نساء من عصر التابعين (6).. عائشة بنت سعد بن أبي وقاص.. التابعية التي أدركت 6 من أزواج النبي

آخر تحديث: الأحد 31 مارس 2024 - 5:14 م بتوقيت القاهرة

منال الوراقي

تعد سير الصالحات تربية عملية للنفوس، وغَرْس للفضائل، وتدريب على التجمل بالآداب الإنسانية في ميادين الخُلُق والرضا وطاعة الله؛ ذلك لأن التربية بالاقتداء من خير الأساليب التربوية؛ لصقل الطباع، وتهذيب المشاعر، والسير قدما على طريق التقوى والاستقامة.

وفي عصر التابعين برزت قصص عشرات النساء في حياة نبي الأمة، ممن كان لهن أثر عظيم في عصرهن والعصور التي تلته، أفرد لهن المؤلف والمترجم السوري أحمد خليل جمعة، كتاب "نساء في عصر التابعين" الصادر عن دار نشر ابن كثير، ليركز على دورهن وما جرى لهن من أحداث ترتبط بالدعوة الإسلامية وبالرسول.

عائشة بنت سعد بن أبي وقاص

ما من شك في أن للنساء أثراً مشكوراً في نشر حديث رسول الله، فلم تكن مجالسه قاصرة على الرجال، بل كان كثير من النسوة يحضرن فيستمعن إلى حديثه الشريف، وخصوصاً في المناسبات العامة، كصلاة العيد إذ كُن يخرجن جميعاً إلى المصلى لاستماع الموعظة النبوية.

إلا أن المجالس النبوية كانت الغلبة فيها للرجال دون النساء، لذلك جاء ولد النساء إلى رسول الله، وطلبن إليه أن يجعل لهن يوماً لذلك جاء يعلمهن فيه، فكان يجيبهن إلى ذلك.

وقد كان لزوجات النبي الطاهرات فضل كبير في تبليغ أحكام الدين، ونشر السنن بين نساء المؤمنين لا سيما ما كان من أم المؤمنين عائشة، التي كانت على مقدار عظيم من الذكاء والحفظ والفهم والمعرفة، ولا ريب في أن نساء النبي كن جميعاً قسيمات عائشة في إذاعة العلم، وإفاضة الدين على المسلمين، فقد أمرهن الله عز وجل بالاستقرار في بيوتهن ومدارسة القرآن الكريم، والسُّنَّةِ الغراء، في قوله عز وجل: وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى، إلى أن قال: واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة [ الأحزاب : ٣٣ و ٣٤ ] .

لذا كان لأمهات المؤمنين - رضي الله عنهن - أثر فعال في نشر السنة، ولولا هن لضاعت أحاديث وأحكام ما كنا لنطلع عليها أو تصلنا من غيرهن لا سيما الأفعال التي تقع بين النبي عليه وأزواجه، مما لا يمكن لأحد الاطلاع عليها، والوقوف على أحكامها.

وكان لأمهات المؤمنين - رضي الله عنهن - طالبات نجيبات من النساء اللواتي روين عنهن، ومن هؤلاء النسوة؛ امرأة جليلة القدر، امتازت بالصدق في العلم، والأمانة في الرواية، تلكم هي عائشة بنت سعد بن أبي وقاص الزهرية المدنية - إحدى النساء التابعيات - المتفوقات علماً وفضلاً، وحفظاً ورواية.

النشأة العلمية:

في أواخر خلافة سيدنا عثمان بن عفان، ولدت عائشة ابنة سعد بن أبي وقاص في المدينة المنورة، وكانت المدينة إذ ذاك موئل الصحابة والعلماء، ومنبع الحديث والمحدثين، وفي مقدمتهم عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها -.

ونشأت عائشة بنت سعد على حب العلم والرواية منذ نعومة أظفارها، وصنعت على عيني والدها سعد، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد السابقين الأولين إلى ساحة الإسلام، وأحد من شهد بدراً والحديبية، وأحد الستة أهل الشورى، وفضائله كثيرة شهيرة، وكانت ابنته عائشة تفخر به وتقول: أنا ابنة المهاجر الذي فداه رسول الله الله يوم أحد بالأبوين.

وإلى جانب هذه الفضائل، وهاتيك الخصال الحميدة، روى سعد عن النبي الله فأكثر وأطاب وأجاد، إذ روى عنه 270 حديثاً، وقد روت عائشة أول ما روت عن أبيها - رضي الله عنه - وعن عدة من أزواج النبي الله، فقد روى أيوب السختياني - رحمه عن عائشة بنت سعد أنها قالت: أدركت سناً من أزواج النبي.

وروت عائشة كذلك عن أم ذرة المدنية، وأم درة هذه راوية من راويات الحديث الثقات، كانت مولاة لعائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها، أما من روى الحديث عن عائشة بنت سعد فكثر منهم الجعد بن عبد الرحمن، وأيوب السختياني، والحكم بن عتيبة، وأبو الزناد، ومهاجر بن مسمار، وعبيدة بن نايل، ومالك بن أنس واخرون.

والحقيقة إن امرأة من تلامذتها ورواتها الإمام مالك لكبيرة الشأن في العلم، عالية القدر في الفقه، ومن الجدير بالذكر أن الإمام مالك - رحمه الله - لم يرو عن امرأة غيرها.

وكانت عائشة - رحمها الله - من ثقات راويات الحديث النبوي الشريف، قال عنها العجلي: عائشة بنت سعد مدنية، تابعية أما ابن حبان - رحمه الله - فقد ذكرها في الثقات، وقد روى لها الإمام البخاري وغيره.

عِبَادَتُهَا وَصَلَاتُهَا فِي المَسْجِدِ:

إلى جانب الرواية والفقه، كانت عائشة بنت سعد من النساء اللاتي وهبن أنفسهن للعبادة والصلاة، والمحافظة على أداء الصلوات في المسجد النبوي الشريف، لأن صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد، وكثيراً ما كانت تشهد صلاتي الصبح والعشاء في المسجد، ويدل على هذا ما ذكره حبيب بن أبي مرزوق قال: لقيت امرأة بالمدينة معها نسوة، وضوء نار - يعني شمعة - خارجة من المسجد، فسألت عنها فقالوا: هذه بنت سعد بن أبي وقاص.

عَائِشَةُ وشَخْصِيَّةُ أَبَيْهَا:

عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: كنا مع رسول الله، إذ أقبل سعد بن مالك - اسم أبي وقاص مالك - فقال رسول الله ﷺ: هذا خالي فليرني امرؤ خاله.

وهذا النسب الطاهر، وهذه القرابة الشريفة لسعد من جهة أم النبي. وهي آمنة بنت وهب بن عبد مناف الزهرية ابنة عم أبي وقاص، لذلك كان عليه الصلاة والسلام يقول عن سعد: ( هذا خالي ) .

وبعد هذا، حق لنا إذن أن نقول عن عائشة بنت سعد بأنها ابنة خال رسول الله، فأكرم بهذا الشرف ! وأعظم به !، وقد وصفت عائشة والدها وصفاً دقيقاً، كان عمدة الكتاب والمؤرخين في معرفة صورته، إذ أعطت ملامح دقيقة عن شخصيته وشكله، فقالت: كان أبي رجلاً دكداحاً - قصيراً - غليظاً ذا هامة، شين الأصابع، غليظها بلا قصر - أشعر، وكان يخضب بالسواد.

ولما بعث رسول الله سرية فيها سعد بن أبي وقاص إلى جانب من الحجاز، يُدعى رابغ، انكفأ المشركون على المسلمين، فحماهم سعد يومئذ بسهامه، فكان هذا أول قتال في الإسلام.

وروت عائشة ابنته أن أباها قال يومئذ: ألا هل أتى رسول الله أني.. حمين صحابتي بصدور تبلي.. أذود بها عدوهم ذياداً.. بكل حزونة وبكل سهل.. فما يعتد رام من معد.. بهم مع رسول الله قبلي.

ومما روته عائشة - رحمها الله - عن أحوال والدها أنها قالت: قال سعد: اشتكيت بمكة، فدخل على رسول الله يعودني، فمسح وجهي وصدري وبطني وقال: اللهم اشفي سعداً، فما زلت يخيل إلي أني أجد برد يده على كبدي حتى الساعة.

ومن خلال أخبار عائشة عن والدها، يمكن لنا أن نعرف جوانب هامة عن حياة هذا الصحابي الكريم، فقد أخبرتنا عن أعماله، وغزواته، وأمواله، وذكرت وفاته وغير ذلك مما يدل على اهتمامها بتبليغ العلم، ونشر فضائل الصحابة الكرام عن هذا الطريق، والآن، لنقرأ سويا هذه الفقرات الكاشفة التي تحدد فيها عائشة مكان وفاة والدها.

قالت عائشة: مات أبي رحمه الله في قصره بالعقيق على عشرة أميال من المدينة، فحمل إلى المدينة على رقاب الرجال، وصلى عليه مروان بن الحكم وهو والي المدينة وذلك في سنة ٥٥ هـ، وترك يوم مات مئتي ألف وخمسين ألفاً.

معَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ:

تشير أخبار عائشة بنت سعد - رحمها الله - إلى أنها كانت على صلة دائمة بزوجات النبي الله، وأنها كانت تدخل عليهن، فيكرمنها، وربما دعون لها بالبركة، وقد نقلت إلينا هذه التابعية بعض الصور التي تتعلق ببعض القواعد الشرعية، والأحكام الإسلامية، من ذلك ما أخرجه محمد بن سعد بسنده عنها أنها قالت: أدركت سناً من أزواج النبي الله، وكنت أكون معهن، فما رأيت على امرأة منهن ثوباً أبيض، وكنت أدخل عليهن وعلى الحلل فلا يعبن ذلك علي فقيل لها: ما هو؟ .

قالت: قلائد الذهب ومزيقيات الذهب، فلا يعين ذلك علي، وعن فقه عائشة بنت سعد وخصوصاً في الوضوء، حدثت عبيدة بنت نابل عن ذلك، فقالت: كان لعائشة بنت سعد خاتمان من ورق فضة - في اللتين تليان الخنصر، فكانت إذا توضأت أجالتهما.

ولعل عائشة بنت سعد - رحمها الله -، كانت في صلاتها وفي نوافلها لا تخرج عما كانت عليه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ـ، فقد أخرج الإمام أحمد بسنده، عن عائشة بنت سعد عن أم ذرة قالت: رأيت عائشة - رضي الله عنها - تصلي الضحى وتقول: ما رأيت رسول الله عله يصلي إلا أربع ركعات.

وفي سنة ۱۱۷ هـ، لقيت عائشة بنت سعد ربها؛ بعد أن قضت قرابة تسعين عاماً إلا قليلاً قضتها في العلم والرواية، وكانت آخر من بقي من بنات المهاجرين، فقالت : والله ما بقي على وجه الأرض بنت مهاجر ولا مهاجرة غيري.
أقرأ ايضا:

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved