يقال إن أغلب العباقرة يموتون مبكرا، ولا أحد يدري مدى حقيقة تلك المقولة، لكنها الشواهد يوما بعد يوم تكشف لنا مدى ما فيها من صدق، فهذا مثالنا وعلمنا في مئوية وفاته، علم الموسيقى المعاصرة، شاب الثلاثين، سيد درويش، قد غادرنا قبل مئة عام، بعدما أحدث ما لم يحدثه لا معاصروه ولا من جاءوا بعده، في نحو سبع سنوات من العطاء، ثورة موسيقية غيرت شكل الفن لقرن من الزمان.
ولكن كيف نفهم سيد درويش؟
سؤال ربما يطرق عقولنا في كل مرة نستمع فيها إلى نغماته، أو نقرأ عن تلك العبقرية التي غادرتنا مبكراً، ولكن أثرها امتد أضعاف ما عاشته، وعلى امتداد كل تلك السنوات، لم يخفت قلم جاد إلا وقد حاول تبيان ما قد يكون استعصى ادراكه من عبقرية وتفرد، أو كان ظاهراً ولتفرده لم يلاحظه أحد.
وقد حاول أديبنا الكبير يحيي حقي من خلال عدد من مقالاته عام 1970، أن ينبهنا إلى ظاهرة في فن سيد درويش جديرة بالانتباه، فاتت ملاحظتها ومحاولة تقييمها وإدراك دلالاتها.
ويشير "حقي" إلى ارتباط عضوي بين تفجر الشعور الوطني أعقاب ثورة 1919، وتفجر فن الكاريكاتير، وأن تلك الظاهرة في فن سيد درويش "وإن بدت متعلقة بنشاط فرعى ثانوي، قد تعيننا على تفسير جوانب أخرى هامة في حياة مجتمعنا، وأعنى بها ظاهرة قيام ثورة سنة 1919 - مع تفجيرها للشعور الوطني - بتفجيرها أيضا لفن الكاريكاتير عندنا فكان بين الإنجازين ارتباط عضوي وثيق".
وفي إجابته على سؤال كيف نفهم سيد درويش؟ يعتقد "حقي" أننا لا نستطيع فهم سيد درويش إلا إذا نظرنا إليه باعتباره وليد ثورة سنة 1919، هذه الولادة جديرة بأن تكون نقطة البداية في الحديث عنه.
ويتابع قائلا إن ظاهرة سيد درويش ليست ظاهرة فذة أو منفصلة، أو طارئة كالرعد في سماء صافية، هي - في الموسيقى - قرين ظاهرة المثال محمود مختار في النحت، وظاهرة بيرم التونسي في الأدب الشعبي، وظاهرة المدرسة الحديثة في القصة، وكلها ظواهر متماثلة نابعة من ثورة سنة1919، التي فجرت مطلب الكشف عن وجه مصر، عن وجه الشعب، مطلب البحث عن أدب وفن يختص بهما هذا الشعب ويعبران عنه.
مطالب كان الدافع المزدوج من ورائها، بحسب "حقي": نزعة إلى الاستقلال بعد الانطواء تحت لواء الخلافة العثمانية، وإلى التحرر بطرد الإنجليز، ودافع آخر هو التلهف على اللحاق بركب الحضارة، يقظة بعد سبات، حركة بعد خمول، نفض التراب الباطل عن آثارنا المجيدة ليبدو جلالها من جديد كما كان أيام عزه. أي الجمع بين الأصالة والتجدد.
ويَعجب من أن "هذه المعادلة الصعبة لم تكن تبدو صعبة لأبناء مصر سنة 1919، من الأدباء والفنانين، لأنهم أدركوها بوجدانهم، تلقائيا، لم يغرقوها في مناقشات جدلية لا طائل تحتها"، كما حدث في أجيال تالية. مشيرا للغرابة في "أن تشابه الرسالة كان ينم أيضا عن تشابه حياة أربابها، تشابه نشأتهم. كلهم من أبناء الطبقة الكادحة أو ما يقاربها، تشابه أمزجتهم وطباعهم، جميعهم أولاد نزعة بوهيمية"
ويرى "حقي" في محاولة منه لتصوير وجوه مصر البارزة في 1919، أنه "لو طلبت مصر سنة 1919 أن تؤخذ لجلستها صورة فوتوغرافية لأجلست مختار على يمينها، وسيد درويش على يسارها"، فهي وإن كانت "تحب سيد درويش بقلبها، ولكنها تحب مختار بقلبها وعقلها".
الكاريكاتير.. ومجالات التعبير
وبحسب "حقي" فقد ازدهر فن الكاريكاتير بدفعة من ثورة 1919، وامتد من الرسم إلى بقية مجالات التعبير، وكان أكثر بروزا وشيوعا عند الجمهور في المجال السياسي حين اتخذته الأحزاب المتطاحنة سلاحا رئيسيا في معركتها، وكان هذا هو العهد الذهبي لمجلة الكشكول التي كانت تهاجم حزب الوفد. شاع الكاريكاتير بعد ثورة 1919، وانتقل من الصحافة السياسية ليغزو مجال الأدب؛ ويعدد لنا "حقي" كثير من الأمثلة على ذلك قائلا" "فأمير الشعراء أحمد شوقي رغم تملصه من قبضة كل قانص إلا إلهامه يجب أن لا يتخلف عن العصر فنراه ينزل إلى هذا الميدان الجديد فينظم قصائد تعتمد على الوصف الكاريكاتوري... وفي إنتاج محمد ومحمود تيمور وطاهر لاشين وهم من رواد القصة القصيرة، أعمال هي في حقيقتها لا تعد قصصا في نظر النقد بل مجرد لوحات كاريكاتورية مرسومة بالقلم، ولا بد أن أذكر هنا بيرم التونسي كنا نتابع مقالاته "السيد ومراته في باريس" لأنها مثل فذ لبراعة في الوصف الكاريكاتيري".
ويتابع: "ولكن من العجب أن الكاريكاتير امتد أيضا الي النحت، فمن أروع أعمال مختار في مرحلة الشباب تمثال سماه "ابن البلد" وهو في صميمه صورة كاريكاتورية إن أردت ان تلتقط من ابن البلد خصائص طبعة الأصيل. ولكن الاعجب مما مضى كله ان العبقرية المصرية في الكاريكاتير لم تخرج من الرسم أو الأدب أو النحت، بل خرجت من ميدان غير متوقع...".
"حين انغرزت قدم سيد درويش في مسرح كشكش بك"!!
يشير "حقي" إلى أن بعض الألحان الغربية وبخاصة أعمال البالية مثل باليه "كوبيليا" و"سندريلا"، قد نلمح فيها أطيافا من الكاريكاتير، ونستطيع ان نصف بعض ألحانها بأنها تعبير كاريكاتيري. ولكن وفقا له: "كل هذا غرض جانبي لا يقوم عليه العمل كله، خيط بسيط مندس خفية في نسيج له غايات أهم وأبعد، أما الكاريكاتير عند سيد درويش فصرح ضخم مشتعل، قائم بذاته لذاته".
ويرصد لنا المفارقة العجيبة والتي ووفقا له لم ينبهنا أحد من قبل إليها قائلا: "هذه المفارقة العجيبة أن العبقرية في فن الكاريكاتير عندنا لم تتمثل في رسام أو أديب أو نحات...، بل تمثلت في موسيقى سيد درويش، مفارقة لأن التعبير عن الكاريكاتير بالرسم او بالكلمة أو بالحجر المنحوت ميسر ومألوف، أما أن يكون بالألحان وأن ينجح في التعبير غاية النجاح فهذا هو المستبعد من قبل، المستغرب من بعد".
يعدد لنا "حقي" عددا من أشهر الأغاني التي لحنها درويش لمسرح الريحاني الذي كان قائماً على تقديم لوحات استعراضية من غناء ورقص وتمثيل، حيث يقف كشكش بيه عمدة كفر البلاص على المسرح يستقبل وفود طوائف الشعب؛ وتلقِ كل طائفة كلمة بين يديه تعبر عن حياتا وكدحها عن آلامها ومباهجها، ويقول: "يخيل إليك أنه اشتغل طول عمره شيالا في محطة مصر من لحنه "شد الحزام على وسطك"، أو سقاء من لحنه "يعوض الله"، أو سايسا يجرى أمام عربات الباشوات - حريمي ورجالى - من لحنه "أوع يمينك أوع شمالك" أو أنه مولود في السودان من لحنه "شنجر دام" ومعناها: مفيش فلوس، أو محاميا يشكو كساد مكتبه من لحن "يا بو الكشاكش أحنا الأبوكاتية"، أو تاجر سجاجيد كشاني من لحنه "أحنا يا أفندم تجار العجم"، أو جرسونا يونانيا في قهوة، أو حشاشا من القرارية من لحنه "يا ما شاء الله ع التحفجية".
يقف "حقي" مندهشاً ومعجباً أمام ظاهرة انفجار موهبة سيد درويش في الرسم الكاريكاتيري بالألحان، ويقول: "اكتَشفت عبقرية سيد درويش في فن الكاريكاتير ذاتها، فانطلقت كالصاروخ حيث تقابل سيد درويش ونجيب الريحاني وبديع خيري، لقاء لا شك دبره قدر ممراح خفيف الدم لكي يفجر من أوتار قلب وعود سيد درويش كل هذه الروائع الكاريكاتيرية".
مشيراً إلى أن سيد درويش - تمشيا مع مطلب المسرح - في مسرح كشكش بك - أقام تلحينه لهذه الأغاني الجماعية على الرسم الكاريكاتيري. لقط من كل طائفة طباعها التي يتندر الناس بها، وأبرزها في ألحانه بظرف وخفة دم.
الرسم الكاريكاتوري بالألحان
ويزعم "حقي" أن تلحين سيد درويش لهذه الأغاني الجماعية على نهج كاريكاتيرى، هو الذي فتح الطريق أمام درويش للقيام بدوره، الخطير في الموسيقى العربية بتحويلها من التطريب الصرف إلى التعبير، وأن هذه النزعة التعبيرية قد قويت عنده فألتزمها في ألحان أوبريتاته. وأنه في تعبيره عن نفسه في أدواره الخالدة العظيمة عادة يبدأ بضمير المتكلم أنا عشقت - أنا هويت - ضيعت مستقبل حياتي – وقد كانت كلمة "آه" قبله لا تستخدم إلا لإبراز قدرة الصوت والتلاعب بالنغمة، لكنه حولها إلى أداة من أدوات التعبير، تتلون في كل موضع حسبما يناسبه، بدأ بها دور "أنا عشقت" - كما بدأ بيتهوفن سيمفونية البطولة بدقات طبلة من غير تشبيه ولا تمثيل طبعا! فإذا بها تنهيدة بحق وحقيق صادرة من قلبه لم يمطها ولم يتلاعب بها.
واختتم قائلا: لكي تدرك موهبة سيد درويش في تلحينه الكاريكاتيري، قارن بين أدائه لهذه الأغاني وبين أداء أي مطرب آخر حاول أن يقلده، ستجد الفرق شاسعا، فليس الذي يفوت المطرب هو النغم، بل هو هذا المرح الروحي الظريف أي طبع الكاريكاتير الذي كان يتهلل له سيد درويش وتهللنا له أيضا، ولازال هذا الأثر باقيا في قلوبنا إلى اليوم، كأن هذه الأغاني لم يعف عليها الزمن، لا تموت.
تابع القراءة في ملف الشروق عن سيد درويش 100 عام من الإلهام