محمد المنسى قنديل في حوار مع الشروق: «انكسار الروح» سيرتى التى حاولت الهرب منها

آخر تحديث: السبت 29 ديسمبر 2018 - 11:28 ص بتوقيت القاهرة

حوار - شيماء شناوي

تاريخ مصرى يغرى بالكتابة لأنه كتاب «ألغاز»
روايتى المقبلة عن ثورة يناير والمحنة التى عاشتها
لا أكتب أبدًا دون بحث وراء أبطالى
أضعت «جواز سفر» ولا أزال أبحث عنه إلى الآن


زار القاهرة أخيرا الدكتور محمد المنسى قنديل فى إجازة قصيرة، غادر بعدها إلى كندا حيث يعيش منذ نحو ثلاثة أعوام استقر فيها هناك، متفرغا للكتابة بعد سنوات من الترحال والتجوال استطاع خلالها أن يكرس اسمه فى طليعة كتاب جيله من الروائيين.. وقبل تجربة العيش فى كندا أمضى المنسى سنوات عدة فى الكويت محررا بمجلة العربى فى تجربة فريدة فى العمل الصحفى والتخصص فى كتابة الاستطلاعات الصحفية التى تقف على تخوم أدب الرحلة.
وعلى الرغم من أن المبدعين يتهمون الصحافة عادة باستنزاف مواهبهم فإن صاحب «كتيبة سوداء» استطاع النجاة من هذا الفخ ومضى بتجاربه الإبداعية إلى آفاق أرحب، مكنته من الغوص فى التراث العربى واستثماره إلى جانب الكتابة للأطفال فضلا عن إنتاج أدبى متنوع يتسم بالقدرة على التجديد وارتياد فضاءات إبداعية خصبة تراوغ بين المعاصرة والحس التاريخى واستبطان رؤى جديدة للعالم.
وأهم ما فى الرحلة أنه تمكن من اكتساب قراء جدد غامر معهم ونجح دائما فى أن يكون كاتبا فى طليعة كتاب جيله.. وقد نالت أعماله التى تصدر عن دار الشروق ــ بخلاف تقدير القراء ــ العديد من الجوائز لعل أبرزها جائزة الدولة التقديرية فضلا عن بلوغ منصات التتويج عن أعمال أخرى منها «يوم غائم فى البر الغربى» و«كتيبة سوداء» ونافس بهما على جائزة البوكر العربية فى أكثر من دورة.
وهنا حوار معه يتأمل عبره مسيرته الأدبية وهو يقف على الشاطئ الآخر.

• لماذا اعتبرت «انكسار الروح» هى روايتك الأساسية وباقى مؤلفاتك هى محاولات للهروب منها..؟
ــ لأنها اعترافى الأول؛ ولأنها الرواية الأساسية، التى تفرعت منها جميع مؤلفاتى، حتى وإن لم يلحظ القارئ ذلك، وقد كتبت فيها جزءا كبيرا من سيرتى الذاتية، ووضعت بها خبرتى فى الحياة، وبداخلها شخصيات حميمية أعرفهم فى الواقع، واعتمدت فى زمنها على أحداث عايشتها، كل ذلك كان مادة خامًا، قبل أن أتعلم كيف ابتعد وأنشئ عوالمى الخاصة، وابتدع الشخصيات المتخيلة، ومن المعروف دائما أن الرواية الأولى للكاتب تترك بداخله أثرا لا يمكن التخلص منه بسهولة.
وعلى الرغم من محاولاتى المستمرة للمقاومة والتخلص من أثرها ــ ولا أزال أسيرا لها ــ فهى لصيقة بى بشكل أو بأخر، وإذا قررت أن أكتب سيرتى الذاتية فلن أبتعد عنها كثيرا.

• فى كتاب «لحظة تاريخ» مزجت بين وقائع التاريخ الحقيقية والخيال الأدبى وحقق ذلك النمط نجاحا واسعا.. ومثل هذا النوع من الكتابة يبدو مغريا إلى حد كبير.. فهل هذا صحيح؟
ــ شارفت على الانتهاء من الجزء الثانى من هذا الكتاب، وسجلت فيه وجهة نظرى حول العديد من الوقائع التاريخية، فالتاريخ ملىء بالألغاز فى العالم كله، وكل يكتبه على هواه، وبخاصة فى الوطن العربى، وبمصر تحديدا، وعلينا أن نقرأ ما بين السطور، واستخدام الوقائع ثم المخيلة لمحاولة فهم ما كان يمكن أن يكون، وأنا أستخدم مخيلتى كثيرا لملء الفراغات، فهى تكون مثل الثقوب السوداء فى السماء، لا يعلم أحد ما بداخلها، أحاول ملأها بحيث تخرج للقارئ رواية منطقية لكل حدث من الأحداث، ولدى مادة كثيرة قد تصلح لعدة أجزاء.

• قرأنا أنك أيضا تخطط لكتابة تاريخ ثورة يناير هل مازال هذا المشروع قائما بعد كل ما جرى لها من انكسارات؟
ــ كتبت جزءا كبيرا بالفعل، وأعتقد أن روايتى الجديدة تدور فى أجواء يناير، لكن تواجهنى بعض الصعوبات الفنية إلى جانب أن الأحداث قريبة، ومازالت الحقائق تتبعثر والأدوار تتبدل، وأصبح من غير الواضح حدود المسموح من غير المسموح، وكل يوم هناك جديد، ولم أشاهد فى حياتى مثلما حدث للثورة المصرية، التى وثقت بالصوت والصورة، وعلى الرغم من ذلك يجرى تشويهها وتزييفها، «عمرى ما شوفت فى التاريخ ثورة اتبدلت واتبهدلت زى الثورة المصرية»، فالثورة الفرنسية انحدرت وأصبحت بحرا من الدماء، والروسية انشق فيها الرفاق على بعضهم، وحتى ثورة يوليو عندما انقلب الضباط على بعضهم، إلا ثورة «يناير» فليس لها بيت يؤويها ولا رب يحميها، وليس لها أحد يدافع عنها، ولهذا فأنا أعانى كل يوم وأنا أكتبها، على الرغم من أنها أعظم ثورة عاشتها مصر، وكانت طاقة أمل للمصريين، ولأن مصر هى بلد الأسرار العظيمة، فسيأتى الوقت الذى يكشف فيه التاريخ حقيقة ما جرى.


• هل يفسر هذا الولع بالواقع شعور بعض القراء بالتشابه بين حيواتهم وحيوات أبطال رواياتك؟
ــ ليس جميع الأبطال فى الروايات من صنع خيال الكاتب، بل إن معظم الشخصيات تكون شخصيات حقيقية، لكن الأدب يعيد ترتيبها بشكل جمالى، فيأخذ عشوائية الحياة ويعطى لها معنى وشكلا. وهناك حكاية حقيقية حدثت مع روايتى «أنا عشقت» فبطلة الرواية التى تنتظر فى محطة القطار، شخصية خيالية ودورها أشبه بالفنتازيا، لكننى فوجئت بأحد العاملين بجمرك الإسكندرية، يرسل إلى يقول، أنت كتبت قصة حياتى!، فتبينت من خلال ما حكاه أنه موظف بالجمرك، واتهم بالاختلاس فسُجن، وظلت خطيبته بالخارج بانتظاره، وكانت تمر بمراحل طويلة من الإغماء، وعندما يعتقد أهلها أنها توفيت تستيقظ، وهذا يؤكد أن الخيال مهما ابتعد فهو لا يبتعد كثيرا عن الواقع، ويظل الواقع أكثر غنى من الخيال.

• تمتلئ رواياتك دوما بالخلفية المعرفية الواسعة كيف تقوم بعملية البحث قبل الكتابة؟
ــ فى الماضى كانت عملية البحث شاقة ومرهقة إلى حد بعيد، وكان كاتب مثل «ماركيز»، يملك موسوعات كاملة حول مختلف الأشياء التى يكتب عنها، منها؛ موسوعة عن الأسلحة مثلا، حتى يتمكن من أن يكتب بدقة، ولا يستخدم أشياء بغير عصرها، وعندما بدأت أكتب «قمر على سمرقند»، عانيت كثيرا لأجد مؤلفات عنها، ولم أجد سوى كتبا باللغة الروسية، فكانت رحلة البحث مرهقة، لكن الآن وبعد التطور التكنولوجى الكبيرالذى نشهده، فى وجود شبكة الإنترنت أصبحت عملية البحث أسهل وأيسر وأسرع، وأكاد أقول: «أنه لا يمكن لمؤلف أن يعمل بدون إنترنت، مهما كان موضوع روايته».

• هل تكتب وفق خطة؟
ــ ليس بالشكل الحرفى للمعنى، فى البداية يكون لدى تصور غائم عن القصة، ولكنه يكون شىء أشبه بوجودى على متن طائرة أشاهد معالم المدينة بشكل عام، إنما مرحلة الكتابة الفعلية تبدأ بعد الهبوط والتجول فى شوارع المدينة، حينها يقترب الكاتب من ملامح شخصياته، ويبدأ فى رسمها على الورق، ومن المعروف أن الروايات لا تكتب بالترتيب، فالكاتب ينتقل بين الفصول ثم يضفرها.

• نالت روايتك «كتيبة سوداء» نجاحًا لافتا كيف تفسره؟
ــ الرواية صدرت فى توقيت حرج كانت تمر به مصر فى العام 2014 وأحبها القراء لأن فيها شيئا من الثورة فهى تؤرخ لانتفاضة ضد القمع، فى كل زمان ومكان، وشخصية العاصى هو مقاومة الإنسانية لهذا القمع الذى يمارس عليه، وكان التحدى أمامى هو كيفية خروج هؤلاء العبيد من مجاهل الغابات السحيقة، للوصول إلى أعتى قصر من قصور فى أوروبا، وكانت رحلة الإقناع هى كيف نتغلب على العقابات فى تحقيق ذلك، كما كان الشرط الإنسانى أمام أبطالها شرط صعب جدا..

• طالعت عددا من التعليقات على أعمالك فى مواقع التواصل وتكررت أمامى عبارة «نخرج من رواياتك متأثرين بعوالملك وبأبطالك» فما هو السر؟
ــ التأثر جزء أصيل من سحر الأدب ومهارة الأديب، فالأمر أشبه بقول الأديب الأرجنتينى خورخى لويس بورخيس، «الأدب مثل المرايا ومثل الجنس يطيل العمر»، فإذا نظرت لنفسك بالمرايا، وجدت نفسك شخصين، وإن مارست الجنس نتج عن ذلك ميلاد إنسان آخر، وكذلك الأدب، فهو يتيح للقارئ العيش فى عوالم وحكايات أخرى، ويتعرف على أشخاص آخرى، ويكتسب من تجاربهم خبرات، كأنه عاش أزمنتهم بالإضافة إلى زمنه الفعلى، فالأدب يأخذ عشوائية الحياة ويعيد ترتيبها بشكل جمالى، فالحياة الواقعية ليست متقنة، والأدب متقن ويعطى الحياة معنى وشكلا.

• «بورخيس» كان يقول دائما: «الفردوس حتما ستكون شيئا كالمكتبة».. فما هو فردوس المنسى قنديل؟
ــ فردوسى هى الكتب، التى سحرتنى عوالمها منذ الصغر، قبل أن أعرف ما معنى المكتبة، وقد استأثرت الكتب بطفولتى ومنها تعرفت على العالم، وحتى علاقتى بوالدى كان جزءا كبيرا فيها قائما على الكتب، فقد كنت اقرأ عليه منها ما لذ وطاب، ونتبادل فيما بيننا الحكايات والأساطير، كما أن قراءة الروايات ساعدتنى فى التعرف على العوالم والشخصيات المختلفة.

• حصدت أول جائزة وأنت طالب بكلية الطب. واليوم لا يكاد يمر عام دون جائزة أو تكريم. هل أختلف مذاق التكريم بعد كل ما نالته من جوائز؟
ــ الجائزة الأولى دوما كالتجربة الأولى مختلفة ولها مذاقها الخاص، فهى اعتراف بموهبتك، وتعطى قياسا لشىء لا قياسا له؛ فالكاتب يكتب ولا يعرف تأثير كتاباته خارج عالمه ومردودها عند الناس، فتأتى الجائزة لتقول بأن الناس ترى أعمالك وتقدرها، وعندما حصلت على جائزة الدولة التقديرية عام 1988، فوجئت بتلغراف من أقصى صعيد مصر، من شخص لا أعرفه، يكتب إلى: «أهنئك».. فهذا شخص نزل من بيته ودفع من ماله ليكتب إليك مهنئا، وهذا بالطبع أحساس جميل وتقدير يعين الكاتب على المسيرة.

• روائى وقاص وطبيب.. أى من هذه الألقاب أقرب لروحك؟
ــ الروائى بلا شك، لأن الرواية هى فرحة الكاتب، وهى الإنجاز الحقيقى له، يعكف على كتابتها لمدة سنة أو ما يزيد مخلصا لها، فهى أشبه بحفرة النار كلما زاد الحطب زاد الاشتعال، ويصبح من الصعب إشعالها مرة أخرى، إذا توقف الكاتب عن تغذيتها لفترة قصيرة، كما أنها تأخذ من خبرات الكاتب وأسلوبه ومجهوده الكثير، وتجعله أسيرا لها لساعات طويلة، حتى تصبح جزءا من اسمه وتاريخه فى حياته وبعد مماته، فالرواية جزء من عمر الكاتب، ويبقى عمرها أطول من عمره.

• أهديت رواية «أنا عشقت» لزوجتك.. هل هى الجندى المجهول فى حياة المنسى قنديل؟
ــ لزوجتى فضل كبير فيما أنجزت، فهى أستاذة جامعية وبطبيعتها دقيقة، فقد ساعدتنى كثيرا على إنجاز أعمالى، وأهديتها «أنا عشقت» محبة وتقديرا لها، وعادة ما يكون للمرأة فى حياة الكاتب دور محورى، فهى من تقوم بكل الأدوار الأخرى فى حياته إذا ما انعزل للكتابة، يأتى على الكاتب فترات يكون فيها سلبيا ومشتت، وفى هذه الأثناء تقود المرأة السفينة، حتى يتسنى للكاتب العودة إلى الحياة الطبيعية.

• يشاع أن كاتب القصة القصيرة يستطيع أن يكتب كل أنواع الفنون الكتابية.. والعكس غير صحيح.. كيف ترى ذلك الأمر؟
نعم.. فالقصة القصيرة هى التمرين الأول، الذى يوضح إذا كنت تصلح أن تكون كاتب أم لا، على الرغم من أن نجيب محفوظ، كسر تلك القاعدة، فقد كان يستريح ما بين كتابة الرواية والرواية الأخرى بكتابة القصة القصيرة، وقد أبدع على المستويين.

• ما مصير روايتك المفقودة «جواز سفر»؟
ــ كتبت هذه الرواية أثناء عملى بمجلة العربى الكويتية، وجاءت فكرتها حين لاحظت امتلاء جواز سفرى بتأشيرات وأختام، فجلست استرجع ما مر بى فى كل هذه البلدان بذكرياتها وتجلياتها، ومن هنا قررت تدوين تلك التجارب وربطها بخيط روائى، فعلت ذلك وأسميتها «جواز سفر»، وحدث إن انهارت مكتبتى من كثرة ما تحمله، فخشيت عليها وعلى مسودة روايتى الأخرى «قمر على سمرقند»، وأخذت الدفتريين اللذين دونت فيهما ما كتبت إلى مكتبى، ولكن عندما بحثت عنهما بعد ذلك لم أجدهما، ولكن من حسن الحظ أننى كنت أرسلت نسخة من قمر على سمرقند إلى صديقى محمود قاسم، الذى أعادها لى وانقذ هذه الرواية أما الاخرى فضاعت إلى «الأبد».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved