«ألواح أورفيوس».. نورى الجراح يعيد تشكيل الذات فى عالم متخيل
آخر تحديث: الخميس 30 يناير 2025 - 8:55 م بتوقيت القاهرة
أسماء سعد
براعة تتجلى فى خوض مغامرة شعرية تمزج التجريب مع استعادة الهوية
حالة احتفاء نقدى وجماهيرى ما زالت تتواصل، بنصوص المختارات شعرية للشاعر السورى نورى الجراح تحت عنوان «ألواح أورفيوس»، الصادرة عن «دار الشروق»، وهى مختارات شاملة قدمتها واختارتها الدكتورة ناهد راحيل؛ حيث تعكس هذه المجموعة مختلف المراحل التى مرّت بها تجربة الجراح الشعرية.
يطالع القارئ مجهودًا ملحوظًا من راحيل، والتى تشير إلى أن الجراح يقدم عبر أعماله سردية شعرية مغايرة، تتمرد على الأنماط السائدة وتضع الذات فى مركزها الحقيقى. هذه السردية تتصدى للخطابات المهيمنة ذات الطابع الإقصائى والسلطوى، مستهدفة إعادة بناء هوية الشرق ودوره الحضارى، مع تصحيح ما شاب التعريفات التاريخية من سوء فهم وتشويه.
وتُطل الناقدة ناهد راحيل على عالم الشاعر نورى الجراح من زاوية فلسفية وجمالية، تسلط الضوء على مفهوم الشعرية بوصفه مجالًا إبداعيًا يعيد تشكيل المعانى ويستنطق التحولات الكبرى فى المشهد الأدبى. فى استعراضها لـ«ألواح أورفيوس»، تتناول راحيل قصيدة النثر كمجال متجدد للسؤال والتجريب؛ حيث يشكّل هذا النوع الأدبى هوية فريدة تنأى عن الأطر التقليدية والمعايير الثابتة. ترى الناقدة أن أعمال الجراح تُمثل ظاهرة خاصة ضمن هذا السياق، ما دفع ناقدًا مثل خلدون الشمعة إلى التحذير من اختزال هذا الشعر فى تعريفات مُحددة، مشددًا على ضرورة إبقائه مفتوحًا على احتمالات التطور.
ذهبت راحيل فى دراستها لتفسير شعرية الجراح باعتبارها ليست فقط تقنية أو أسلوبًا، بل تأسيسًا لوجود شعرى متفرد، تتجلى أبعاده من خلال تقنيات متباينة، مثل استلهام التراث، المزج بين الذاتى والجماعى، واستثمار البعد الدرامى الذى يُعمّق تفاعل القارئ مع التجربة.
بالمضى قدما فى مطالعة محطات هذا المؤلف القيم، يجد القارئ أن نصوص الجراح تجمع بين الذاتية والتخييل، حيث يجد القارئ نفسه فى حالة تماهٍ بين الشاعر والشخصية الرئيسية فى القصيدة، لكن هذا التماهى ليس مباشرًا، إذ يعتمد الجراح على تقنيات فنية ذكية تخلق مسافة وهمية بين الشاعر ونصه، مما يدعو القارئ إلى اكتشاف أوجه الشبه بين الاثنين دون أن يعلن الشاعر عن ذلك صراحة. هذا المزج بين التصريح والإيحاء يجعل من نصوصه مساحة غنية بالتأويلات، يضفى عليها طابعًا خاصًا يتسم بالغموض والتكامل.
عند تحليل شعر نورى الجراح، يصبح واضحًا أن شخصيته الواقعية قد تسربت إلى نصوصه، حتى صارت مكوّنًا لا ينفصل عن خطابه الشعرى. هذا الحضور الذاتى يفرض على المتلقى إدراك حياة الشاعر لفهم العمق الحقيقى للقصائد. وفى الوقت ذاته، تظل هذه الذاتية المتغلغلة فى النصوص وسيلة لاستكشاف شخصية الشاعر؛ حيث يشكل الشعر نافذة يطل منها القارئ على حيوات وتجارب الشاعر الشخصية. الجراح يُعدّ نموذجًا لشاعر جعل من حياته مادة أولية لقصائده، يمزج بين التذكر والتخييل ليبنى عالمًا شعريًا متفردًا.
يصل القارئ أيضا إلى حقيقة من داخل الكتاب الصادر عن «دار الشروق»، للشاعر السورى الكبير، حيث يبدو واضحًا أن الجراح لا يتعامل مع الشعر كوسيلة مجردة للتعبير، بل يضع ذاته فى قلب النص، فخطابه الشعرى يتسم بتخييل ذاتى، حيث ينسج من تجاربه الشخصية مادته الشعرية. بذلك، تتجاوز قصائده الحدود التقليدية للشعر، لتكون سرديات ذاتية مفعمة بالمشاعر والذكريات التى تعيد تشكيل الواقع فى إطار شعرى متقن.
تبرهن النصوص الخاصة بـ«ألواح أورفيوس»، أن شعر نورى الجراح، يولى اهتمامًا خاصًا بالمكان، لكنه لا يقدّم المكان كمجرد فضاء جغرافى، بل كمنظومة دلالية تُعيد تعريف الذات الفردية والجمعية. ترى الناقدة أن الجراح يكسر مركزية المكان ويفتح آفقًا جديدة يتجاوز الجغرافيا التقليدية ليُعيد التفاعل مع أمكنة متنوعة تاريخيًا وحضاريًا. ومع أن الدراسة لم تُسهب فى تحليل هذا البعد، إلا أن شعر الجراح يوحى بوعى نقدى يسعى إلى تفكيك مركزية الحضارة الغربية واستعادة دور الشرق فى تشكيل حضارة المتوسط.
كما يتضح دوما أن شعرية الجراح ليست فقط استجابة لتحولات الذات والمنفى، بل هى رؤية منفتحة للشعر باعتباره مغامرة جمالية وفكرية تُعيد اكتشاف العالم، هنا، تأتى سردية الجراح كمواجهة للخطابات المهيمنة، سواء أكانت سياسية أم ثقافية، مؤكدًا أن الشعر هو فى جوهره تأصيل لحضور الذات فى مواجهة هذا العالم.