العاشق غسان كنفاني.. ثلاث حكايات بلا نهاية

آخر تحديث: الثلاثاء 10 سبتمبر 2024 - 6:11 ص بتوقيت القاهرة

إيمان صبري خفاجة

في عام 1972 بالعاصمة بيروت أغتيل الكاتب والصحفي الفلسطيني الأشهر غسان كنفاني، في واحدة من عمليات الموساد التي تبناها للانتقام من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، خاصة عقب عملية "مطار اللد" التي قُتِل خلالها 26 إسرائيليًا عام 1972.

 

ظن الموساد بذلك أنه أسكت صوتًا يعد أحد أهم الأصوات التي تحدثت العالم عن القضية الفلسطينية، ودعمت حركة المقاومة خلال الفترات المضطربة التي عاشها الوطن العربي، فسلاح كنفاني كان صوتًا وقلمًا؛ وكفى به سلاح.

ظل قلمه يكتب العديد من المقالات بكل لغة يتقنها، وصوته كان يدوي في  البرامج الإذاعية والتليفزيونية؛ يناقش ويتفاوض على كل شيء إلا حق العودة والسيادة الفلسطينية الكاملة.

 

خَلّد كنفاني المراحل التي مرت بها القضية والمواطن الفلسطيني، في ظروف مختلفة كالتهجير واللجوء منذ نكبة عام 1948، من خلال كتابة مجموعة من الأعمال الروائية والمسرحية التي ساهمت في تشكيل هوية الأدب الفلسطيني.

 

ألّف غسان كنفاني 18 كتابا ضمت مقالات سياسية وثقافية كانت تدور دائما حول القضية الفلسطينية، وقد جمعت هذه الأعمال بالإضافة إلى الروايات في مجلد واحد وترجمت إلى 20 لغة حول العالم لتظل كلماته تدوي في فضاء العالم حتى الآن.

 

آخر هذه الأعمال كانت ثلاثة أعمال روائية غير مكتملة، كان قد شرع في كتابتها ولم يمهله القدر حتى يكتب نهاياتها، جمعت هذه القصص في كتاب واحد بعنوان العاشق.

 

وكأن القدر شاء أن يوافق فكرة غسان وخط سير حياته حتى النهاية، فقد رحل كنفاني والقضية مازالت دون حل قاطع كما عاش وأراد حتى لحظته الأخيرة، بل كان اغتياله بهدف أن تهدأ القضية أو لعل أصحابها يخشون القتل فيتبعون الصمت منهجا، كما جاءت القصص مشتعلة بالأحداث والنضال الذي لم ينته، وذلك ما سوف نكتشفه من خلال قراءتنا خلال الأسطر التالية لهذه الروايات الثلاث في نسختها الصادرة عن منشورات الرمال.

 

العاشق

تبدأ الحكاية من مدينة ترشيحا؛ حيث يقف "قاسم" بين الخيل حائرا أين يذهب والمدينة -بل الوطن- تحت حصار الإنجليز الذين ينهبون الأرض ويخدشون الصخور بحثا عن الثوار أمثال "قاسم" الذي كان أبرزهم، وزادته الأقدار شرفًا بالخصومة مع الضابط الإنجليزي "كابتن بلاك" الذي استطاع "عبدالكريم" الفكاك من قبضته ليكمل نضاله في مكان آخر في حادثة شهيرة شهودها العيان أهل مدينة عكا وصخورها وخيولها أيضا، ومن تلك الحادثة تحول من "عبدالكريم" إلى "قاسم".

لم يفقد "كابتن بلاك" الأمل في أن يجد "عبدالكريم" يوما ماثلا أمامه ليقتله بيده، بعد أن يلقي به بين أسوار السجن ويشفي غليله منه الذي استمر لأشهر طويلة كللته بالعار من قبل دولته، فكيف يستطيع فتى فلسطيني أن يتخلص من قبضته المسلحة؟!

في هذا الجزء يلقي غسان بذكاء المناضل والروائي الضوء على نقطة مهمة، وهي أن المغتصب لا ينسى ثأره حين يهرب منه المناضل، فكيف يطالبون الثوار من أصحاب الأرض ورجال المقاومة أن ينسوا قضيتهم؟!

بل ظلوا لسنوات يعملون على إخماد ثورة الشعب الفلسطيني والقضاء  بل واقتلاع بذرة المقاومة فيهم فلا يستطيعون، فتعود جذوة الثورة لتشتعل من جديد والبذرة تطرح أجيالًا جديدة أكثر صلابة ويقينًا بالنصر من سابقيهم؛ ولعل ما نشهده منذ أشهر طويلة في غزة خير شاهد على ذلك.

 

خلال رحلة بحث كابتن بلاك المضنية لم يتخف قاسم بل كان يتحرك بكل حرية تحت العديد من الأسماء المختلفة التي عرف بها، وجاء بها غسان كدليل على أن المقاومة الفلسطينية لها وجه وهدف واحد مهما اختلفت الأسماء من بلدة إلى أخرى ومن جيل إلى جيل.

 

لسوء الحظ وكدليل قاطع على أن القضية لن تنتهي بهذه البساطة سقط قاسم في يد كابتن بلاك، لكن كان الأخير قد أصبح أكثر ضعفا ويأسا عما كان وعلى النقيض أصبح البطل أكثر بأسًا وصلابة.

كما نوهنا في المقدمة فهذه الحكاية بلا نهاية لكن لها دلائل عديدة ومعانِ سنظل نبحث عنها وفيها حتى يتحرر قاسم ورفاقه، من أبنائنا في فلسطين الذين يمثلهم قطاع غزة الآن، أحد هذه المعاني هو اسم القصة "العاشق"، فقد عشق قاسم الوطن والحق في المقاومة والعودة ومن ثم السيادة الكاملة للفلسطينيين على أراضيهم، وكان "كابتن بلاك" عاشقًا لأوامر جيشه الإنجليزي ومن يدعمونه، ولكن أكل العاشقين سواء؟ هناك فارق بقدر الهوة بين السماء والأرض بين عاشق الدم واغتصاب الوطن، وبين العاشق الحق ورفاقه عشاق الوطن.

 

برقوق نيسان

 

في هذه القصة يضع غسان القارئ أمام حقبة مهمة من تاريخ المقاومة الفلسطينية، التي طالما تعرض أصحابها وأهاليهم للتضييق؛ إلى حد عزوفهم عن الاعتراف بهوية أبنائهم من الشهداء حين كانت قوات الجيش الإسرائيلي تستدعيهم للتعرف عليهم، ففي ذلك فرصة للتنكيل بهم وحرمانهم من دفن أبنائهم، لكن هل استسلمت المقاومة ورجالها لذلك؟! وكيف تحايل الأهل والأصدقاء على هذه الألاعيب؟!

تكمن الإجابة في حكاية "أبو القاسم"، ذلك الرجل الكهل الذي يحمل باقة من ورود البرقوق إلى "سعاد" إحدى سيدات المقاومة التي كان ضمن أدوارهن التواصل مع أهل الفدائيين وصرف رواتب لهم ورعاية من استشهد ذويهم وتركوهم بلا سند ولا رعاية تحت بطش قبضة الاحتلال التي تتبعهم أينما ذهبوا، فهم يعلمون أن بذرة المقاومة لا تموت، والعائلة التي تقدم اليوم شهيدًا تقدم غدا مئات المناضلين ومن ثم الشهداء.

في واحدة من زيارات "أبو القاسم" لـ"سعاد" يصطدم برجال الجيش الإسرائيلي يسيطرون على منزلها، ويضعون الكمائن والفخاخ لكل من يطرق باب شقتها، وإذا بمن يعرف حقيقة نشاطها ومن لا يعرفه يتّحدون في حمايتها وإنكار التهم التي توجه إليها وتعطيل قوات الاحتلال؛ حتى تتمكن من الفرار إلى مدينة أخرى تستكمل فيها نضالها الذي بدأ ولم يتوقف.

كان "أبو القاسم" أكثر الحاضرين تعرضا لتهكم ضباط الجيش بباقة الورود التي يحملها، وبصمته ونظراته الحائرة بين الحاضرين وجهله التام بما يحدث ويحاك خلف الأبواب، وبالرغم من ذلك استطاع أن يؤدي دوره هو الآخر دون قصد، لكنه سبق وأدى دورًا في حماية المقاومة عن قصد؛ حين أنكر أن الجسمان المسجى أمامه هو جسد ابنه "قاسم" ووقع على وثيقة مفادها أن أي شخص يحمل هوية ابنه في أي مكان يقوم بعمل نضالي سوف يعرض هو الآخر إلى العقاب، فاستطاع بذلك أن يحمي بقية رفاق قاسم وتضليل قوات الجيش في تتبعهم.

وحيث تقف أحداث الحكاية يلقي غسان الضوء على تساؤل إجابته بديهية:  ألم يحمينا كبارنا بقصد ودون قصد منهم حين علمونها هوية الوطن وقيمته؟ وحين حمل كل منهم مفتاح بيته كدليل على عودة أكيدة لا محالة؟ ألم يحمينا كبارنا بحماية التراث وحكاياته وحكايات الأجداد من المناضلين وبنائين المدن والقرى؟! وحين علمونا أن من لا يملك تراث لا يملك وطن؟!  فالكيان الصهيوني استطاع أن يؤلف العديد من الحكايات الكاذبة، ولكنه لم يستطع خلق تراثًا كالذي نمتلكه وحملته ملامح كبارنا.

بين حكاية العاشق وبرقوق نيسان لا يخلق غسان فارق في الموضوعات التي يسلط الضوء عليها فقط، بل يحدث طفرة أخرى في أسلوب سرد الحكايات تحول إلى أبرز أبطالها، ففي حكاية العاشق كان أسلوب السرد المتعدد الرواة هو البطل الأساسي، وتتجلى قوته في أن يلمح القارئ ثلاثة أشخاص يتحدثون عن نفس المشهد في صفحة واحدة دون أن ينوه الكات ، بل يتعرف القارئ على هوية من يتحدث من خلال المحتوى ووجهة النظر التي يتبناها الراوي.

 

أما في برقوق نيسان تتجلى البطولة السردية في الهوامش التي زينت صفحات الحكاية بالعديد من المعلومات التي صيغت بأسلوب قصصي، فحين تتبع هذه الهوامش تتحول هي الأخرى إلى حكاية منفصلة بذاتها عن الحكاية الأصلية لكنها تثريها وتضيف إليها، فالحكايات الفلسطينية أوجه مختلفة لعملة واحدة.

 

الأعمى والأطرش

يسلط الكاتب من خلال حكاية "عامر وأبوقيس" أبناء طيرة حيفا الذين لم يلتقي أي منهم بالآخر إلا في المخيمات، على دور وكالات الغوث الدولية المعنية بشؤون اللاجئين والتي عاش المواطن الفلسطيني تحت رحمتها لسنوات في معاناة بعيدة كل البعد عن الأهداف التي تتبناها تلك الوكالات ومن يدعمونها.

يعاني "عامر وأبوالقيس" من فقدان إحدى حواسهم، عاش كل منهم يحاول الشفاء من الفقد واستعادة هذه الحواس دون طائل؛ بالرغم من طرقهم الأبواب كافة التي كان آخرها زيارة قبر أحد الأولياء الذين ذاع سيطهم وشهرتهم بالقدرة على شفاء الناس، ولكن هل هناك دواء لمن فقد وطن فودع الأمان إلى الأبد؟!

يستطيع "عامر وأبو القاسم" أن يكشفا زيف هذا الولي، ولكن هل يصدقهم أحد؟! وهذا السؤال ما حال بينهم وبين الإعلان عن زيف هذا الولي.

لكن حين يمعن القارئ النظر يكتشف أن رد الفعل العنيف من الناس ما هو إلا نتاج ضعف وقلة حيلة، فما هو سلاحهم في وجه الخذلان المتتالي من العالم حولهم سوى الإيمان بالمعجزة؟ حتى وإن كانت أصولها مبنية على الخرافة؟! وهكذا كانت الأسر الفلسطينية في مواجهة اللجوء لكنهم لا يستطيعون الجلوس هكذا ومواجهة المعاناة اليومية في طوابير تحصيل الماء والغذاء ومواسم الحصول على الكساء في صمت، لابد أن يكون هناك أمل فكان أملهم ذلك الولي وشجرته ومعجزة لم تحدث ولكنهم ينتظرونها.

لكن غسان لم ينس أن يسلط الضوء على أن للخرافة أتباع يحمونها كي يظل الناس عبيد لها وهذه علة أوطاننا.

كما جاء بعنوان الحكاية للتدليل على أن الحق الفلسطيني والقضية واضحة إلى حد أنها لا تحتاج إلى سمع أو بصر، فحين يدعي البعض خاصة الحكومات والهيئات العالمية أنها لا تسمع ولا تبصر، فهل يستطيعون إنكار الإحساس بما يعانيه الشعب يوميا؟!  للأسف يؤكد الأمر الواقع الآن أنهم  استطاعوا لكن الشعب الفلسطيني لم يمل النضال.

كما يؤكد على نقطة هامة، فكيف تنتهي ويلات هذا الشعب إذا كان العمى والطرش منا وفينا؟! من رجالنا الذين عينتهم تلك الوكالات العالمية كواجهة لها يتحكمون في حقوق اللاجئين يوميا ويغضون البصر والسمع عن ما يحدث وما يشاهدونه يوميا، فكل ما يعنيهم أن تملأ الفراغات أمام الأسماء وأن يسجل أسماء المفقودين بدقة كي يفسحوا المجال لغيرهم، وتجلى ذلك داخل الحكاية فيما حدث بين مصطفى موظف الإغاثة وزينة إحدى اللاجئين!

وبتتابع الحكاية يشير غسان أيضا أن البعض حين تشتد الأزمة يتمنى لو يفقد القدرة على الرؤية والسمع، وقد يكون ذلك من فرط الضعف وقلة الحيلة، وضياع الإرادة ومن ثم اليأس وهم كثر حول العالم.

ووسط معاناة اللجوء في تلك الفترة لم ينس غسان التطرق إلى الخلاف الذي اشتعل بين الناس حول الحل السياسي بالتفاوض وبين قوة السلاح.

على أعتاب هذه الحكاية نكتشف بطل آخر وهو السرد؛ وظهر ذلك جليا عن طريق الحوار الداخلي للأبطال الذي سلط "غسان" من خلاله الضوء على أبعاد القضية الفلسطينية ووجهات النظر التي اختلفت فيها وعنها وحولها، وكيف يفكر المواطن الفلسطيني في قضيته وما يدور في عقله وصدره يوميا؟!

وسرعان ما يكتشف القارئ بطل أخر للأحداث، البطولة المجهولة كانت لشخصية "الأم" التي لم يذكر اسم لها ووضعها في موضع الذكرى خلال السرد، لكنك تستطيع الآن عزيزي القارئ أن تراها في المرأة الفلسطينية الغزاوية بالتحديد التي يقف العالم يرصد معاناتها اليومية ويتعجب من قوتها وقدرتها على تحمل نيران الفقد التي لم تنطفئ منذ السابع من أكتوبر الماضي، كما كانت هذه البطولة غير المحددة بالاسم والملامح رمزًا لكل من حمل القضية على عاتقه حتى أنفاسه الأخيرة، هي غسان نفسه، العاشق، زهرة برقوق نيسان التي قطفها الاغتيال فظل عبيرها يعطر أنفاس كل مؤمن مدافع عن القضية الفلسطينية حتى الآن وإلى الأبد.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved