فى عام 1967 ذاقت مصر مرارة الهزيمة التى تحولت إلى حزن خيم على وجوه المصريين وندبة فى قلوبهم، وكان لكل منا طريقة فى التعبير عن ذلك الحزن، فمنا من قرر عدم المواجهة والانعزال تمامًا عن الشأن العام وكأن لا شىء مما حدث أو يمكن أن يحدث يعنيه، حالة إنكار كما يسميها أطباء علم النفس الآن، ولكن بطبيعة شعبنا الذى يرفض الانصياع لمرارة الهزيمة كان هناك هجوم على من واجه الهزيمة بالإنكار ونعتهم بالضعف والتخاذل وأن لا فائدة مرجوة منهم، بل هم السبب الحقيقى الذى يحول بيننا وبين الخروج من دوامة الهزيمة، وما زاد الأمر سوء فى مفارقة غريبة، أن من اختار العزلة كان يعترف أن لا فائدة مرجوة منه بالفعل فلا يزيده الهجوم عليه سوى رغبة أكبر فى الاستسلام.
ولكن يظل السؤال: كيف عاش هؤلاء وسط ضجيج تلك المرحلة التى كان كل ما فيها يطالبهم بالمقاومة؟ وهل كانت النكسة هى هزيمتهم الوحيدة؟ أم أنهم أبناء هزائم صغرى كتلتها الحرب ووضعتها فى حجمها الحقيقى الذى لا يستطيعون مواجهته؟ فى رواية شرق النخيل أول الأعمال الروائية للكاتب الراحل بهاء طاهر التى كتبها عام 1985، ثم أعادت دار الشروق إصدارها عام 2009 وحتى الآن، يحاول طاهر أن يرصد تلك الحالة، ويقف على أسباب الهزيمة الاجتماعية والثقافية لا العسكرية التى لم يتطرق إليها من الأساس. تتشابك خيوط الرواية بين يدى بطل معلوم الهوية أو كما يعرف فى عالم الأدب بالراوى العليم الذى يحدد لك صوته ملامحه بدقة وكأنك تراه بالرغم من أنه لا يعرف خلال الأحداث باسم محدد، وهو ما فعله الكاتب أيضا كناية عن أن من عاشوا حياة البطل فى تلك المرحلة كثر، تتشابه ملامح حياتهم حد التطابق فما الفائدة من ذكر أسمائهم والتجربة ما زالت آثارها حاضرة وبقوة بل هى التى شكلت الحاضر والمستقبل أيضا. يستيقظ البطل فى أحد الصباحات على صخب خارجى لا يستطيع الهرب منه حتى فى نومه، فقد رحل أحد جيرانه والشارع بأكمله يقيم سرادق كبير، لا يعير البطل الأصوات أو الحدث أى اهتمام، ولكن ظلت أصوات السرادق على اختلافها حاضرة فى خلفية أغلب مشاهد الرواية، فلم يكن السرادق فى جوهره سوى تعبير عن حالة الحزن التى كان يعيشها وطن بأكمله فى كل منزل فقد شهيد أو لديه جندى لا يعرف مصيره، تسير الحياة اليومية بطبيعتها لكن الحزن يطل من الوجوه ويتسلل من بين الكلمات، كلمات الأغنيات والأفلام والأحاديث الجانبية التى لا تسفر سوى عن شجارات فالجميع يفتش عن شىء يفرغ فيه شحنة الحزن الغاضبة. يتجاهل الراوى صوت السرادق ليقع فريسة لصوت ذاكرته التى تعيده إلى القرية، إلى أهله، يتذكر والده الذى يرسل له خطابات لاذعة اللهجة تلومه على رسوبه الجامعى، يتذكر حكاية العم وابنه حسين، كان الأخير صديقه الحقيقى الأول والوحيد، الذى رحل هو ووالده فى يوم واحد دفاعا عن أرضهم التى أرادت أحد العائلات الاستيلاء عليها. حادثة مروعة أبعدته عن القرية وأهلها وأورثته شعور بالتخاذل فهو لم يستطع أن يساعدهم سوى باقتراح محاولة للتفاوض قد تنهى هذا الخلاف، ولكن حسين أصر على أن الحقوق لا تقبل التفاوض. وفى هذا الرفض القاطع يتجلى الفرق بين حسين وبعض الأصوات التى يعكسها الكاتب من خلال اقتراح البطل للتفاوض، فإذا خضع الحق للتفاوض لا يعنى ذلك سوى أنه تشكيك مباشر فى أحقيتك فيه، وأنك تقدم دليل آخر يؤيد كذبة من يعتدى عليك، ليصبح ظلمه يقين ثابت فى قلبه، فالمعتدى يعرف أنه معتدى مهما بدا عكس ذلك وكلما زادت المقاومة ازداد عنفه لأن الحقيقة تتضح جلية أمام عينيه تؤرقه وتنذره بأنه آجلا أم عاجلا خاسر، والتفاوض يساعده على تصديق كذبته. وبناء على ذلك رفض حسن ووالده هذا الحل فكانت نهايتهم التى شهدتها القرية بأكملها، النهاية المنطقية التى نشاهدها حتى الآن يوميا على شاشات التلفاز كمصير حتمى لأصحاب الحقوق. لكن فى ذلك الزمن وبالنسبة للبطل فقد وضعنا حسين هو وأمثاله ممن يدافعون عن أرضهم ومبادئهم بحياتهم فى مأزق حين أدرك البطل أن لا مفر من اشتباك لاسترداد الحق والأخذ بالثأر العالق فى رقبته، ولكن كيف يمكنه أن يفعل ذلك وقد ترك كل شىء وهرب من البداية؟ فحين ينظر إلى نفسه من زاوية ما حدث فى القرية يدرك أنه تخاذل وحين ينظر من زاوية النكسة يشعر بهزيمة أكبر منه، هزيمة جيل بأكمله. ومن ذكريات القرية يهرب إلى صخب الجامعة ومظاهرات الطلبة من أصدقائه الذين يمرون عليه ويقذفونه بنظرات ازدراء وسخرية فلا يعيرها أى اهتمام وكأن العالم أصبح ضده عدا سمير وليلى. سمير رفيق الجامعة والسكن، واحد ممن فجرت فيهم الهزيمة طاقة للتفاعل مع الأحداث ومحاولة تصحيح الأوضاع حتى وإن لم تكن فى يده فيكفيه أن يصرخ برغبته بالكتابة والخروج فى المظاهرات، كما كان مثال لمن ترك قرية عاش فيها عالم محدود إلى عالم أوسع، فلم يخرج من القرية خروج المنبهر بالمدينة، بل كان رحيله عنها فرصة للمعرفة والانفتاح على كل القضايا الإنسانية فى العالم. أما ليلى فهى فتاة جامعية بسيطة جمعت بينها وبين البطل قصة حب حولتها إلى شخص آخر، من فتاة ينتظرها مستقبل مضمون فى وظيفة مناسبة وحياة اجتماعية هادئة إلى فتاة شغوفة بالقراءة والمشاركة فى العمل العام خاصة بعد الحرب، ولكن ليلى فى جوهرها وموضعها الروائى كانت نموذجًا لمن تفتحت عقولهم على يد بطل الأحداث ثم جاءت الهزيمة لينزوى ويشعر بالذنب تجاه ليلى، نعم فقد تحول إلى مجرم فى حقها حين أيقظها من نعيم الجهل يمنيها بأحلام عظيمة ثم جاءت النكسة، هكذا كان يرى دوره فى حياتها، ولكن ولسخرية القدر ظلت ليلى على إيمانها بالحلم، إيمان يعمق شعوره بالخيبة، ولكن ألا تعد صحوتها وشعلة الحياة فيها هى الأمل الذى بفضله صمد هذا الجيل.