على الرغم من أن المشاريع المذهلة ساهمت في التواصل بيننا أكثر من أي وقت مضى، إلا أن حرية الإنترنت تتراجع في الوقت الحالي.
على شاطئ رملي حار في لاغوس في نيجيريا، يشق وحش بحري عملاق طريقه ليخرج من مياه المحيط الأطلسي الزرقاء متجها إلى المدينة.
ورغم أن هذا الوحش البحري يشبه ثعبان البحر النحيف، إذ لا يزيد حجمه عن حجم خرطوم مياه الحديقة تقريباً، ولكنه أطول بكثير مما يمكن تخيله.
ويبلغ طوله 45 ألف كيلومتر من بدايته إلى نهايته. وهو ما يعني أنه يمكن أن يلتف حول كوكب الأرض بأكمله.
أفريقيا 2، يعد أكبر كابل إنترنت تحت سطح البحر يتم بناؤه على الإطلاق. وسوف يستغرق إنشاء هذا المشروع أربع سنوات بتكلفة لا تقل عن مليار دولار، وسوف يربط بين قارات أوروبا وآسيا وأفريقيا.
وسيوفر قدرة محسنة للإنترنت ومرونة حيوية لحماية التدفق الحر للإنترنت إلى 33 دولة، من خلال 46 نقطة وصول منفصلة من البحر إلى الأرض.
تم بالفعل تشغيل أجزاء من الكابل ولكن لن يتم الانتهاء منه تماماً حتى العام المقبل. سيوفر الكابل عالي التقنية سعة إنترنت أكثر من إجمالي السعة الحالية لجميع الكابلات البحرية التي تخدم إفريقيا مُجتمعة.
إنه مشروع الإنترنت الأكثر طموحاً على الإطلاق حيث تتدفق الأموال والخبرات من الدول المتقدمة والشركات العملاقة في الإنترنت مثل ميتا وتشاينا موبايل وفودافون.
وقد ساهمت المشاريع الطموحة مثل كابل أفريقيا2، في وصول خدمة الإنترنت إلى 70 في المئة من سكان العالم.
ونعتمد جميعاً على الكابلات البحرية كل يوم في استخدام الإنترنت لإرسال رسائل البريد الإلكتروني أو مشاهدة مقاطع الفيديو.
في بعض الأحيان، تعتمد اتصالات دولة بأكملها على عدد صغير من كابلات الإنترنت التي يمكن أن تنقطع، بل وتتعطل بالفعل.
وهناك العديد من الطرق التي يمكن من خلالها تهديد اتصالنا بالإنترنت مثل حوادث قوارب صيد الأسماك، أو وقوع الزلازل والانهيارات الأرضية، وفي بعض الأحيان الاشتباه في أعمال تخريب، لكن يظل التهديد الأكبر والأكثر تزايداً يأتي من الحكومات نفسها.
تُظهر البيانات السنية التي جمعها باحثو الاتصال في توب تن في بي إن (Top10VPN9) أن اتجاه انقطاع الخدمة يتزايد، حيث يتم قطع الإنترنت عمداً في بلد أو منطقة.
وتتصدر الهند دول العالم في هذا الاتجاه من خلال تبني تكتيك ثابت لقطع خدمة الإنترنت عن كل شيء، سواء لمنع الغش في الامتحانات أو حتى للسيطرة على المعارضة.
توضح الخرائط السابقة كيف زادت عمليات إغلاق الإنترنت في السنوات الخمس الماضية من عام 2019 إلى عام 2023. ويشير اللون الأحمر لأي دولة إلى زيادة عمليات الإغلاق التي شهدتها.
وشهدت الدول ذات اللون الأصفر الفاتح ما بين 1-5 عمليات إغلاق.
وشهدت الدول ذات اللون الأحمر الداكن ما لا يقل عن 20 حالة إغلاق.
ووفقا للباحثين، فقد زاد عدد عمليات قطع الخدمة المتعمدة في السنوات الخمس الماضية، وكان عام 2023 هو العام الأسوأ على الإطلاق.
2019: 134 حالة قطع للخدمة في العالم.
2020: 93 حالة قطع للخدمة في العالم.
2021: 57 قطعا للخدمة في العالم.
2022: 130 قطعا للخدمة في العالم.
2023: 225 قطعا للخدمة في العالم.
الهند لديها أكبر عدد من عمليات قطع الإنترنت مقارنة بأي دولة أخرى، وعلى نحو متزايد، يبدو أن القادة ينظرون إلى الإنترنت ليس كحق للمواطنين ولكن كأداة للحكم.
لقد أصبحت الأمور خطيرة للغاية لدرجة أن الأمم المتحدة قالت في العام الماضي: "قد يكون الوقت قد حان لتعزيز الوصول الشامل إلى الإنترنت كحق من حقوق الإنسان، وليس كمجرد امتياز".
ولا يقتصر الأمر على قطع خدمة الإنترنت فقط، بل هناك ارتفاع أيضاً في معدلات الرقابة على المواقع والخدمات.
توضح الخرائط السابقة تراجع حرية الإنترنت في السنوات الخمس الماضية بناءً على النتيجة التي حددها الباحثون أيضاً. فكلما كان لون البلد أكثر احمراراً، كانت الأمور أسوأ، وفقاً لمؤسسة فريدوم هاوس، التي تحلل البلدان بناءً على الرقابة والمراقبة وعدد المواقع المحجوبة.
ويقول الباحثون إن حرية الإنترنت تراجعت لمدة 13 عاماً على التوالي.
وتراجعت حرية الإنترنت مؤخراً في إيران وميانمار، مع بقاء الصين أسوأ بيئة على الإنترنت.
ولم يعد المتشائمون فقط هم الذين يقولون: إن الإنترنت كما نعرفه حالياً يحتضر.
لكن لماذا؟
يقول الخبراء إن الأمور تسير في اتجاه واحد فقط، لأن أدوات التحكم في الإنترنت أصبحت وفيرة والحكومات لا تجد حرجاً في استخدامها.
تقول جاكي كير، زميلة أبحاث في جامعة الدفاع الوطني الأمريكية: "كان هناك خطاب متفاءل في وقت سابق من أن الإنترنت سيتحول إلى فضاء عالمي، بعيداً عن متناول سيطرة الحكومة، ونفس الشيء في كل مكان، لكن ذلك كان دائماً ضرباً من الخيال".
وتضيف جاكي أن هذا الخيال ساهم فيه فهم غير صحيح لكيفية عمل التكنولوجيا فعلياً. على سبيل المثال، وصف الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون، محاولة التحكم في كيفية استخدام الناس للإنترنت بأنها لن تنجح، وشبهها بأنها "مثل محاولة تثبيت الهلام على الحائط".
لكن الأمور تغيرت بحسب جاكي، وتوضح أن الأمر كان مجرد مسألة وقت قبل أن "تتمتع الحكومات بمزيد من السيطرة وتتعلم كيفية تنسيق الأمور لفرض سيادة القانون على الإنترنت".
كانت الصين رائدة في التحكم بالإنترنت، وقد فعلت ذلك من خلال تطوير حلول لأجهزة وبرامج باهظة الثمن لإنشاء سور الحماية العظيم (من الإنترنت) الشهير.
كما قامت بتجنيد جيش من مراقبي الإنترنت القادرين على مراقبة ما يشاركه الأشخاص ويناقشونه لفرض رقابة مباشرة على الإنترنت.
وأصبحت أجهزة السيطرة على الإنترنت أرخص وأسهل مما يسمح للدول الأخرى بأن تحذو حذوها.
تعمل روسيا على سبيل المثال منذ سنوات على بديل أرخص بكثير من خلال تطوير نظام أسماء النطاقات الخاص بها، والذي يوصف غالبا بأنه دليل الهاتف للإنترنت، وسيمنعها هذا النظام من الوصول بفاعلية لشبكة الإنترنت الدولية الرئيسية.
لقد تراجعت روسيا في مؤشر حرية الإنترنت بنقطتين منذ الغزو الشامل لأوكرانيا.
وهناك دول أخرى تراقب الإنترنت بصرامة. "إن الاستبداد الرقمي آخذ في الارتفاع بالتأكيد." بحسب قول مروة فطافطة، من مجموعة حقوق الإنترنت أكسس ناو (Access Now).
في السعودية، على سبيل المثال، تستخدم السلطات نسخة مقيدة وخاضعة للرقابة من الإنترنت حيث يمكن معاقبة الأصوات المعارضة، رغم أن المملكة استفادت من مبادرة كابل أفريقيا2 ووصل إلى عاصمتها الرياض في فبراير.
كما أصدرت المملكة قانوناً يلزم الشركات التي لديها عقود مع الحكومة بأن يكون لها وجود إقليمي في الدولة. وتم فرض قواعد مماثلة في تركيا والأردن والهند وألمانيا أيضاً. والنتيجة هي أن شركات الإنترنت من المرجح أن تمتثل للرقابة سواء لأسباب قانونية أو سياسية.
وتقول مروة فطافطة، "أرى أن هذا يمثل تهديداً متزايداً بالتأكيد، إذ إننا نشهد الآن ظهور أشكال متعددة من السيطرة في جميع أنحاء العالم".
وعلى خطى الصين، تحاول بعض الدول استبدال تأثيرات الإنترنت الغربية بالكامل. لسنوات شجعت روسيا نمو تطبيقاتها المنافسة على الإنترنت. فتطبيق ياندكس يتحدى غوغل وأوبر. كما سجل تطبيق في كيه VK نمواً مع انكماش الفيسبوك. وبدلا عن يوتيوب يستخدم الروس أر يو تيوب RuTube.
تيك توك وكاب كت وشي إن وتيمو.. أبرز التطبيقات الصينية التي تغزو الأسواق الغربية
ولكن منذ الغزو واسع النطاق والتحيز الواضح ضد روسيا، عمل الكرملين بقوة على منع تلك الشركات الأمريكية وإجبارها على الخروج.
وفي الهند حظرت السلطات أيضاً العديد من التطبيقات الصينية من متاجر التطبيقات الخاصة بها مع تزايد التوترات الجيوسياسية. إذ إن الهند، بعدد سكانها الهائل، قادرة على وضع الأسس التي يتبلور بها عصر الإنترنت القادم.
تتجه بعض الدول الغربية أيضاً، نحو إنترنت أقل انفتاحاً وحرية. تأتي خطة الولايات المتحدة لحظر تطبيق تيك توك لأسباب تتعلق بالأمن السيبراني في الوقت الذي يتحدى فيه التطبيق المملوك للصين، هيمنة شبكات التواصل الاجتماعي الأمريكية.
ومع انتشار منصات صينية أخرى مثل موقعي التسوق تيمو وشين، فهل يمكن للولايات المتحدة، حصن مثاليات الإنترنت، أن ينتهي بها الأمر إلى منع المواطنين من الوصول إلى تلك المواقع أيضاً؟
لذلك، على الرغم من أن الإنجازات الهندسية المذهلة تساعد على التواصل بيننا، إلا أن الإنترنت أصبح أكثر انقساماً وتفككاً من أي وقت مضى.