محمد بصل يكتب: للبسطاء انتصاراتهم الصغيرة - كيف نفهم تدخل نيكاراجوا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية؟ - بوابة الشروق
الأحد 8 سبتمبر 2024 4:07 ص القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

محمد بصل يكتب: للبسطاء انتصاراتهم الصغيرة - كيف نفهم تدخل نيكاراجوا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية؟


نشر في: السبت 10 فبراير 2024 - 6:51 م | آخر تحديث: السبت 10 فبراير 2024 - 11:36 م
محكمة العدل الدولية ساحة صراع سابق بين نيكاراجوا والولايات المتحدة.. وإسرائيل ساندت واشنطن.
فوجئ ملايين العرب منذ ساعات بإعلان محكمة العدل الدولية تسجيل أول تدخل رسمي في قضية جنوب أفريقيا المرفوعة ضد إسرائيل لاتهامها بممارسة صور الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني في غزة المنكوبة. ولحسن الحظ جاء هذا التدخل الرسمي لصالح الشعب الفلسطيني منضما في طلباته إلى جنوب أفريقيا، سابقا بذلك دولا أخرى أعلنت نيتها التدخل في القضية لمساندة إسرائيل مثل ألمانيا، أو لمساندة حقوق الشعب الفلسطيني مثل بوليفيا.

فالطريق الآن باتت ممهدة لتسجيل طلبات التدخل الموضوعي في القضية، بعدما أصدرت المحكمة بالفعل قرارها في طلب التدابير المؤقتة بضرورة وقف إسرائيل جميع صور القتل والتعذيب والتجويع والتهجير وإلحاق الأذى بشعب غزة والسماح بإدخال المساعدات الإنسانية، مما أغلق صفحة الشق العاجل من الدعوى، لتبدأ مرحلة نظر موضوعها، للحكم فيما إذا كانت تصرفات إسرائيل تشكل خرقا لاتفاقية منع الإبادة الجماعية أم لا.

إن الحيثيات التفصيلية والمستطردة والاستشهادات المتعددة بالأدلة والقرائن والبيانات الرسمية من المنظمات الدولية التي أوردتها المحكمة في معرض قرار التدابير المؤقتة، تكشف ترجيح الغالبية العظمى (14 من 15) من أعضائها قيام جرائم إبادة جماعية في غزة. ربما ترى بعض الدول أن هذا الترجيح يغني عن التدخل وبذل جهد قانوني كبير في مساندة جنوب أفريقيا، وعلى النقيض قد يمثل قرار الشق العاجل حافزا لدول أخرى كانت تشك في قدرة المحكمة على النظر في القضية بعدالة مطلقة، ارتباطا بمساندة الغرب لإسرائيل سياسيا وعسكريا، وبالنظر أيضا للحسابات التاريخية المعقدة لروسيا والصين في منظومة العدالة الدولية.

كأول الغيث بعد غمام كثيف من الوعود والتصريحات المتعاطفة، يأتي التدخل الرسمي من نيكاراجوا، تلك الدولة المجهولة لملايين العرب، وربما لم يسمع غالبيتهم عنها من قبل. دولة صغيرة لا تزيد مساحتها على 130 ألف كيلومتر ويقطنها 7 ملايين إنسان لا تربطهم بالعالم العربي أي صلة تقريبا، إلا التعاطف الذي بات ثابتا تجاه القضية الفلسطينية.

فهناك أكثر من 500 أسرة تعيش في العاصمة ماناجوا ومدن أخرى تنحدر من أصول فلسطينية جراء الهجرات من مدن الأراضي المحتلة في النصف الأول من القرن العشرين، كما هاجرت عائلات فلسطينية إلى دول أخرى بأمريكا الوسطى وأمريكا اللاتينية. غير أن العامل الأهم هو تأييد الحق الفلسطيني من منطلق مناهضة السياسات الأمريكية الداعمة للاحتلال الإسرائيلي.

أُنهكت نيكاراجوا طيلة عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، في ثورة شعبية ضد ديكتاتورية عائلية مدعومة من واشنطن تحولت إلى صراع بالوكالة في نهاية الحرب الباردة، بين حكومة اشتراكية شمولية وميليشيات الكونترا التي أنشأتها أمريكا وأشرفت على تدريبها وتجهيزها لتعيد سيطرتها على نيكاراجوا.

ومن هنا يمكن بدء فهم تحرك نيكاراجوا الآن إلى جانب الشعب الفلسطيني.

خسرت الكونترا الحرب الأهلية، وتم تعديل دستور نيكاراجوا، وخسر الاشتراكيون "الساندنستيون" أول انتخابات رئاسة ديمقراطية عام 1990 لصالح القوى اليمينية، ثم استعادوا الحكم عام 2006 واعتاد رئيس البلاد دانييل أورتيجا الفوز بالانتخابات الرئاسية ضد أحزاب صغيرة، وأرسى نظاما سياسيا تلاحقه الاتهامات الحقوقية، صديقا للدول المناهضة لسياسات واشنطن التي فرضت عقوبات أسوة بسلوكها مع فنزويلا وكوبا.

وقبل تلك التقلبات السياسية اللاحقة لانهيار الكتلة الشرقية، خاضت نيكاراجوا صراعا من نوع خاص مع الولايات المتحدة في خضم الحرب بين الحكومة الاشتراكية والكونترا، عندما اجترأت على مقاضاة أمريكا أمام محكمة العدل الدولية واتهمتها بانتهاك جميع المواثيق الأممية والعبث بسيادتها والتسبب في قتل عشرات الآلاف من مواطنيها بصور متعددة، منها زرع الألغام على السواحل وفي الطرق والغابات وتدريب وتجهيز ميليشيات إرهابية مخربة (الكونترا) وانتهاك المعاهدات السلمية الثنائية.

وكان لتجرؤ حكومة نيكاراجوا اليسارية الناشئة على نقل المعركة مع واشنطن إلى ساحة القضاء الدولي في بداية ثمانينيات القرن الماضي، صدى واسعا في العالم كله، لا سيما الحقلين الدبلوماسي والقانوني، نظرا لإشراك محكمة العدل الدولية في حرب سياسية وعسكرية بين طرفين غير متكافئين في أي شيء، ولكنهما يقفان لأول مرة كخصمين لهما نفس الحقوق وعليهما نفس الواجبات أمام منصة القضاء الدولي.

آنذاك، وقد كانت نُذُر انهيار الاتحاد السوفيتي بادية للعيان والعالم يسير نحو نظام عالمي جديد أحادي القطب، اعتُبرت قضية نيكاراجوا ضد أمريكا اختبارا لشجاعة محكمة العدل الدولية وكفاءتها وقدرتها على تحقيق العدالة بغض النظر عن مآلات الصراع السياسي واعتبارات مجلس الأمن، فقد كان معروفا أنه لا أمل لنيكاراجوا في الحصول على أي دعم من المجلس بسبب الفيتو الأمريكي وتجريد الجمعية العامة للأمم المتحدة من صلاحيات التدخل الفعال.

وفي يونيو 1986 نطق رئيس المحكمة الهندي ناجندرا سينج بالحكم المرتقب حاملا إدانة مشددة وغير مسبوقة لأمريكا، مكونا من 15 فقرة كل منها تنتصر لحقوق نيكاراجوا وفقا للقانون الدولي الإنساني ومواثيق الأمم المتحدة والاتفاقيات الدولية والثنائية، وكان من بينها فقرتان تدينان زرع الألغام وعدم الكشف عن أماكنها وتشجيع قادة الكونترا على ارتكاب أفعال غير إنسانية، حظيتا بتأييد عضو المحكمة الأمريكي ستيفن شويبل.

لقد أدانت المحكمة أمريكا بعبارات صريحة لا تقبل التأويل على هجماتها المباشرة ودعمها لميليشيات ليس لها وصف إلا أنها كانت "إرهابية" وبقائمة طويلة من الاتهامات منتهية إلى "إلزام واشنطن بدفع تعويضات مالية عن خرق معاهدة الصداقة والتجارة والملاحة بينهما، ليمثل الحكم انتصارا قانونيا للبسطاء على الجبابرة.

لكن المنظومة الدولية المُصممة لحماية الطرف الأقوى أبت أن يحصل الضعيف على حقه، حتى في تنفيذ حكم أصدرته أعلى محكمة دولية.

فعندما لجأت نيكاراجوا لمجلس الأمن لتنفيذ الحكم تحت ستار طلبها "إلزام جميع الدول بالالتزام بأحكام محكمة العدل الدولية والامتناع عن انتهاك سيادة أي دولة بأمريكا الوسطى" استخدمت واشنطن حق النقض (الفيتو) وعرقلت القرار رغم موافقة 11 دولة عليه.

فتوجهت نيكاراجوا إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة لاستصدار قرار يدعو أمريكا إلى الامتثال لحكم محكمة العدل الدولية، فصوتت لصالحها 94 دولة مقابل 3 فقط: أمريكا والسلفادور.. وإسرائيل. لكن بالطبع لم يُنفذ القرار لأنه غير ملزم.

إن تأييد إسرائيل لأمريكا عام 1986 وتحالفهما اليوم ضد الشعب الفلسطيني، مع الخبرة السابقة الإيجابية لنيكاراجوا مع محكمة العدل الدولية، تشكل أسبابا تاريخية ومنطقية لانضمامها إلى دعوى جنوب أفريقيا.

لكن وكما تحمل قصة نيكاراجوا مؤشرات إيجابية لإمكانية تحقيق انتصارات -ولو صغيرة- للبسطاء بسلاح القانون الدولي، إلا أنها أيضا تعكس أن العدالة الدولية محض وهم، وأن منظومة التقاضي الدولي سوف تبقى منزوعة الفاعلية -أو محدودة على أفضل تقدير- طالما بقيت محكمة العدل الدولية بلا ذراع تنفيذية لتُترك أحكامها الملزمة عُرضة للإهدار في مجلس الأمن.

فالدولة الصغيرة لم تحصل حتى الآن على سنت واحد من التعويضات التي قضت بها المحكمة، وزادت عزلتها الدولية بمزيد من العقوبات الأمريكية خاصة بعد عودة دانييل أورتيجا للحكم، بل إن الاقتصاد الوطني الصغير لم يبدأ في التعافي من الآثار المدمرة للتدخل الأمريكي إلا بعد نحو ربع قرن.

ونكاد نلمح سلبيات التجربة الذاتية في الطلبات التي تقدمت بها نيكاراجوا إلى المحكمة، حيث أكدت ضرورة إلزام إسرائيل بتعويضات تجبر الأضرار التي ألحقتها بالشعب الفلسطيني، على رأسها إعادة إعمار ما دمرته في غزة، وضمان العودة الآمنة والكريمة للنازحين واحترام إنسانيتهم وحقوقهم الكاملة وحمايتهم من التمييز والاضطهاد مستقبلا.

ومع كل الأسباب الداعية للتشاؤم من القدرة المحدودة للقانون الدولي على التغيير السياسي، تعطي نيكاراجوا درسا للكافة بضرورة السعي لانتزاع الحق: اطرق كل الأبواب وناضل في جميع الساحات.


قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك