نصوص تجمع بين العمق الفلسفى والأسلوب السردى المتقن
عمل أدبى فريد يتجاوز كونه مجرد حكاية سردية ليصبح رحلة تأملية فى أعماق النفس البشرية، رواية «نقطة النور»، للكاتب الكبير بهاء طاهر، والذى نشهد الذكرى الـ90 على ميلاده، حيث تتشابك فى الرواية الأسئلة الوجودية مع التفاصيل الحياتية البسيطة، فما يميز هذا العمل ليس فقط إتقانه الفنى وبراعة أسلوبه، بل قدرته الساحرة على المزج بين الحب والصراع، الحلم والواقع، وبفضل لغته العميقة وحبكته المترابطة، تأسر الرواية القارئ، بما يجعلها تجربة أدبية استثنائية ومفعمة بالإنسانية.
يأخذ بهاء طاهر فى روايته «نقطة النور» القارئ فى رحلة شديدة الخصوصية، رحلة تستكشف أعماق النفس البشرية فى ضوء التأملات الاجتماعية والرؤى التاريخية والروحية. يقدم طاهر تجربة أدبية متكاملة، حيث تنساب كلماته بهدوء مفعم بالمعانى، لتصل إلى أبعاد صوفية تضج بالشوق إلى مراتب السمو. لكنه فى ذات الوقت لا ينفصل عن واقعية الإنسان، إذ يغوص فى حالات الجسد بماديته وأحاسيسه، متجاوزًا الثنائية التقليدية بين الروح والجسد، ليعيد تقديمهما كوجهين متكاملين لجوهر واحد. من هنا تنبثق «نقطة النور» كرمز يختزل فلسفة الرواية، دعوة للتصالح مع الذات وإدراك جمال الحياة من خلال التوازن الداخلى.
الرواية تبدو كنسيج أدبى متشابك من مشاعر الحب ورؤى الصوفية، لكنها تبتعد عن أى ابتذال أو سطحية. تبدأ الحكاية من مكان وزمان محددين، لكنها سرعان ما تتشعب إلى مسارات متعددة، تتداخل فيها الشخصيات والأحداث. جدٌّ يسعى للتطهر من ماضيه، هاربًا من أخطائه نحو صفاء النفس وسلامها، حفيدٌ شاب يعيش صراعًا بين البحث عن الحب ومواجهة قسوة واقع يهدد أحلامه الهشة، حفيدة تناضل من أجل أبسط حقوق الحياة فى ظل عالم يحد من أحلامها، وأنثى تمزقها الثنائية بين جمال الشكل وسحر الروح. هذه الشخصيات، رغم اختلاف مساراتها، تسير فى اتجاه واحد، تتقاطع أقدارها فى نقاط وتفترق فى أخرى، حتى تأتى النهاية لتكشف أن الهدف لم يكن فى الوصول إلى شىء محدد، بل فى رحلة البحث ذاتها.
يدعو بهاء طاهر القارئ إلى مرافقة أبطال الرواية فى بحثهم عن النور وسط ظلمات الحياة. يسير القارئ معهم فى رحلة يظن فى بدايتها أن النور يكمن فى الخارج، فى المحيط والآخرين. لكنه مع تطور السرد يكتشف أن النور الحقيقى هو ما ينبعث من الداخل، نور الروح الذى يتجلى حين يتخلى الإنسان عن قيوده ورغباته، وحين يدرك أن السعادة ليست مرتبطة بالإرادة، بل بالانسجام مع الذات والعالم.
الرواية تحتفى بالحب كحالة وجودية، كوسيلة للحفاظ على نقاء الروح والوصول إلى نورها. تعيد «نقطة النور» تعريف العلاقة بين الإنسان والوجود، مؤكدة أن الحياة ليست صراعًا بل احتفالًا مستمرًا، وأن الجمال يكمن فى الرحلة، لا فى نهايتها. يقدم بهاء طاهر بذلك عملًا أدبيًا عميقًا، يجمع بين روعة السرد وعمق الفكرة، ليبقى فى ذهن القارئ كتجربة لا تُنسى.
يعيد بهاء طاهر تشكيل الإنسان فى روايته «نقطة النور»، كاشفًا عن انقساماته الداخلية بين الثبات والانفتاح، بين النقاء والتعقيد. يمنح القارئ نظرة عميقة إلى ذلك التباين المتجسد فى لونين: الأبيض والأسود. من خلال هذه الثنائيات، يقدم طاهر صورة شديدة الإنسانية تلامس تناقضات الروح البشرية، حيث يحتدم الصراع بين السعى إلى الكمال والوقوع فى فخاخ النقص.
تتجلى براعة بهاء طاهر الأدبية فى قدرته على تجاوز المعانى السطحية للغة، لينسج منها عالمًا نابضًا بالتفاصيل المتقنة والصنعة الفنية المتناهية. الكلمات عنده ليست مجرد أدوات، بل نوافذ مفتوحة على مشاهد حسية وروحية تعيد تشكيل الفهم التقليدى للأدب. كل وصف وكل حوار يحمل فى طياته دقة مذهلة تنساب إلى وجدان القارئ دون مقاومة، حتى تبدو كأنها جزء لا يتجزأ من تجاربه الشخصية.
جاء فى النص ضمن أشد ما يميز بهاء طاهر حقًا هو تلك القدرة الفريدة على الانغماس فى ذائقة القارئ، بغض النظر عن اختلاف المشارب الفكرية أو الثقافية. تشعر وكأنك ترى انعكاسًا لأفكارك أو مخاوفك بين صفحات الرواية. فهو لا يكتب فحسب، بل يعيش داخل كلماته، يسكب جزءًا من روحه فى كل تفصيلة، مما يضفى على النص صدقًا لا يقاوم.
فى «نقطة النور» يتقن تصوير الانفعالات البشرية بحرفية تستحضر التفاصيل الصغيرة، تلك التى قد تبدو عابرة لكنها تحمل عمقًا يجعلها تنبض بالحياة. حتى عندما يغوص فى الزوايا الصوفية التى تنبثق من أعماله، فإنه يفعل ذلك برفق وسلاسة، فلا يجد حتى أولئك المختلفين مع هذا البعد الروحى سببًا للنفور. بل على العكس، يدفعهم للتساؤل: أين تكمن نقطة نورهم الخاصة؟
الرواية ليست مجرد سرد لقصص ثلاث شخصيات رئيسية، لكنها انعكاس لظمأ الإنسان المستمر نحو التنوير. يلتقى القارئ بشخصيات تنبض بالحياة: أرواح تتقاطع بين ألم الماضى وتعقيدات الحاضر وتطلعات المستقبل. دراما إنسانية مبهرة، تمزج بين تأثيرات الظروف الاجتماعية وميول الشخصيات، لتخلق سيمفونية من الصراعات الداخلية التى تسلط الضوء على ما هو أبعد من السرد التقليدى.
فى روايته «نقطة النور»، ينسج بهاء طاهر حبكة تقوم على تقسيم سردى ثلاثى الأبعاد، يمنح القصة هيكلًا ديناميكيًا، وينقل القارئ بين عوالم متعددة من خلال عدسة الشخصيات الرئيسية. البداية مع القسم الأول، المخصص لسالم، حفيد الباشكاتب توفيق أفندى السعدى، الذى يشكل نقطة انطلاق السرد. وفى القسم الثانى، يتحول التركيز إلى لبنى، حيث تتضح معاناتها الناتجة عن خيانة والدتها لوالدها، والعلاقة المتوترة بينهما. والدها، شوكت بيك، كان فى شبابه يساريًا حالمًا بشعارات الثورة والعمال، بينما والدتها كانت تسعى إلى حياة مختلفة وأكثر عاطفية، وجدت مخرجها فى علاقة مع صدقى بيك، ما أدى إلى طلاقها من شوكت. هذا الطلاق ترك لبنى فى حضانة والدها، ولكنه لم يخفف من وطأة المعاناة التى تحملتها نتيجة نشأتها بين عوالم متناقضة. وفى القسم الثالث، «الباشكاتب»، هو المحور الذى يربط الخيوط السردية. بشخصيته المتجذرة فى الماضى، يهيمن الباشكاتب على السرد، سواء من خلال حضوره المباشر أو تأثيره غير المباشر على بقية الشخصيات. يتمتع الباشكاتب بظل ثقيل يمتد ليطال كل التفاصيل، مما يجعله القلب النابض للرواية.