختلف تماما ومن هنا تأتي أهمية التاريخ الروائي لحكايات الشعوب.
بالإضافة إلى أن شخصية شجر كانت فرصة رضوى لتسليط الضوء على مشكلات سلك التدريس الجامعي، عن أعباءه والتغيرات التي حلت به، ففي أغلب أعمالها وفي حياتها الأدبية بين القراء كان هناك فصل تام بين الحياتين، كان للحياة الأدبية دائما الحضور الأقوى، وفي الرواية تقف رضوى الأديبة تشاهد حياتها الأكاديمية من مسافة شأنها في ذلك شأن القراء.
وربما أرادت أن تعلنها صراحة أنك يمكن أن تملك حياتين بشخصية واحدة، ولكن أيهم ينتصر بداخلك، فهذا هو الصراع الداخلي الذي طالما تحدث عنه أطباء الصحة النفسية، تتناوله رضوى عاشور في هذا النص الروائي ببساطة.
وقد يرجع الأمر إلى عدم رغبتها في هذه المرحلة في كتابة سيرة ذاتية بشكل منفصل وواضح فمن يعرف رضوى عاشور جيدا يعرف أنها لا تكتب عن شئ إلا إذا اكتملت رؤيتها عنه وترسخت وجهة نظرها الشخصة فيه، لكن الحقيقة التي لا جدال فيها والتي تتضح جلية من تتابع الأحداث أن شخصية شجر كانت فرصة رضوى لتسليط الضوء على فترات بعينها من التاريخ لم تعاصرها، وبالعودة إلى أدبها وكتاباتها والموضوعات التي طالما كانت حلقات نقاش موسعة بينها وبين القراء يدرك أن ما تحدثت عنه كان شغلها الشاغل الذي ربما لم تسعفها ظروف الحياة للكتابة عنه.
فقد استطاعت شجر أن تحصل على مذكرات الجد عبدالغفار التي وثق فيها مشاهد من الفترة ما قبل ثورة 1919، ومشاهد من فترة تأسيس بعض القرى والمدن وكيف تحولت إلى إقطاع خاص بالعائلة الملكة، ومشاهد من حفر قناة السويس، الطبقية، الأوبئة التي غيرت الخرائط العائلية، حرب فلسطين والهزيمة، وصولا إلى ثورة يوليو عام 1952، في حين لم تحصل رضوى على أية أوراق من جدها الأستاذ الجامعي ولم تتعرف عليه إلا في مرحلة نتأخرة من خلال زوجها الشاعر مريد البرغوثي، وهذه مفارقة أخرى تتضح من خلال الأحداث فالكتابة والرواية الشعبية للأحداث تكون أسرع وصولا للناس وتتناقلها الأجيال ببساطة لا توفرها مئات الأبحاث الأكاديمية.
لم تقف الكاتبة طويلا أمام هذه الأحداث بالمزيد من البحث بل اكتفت بما رواه الجد وهناك حتما شهادات أخرى فضلا عن ما عايشناه وترتب على تلك الأحداث ومازلنا نعاني مرارته حتى الآن، لكن الحدث الذي وقفت أمامه طويلا كان مذبحة دير ياسين 9 أبريل 1948، التي تناولتها الكاتبة من زاوية مختلفة، فقد أرادت شجر أن تجعل منها موضوع بحثها للحصول على درجة علمية لكنها لم تتمكن من ذلك لتدرك حينها أن الطريق لتوثيق هذا الحدث لابد أن يختلف عن أسلوب الأبحاث الأكاديمية فقد اكتشفت أن هذا الأسلوب لم يغطي الحقيقة كاملة وبذلك انتقص من قدرة المواطن الفلسطيني على المقاومة، حين صورته وكأنه كان يقف مكتوف الأيدي أمام الاحتلال دون مقاومة ينتظر الهجوم في ظل أنه محاصر من سبع مستعمرات حتما لن تتركه في أمان مهما كلفهم الأمر، فيف استعد أهل قرية لهذا الأمر؟
ذهبت شجر للبحث عن شهادات من عايشوا المذبحة وتوثيق أدوارهم واستعداداتهم وبالتبعية أعاد ذلك البحث إحياء عائلات كاملة، بالإضافة إلى رصد ردود الأفعال العالمية والعربية تجاه هذا الحدث، وهنا لنا عودة مرة أخرى إلى طبيعة أدب واهتمامات رضوى عاشور، ألم تكن القضية الفلسطينية جزء لا يتجزأ من كتابتها ووجدانها وهويتها الإنسانية والعربية منذ أن دخلت إلى عالم الكتابة بدراسة شاملة لأدب غسان كنفاني وصولا إلى رواية الطنطورية التي ظن البعض أن لها أصول فلسطينية من فرط المصداقية ودقة التفاصيل؟ بالإضافة إلى أن هذه المذبحة طيف مما حدث في فلسطين فما بالنا بما حدث ويحدث ولم يكتب عنه حتى الآن؟
وهكذا تستمر رواية الأحداث بين شجر التي تعرض أطياف من الأحداث التاريخية وأثرها العام والشخصي، وبين رواية رضوى لمشاهد من حياتها الشخصية وكيف تأثرت بالأحداث من حولها، بداية من مظاهرات الطلبة في السبعينيات، رحيل لطيفة الزيات، اغتيال ناجي العلي، الفجوة النفسية على أثر موقفها من الأديب إيميل حبيبي، حياتها العائلية بين بودابست والقاهرة، منع زوجها لمدة 17 عام من الحياة في مصر.
بنهاية الأحداث تظل هناك ملفات تنتظر أن تتفرغ شجر لها بالبحث والكتابة، وها قد رحلت رضوى عاشور منذ عشر سنوات وتركتنا بين أحداث كنا نأمل أن تكتب عنها فتتحدث وتجيب بالنيابة عنا، لكنها تركت إرث أدبي وفكري وأكاديمي لا يستهان به، أشارت من خلاله إلى ملايين الأطياف لأحداث تاريخية وإنسانية تنتظر من يكتب عنها ويناقشها فيعلو صوت رضوى ويظل صداه يتردد بلا نهاية.