بعد قرن من رحيل سيد درويش، مازال ابن الإسكندرية هو العلامة الفارقة الأبرز في تاريخ الموسيقى العربية الحديث، وإحياء لذكراه المائة تفتح "الشروق" ملفا متجددا يضم إسهامات من كبار المؤرخين والنقاد والفنانين، بالإضافة إلى موضوعات عديدة حول سيرة فنان الشعب وتأثيره الممتد ودوره الفذ في تاريخ مصر والعالم العربي، فنيا واجتماعيا.
وبهذه المناسبة؛ اختص المؤرخ والناقد الفني الكبير د. فكتور سحاب "الشروق" بهذا المقال، وهو الذي أصدر نخبة من أهم ما كُتب بالعربية عن سيد درويش، لا سيما في كتابه المرجعي "السبعة الكبار في الموسيقى العربية المعاصرة" أو في إصداره الجديد "سيد درويش - المؤسس" الذي خصصه لرصد دور "الموسيقار العربي الذي قلبَ صفحة القرن التاسع عشر في الموسيقى العربية المدنيّة".
وإلى المقال..
كان سيد درويش نصيراً للطبقات الفقيرة، ومناهضاً للاستعمار.
لكن القصة ليست بهذه البساطة. إليكم التفاصيل بكل ألوانها ومساراتها وشعابها.
- بيئته فقيرة على الدوام
فأما ميله إلى الفقراء من شعبه، فمسألة متأصّلة في داخلته وكيانه. ذلك أنه ولد لأب نجار فقير، في حي كوم الدكة الفقير في إسكندرية، ويَتِمَ من الأب وهو لما يزل طفلا. وحين شب، واشتهر وانتقل للعيش في القاهرة، بعدما استدعته فرق التمثيل المسرحي هناك (علي الكسار، ونجيب الريحاني، ومنيرة المهدية، وأبناء عكاشة، وجورج أبيض)، وبات يكسب المال الوفير، اختار أن يقطن في حي شبرا الشعبي. وهكذا ظلت بيئته الاجتماعية هي البيئة الشعبية المعدَمة، أفي الاسكندريّة أم في القاهرة.
ولما كان قد ذاق من الفقر جوعه وآلامه وهمومه، وكانت روحه تمتاز بالحساسيّة الكاملة، فقد ظل على ولائه للفقراء، وميولهم الوطنية المناهضة للاستعمار البريطاني، الذي كان قد احتل مصر عام 1882، أي قبل ولادته بعشر سنوات. وقد نشأ في مجتمع وطني ينادي برحيل هذا الاستعمار، في الحركة الوطنية التي كان يقودها بعد أحمد عرابي، عند انقلاب القرنين التاسع عشر والعشرين، مصطفى كامل ومحمد فريد. وكانت تحيط به في هذا الجو مناخات سياسيّة وطنيّة متأجّجة، تشرّبها في روحه المستعدة تمام الاستعداد لهذا الميل الوطني.
وذكر عازف القانون المبدع المرحوم محمّد عبده صالح، في مجلة "الكواكب" (العدد 51، في 22 تموز/ يوليو 1952، أي عشية يوم ثورة 1952 في 23 يوليو)، واقعة حدثت تنطوي على دلالة عميقة عن هذا الانتماء الدرويشي إلى الفقراء. قال عبده صالح:
"أذكر أني حضرت ذات ليلة – مع والدي رحمه الله- حفلة عرس كان الشيخ سيّد يحييها وهو في ريعان مجده، مجاملة لأحد جيرانه الفقراء.. ولقد بلغ الشيخ في تلك الليلة ذروة الإبداع الذي عرف عنه.. ولما انتهى من الغناء انتحى به والدي جانباً، وقال له مازحاً:
- إيه الإبداع ده.. دا لازم المعلوم طيب؟
فقال له الشيخ:
- بالعكس.. دي ليلة حاف.. لكن أنا باغني بقلب لأنها بتاعة زملائي سابقا..!
فقال والدي متعجباً:
- زملاءك؟!.. زملاءك في إيه؟!
فأجاب الشيخ ضاحكاً:
- في الفقر يا أخينا!"
كان الشيخ سيّد درويش صفحة جديدة في الغناء الوطنيّ والاجتماعي والسياسيّ. فإلى جانب الأغنيات المسرحيّة التي حفلت بالمعاني القوميّة والحض على نهوض جناحي المجتمع رجالاً ونساءً، كان يظهر في ذلك الزمن، لون من الغناء الوطنيّ والاجتماعيّ، يغلب عليه طابع مدرسي، أو نزوع إلى تعظيم الحاكم، فنجد في المصادر والمراجع اسماً مثل: محمّد الهراوي، تخصّص في أغنيات التلاميذ، عن وجوب النوم بعد جهاد اليوم، أو عن النقود والثياب الجديدة التي يأتي بها العيد السعيد، وما إلى ذلك، إضافة إلى أغنيات عن الملك فؤاد "الذي أحيا البلاد"، أو عن قدوم سعد زغلول من المنفى.
في تلك الحقبة استطاعت عبقريّة الشيخ سيّد درويش، بحسّه الوطنيّ البالغ الرهافة، أن يشتقّ للتعبير الوطنيّ خمس طرق، في أغنيته الاجتماعيّة والوطنيّة.
كان بين أغنياته الوطنيّة صنف أول هو النشيد أو "المارش". ولم يكن هذا من بنات أفكاره بالطبع، لكن له فيه مجموعة من الأغنيات الباقية، منها: بني مصر مكانكمو تهيّا (1921)، أو نشيد: قوم يا مصري مصر أمك بتناديك (من مسرحيّة: قولوا له، التي عُرِضَت أول مرّة في 17 أيار/ مايو 1919، في فرقة نجيب الريحاني)، أو نشيد بلادي بلادي الشهير، أو نشيد العروبة: يا أباة الضيم يا فخر العرب (من مسرحيّة: عبد الرحمن الناصر، التي عُرضَت أول مرّة في 3 كانون الثاني/ يناير 1921، في فرقة أبناء عكاشة).
الصنف الثاني من أغنيات الشيخ سيّد الاجتماعية الوطنية، أغنيات الطوائف وأصحاب المهن، التي احتشدت جميعاً بالمعاني الوطنيّة، مثل أغنية القُلَل القِناوي (من مسرحيّة قولوا له، أيضا، وهي ردّ على منح شركة إنچليزية امتياز مدّ قساطل الماء إلى البيوت، وفيها يقول عن القلل (الجِرار) المصنوعة في قِنا: خُسارة قرشك وحياة وِلادَك على اللي ما هوش من طين بلادك)، أو لحن الشيّالين (وهذه أيضاً من مسرحيّة قولوا له، وكانت أمور الشيّالين، أي العتّالين، قد تعسّرت بسبب مصادرة الإنچليز وسائل النقل، لا سيّما في محطات القطار، حيث كان يرتزق الحمّالون، ولذا يقول في آخر الأغنية، في خاتمة مؤثّرة للغاية: قرَّب شيّلني شيّل عُمر الشدّة ما تطوّل).
وثمة صنف ثالث في أغنيات الشيخ سيّد الوطنيّة، تبدو عادية جداً في شكلها، وحتى في مضمونها، وطنيّة في حقيقتها، مثل أغنية: مصطفاكي بزياداكي، التي أشاد فيها بمصطفى كمال أتاتورك، بمزاج موسيقيّ تركي رائع التصوير. وقد يصحّ القول فيها إنها أغنية سياسيّة، أكثر من وصفها بالوطنيّة. وقد غناها عندما انتصر الأتراك على اليونانيين الذين شاركوا في تفكيك السلطنة العثمانيّة.
الصنف الرابع هو تلك الأغنيات التي يغلب عليها الطابع الاجتماعيّ الأخلاقي، الذي يَرجَح على السمة الوطنيّة أو القوميّة فيها، مثل أغنية الشكوى من الغلاء: استعجبوا له يا أفندية ليتر الجاز بروبية، أو أغنية حض المرأة العربيّة على النهوض: ده وقتِك ده يومِك يا بنت اليوم قومي اصحي من نومِك بزياداكي نوم. ولم يُغفل الشيخ سيّد الوجهة الاجتماعيّة، حتى في أغنياته الثلاث عن المخدّرات، التي بقيت لنا منه، وهي: يا ما شاء الله عالتحفجيّة (من مسرحيّة: رنّ، التي ظهرت أول مرة في 23 تشرين الأول/ أكتوبر 1919، لفرقة الريحاني) وفي آخرها يقول: يحرَم علينا دوقتِك يا جوزة روحي وانت طالقة مالكيش عوزة. وأغنية: إشمعنى يا نُخّ الكوكايين كُخّ (من مسرحيّة: رن، أيضاً)، وفي آخرها عبرة مؤثّرة، إذ تسوق أمٌ ابنها المدمن إلى مستشفى المجاذيب: خُديني يامّه عالعبّاسيّة. ثم أغنية: أبو عبدَه قول لابو حمدَه (من مسرحيّة: كلّه من ده، التي ظهرت أول مرّة في 1 آب/ أغسطس 1918، لفرقة نجيب الريحاني)، ومضى فيها بوطنيّته إلى حدّ تفضيل المخدّر الوطنيّ على الأجنبي، إذ يقول: خمراً ميّت كوكايين ميّت ويسكي ميّت منزول ميّت، إن شاالله موتة وطنيّة أحسن م الموتة الإفرنجيّة.
أما أطرف أنواع الغناء الوطني عند الشيخ سيّد فهو الصنف الخامس.
- أغنيات "بريئة" في الظاهر
ففي عام 1914، عند نشوب الحرب العالمية الأولى، وكانت مصر لا تزال تحت حكم الاستعمار، الذي لم يرحل إلا عام 1956، بعد ثورة جمال عبد الناصر التاريخيّة، كان الخديو عباس حلمي يميل إلى مناصرة السلطنة العثمانية التي دخلت الحرب حليفة لألمانيا، وكانت نزعته هذه تحظى بدعم وطني وشعبي، تعزّزه نقمة المصريّين على الاستعمار البريطاني. وقد اتهمت لندن حينذاك الخديو بأنه ينحاز إلى جانب ألمانية في الحرب، فعزلته، ومنعت المصريين من ذكر اسمه في كل المحافل، وعيّنت عمّه حسين كامل سلطاناً مكانه.
فما كان من الشيخ سيّد إلا أن ألّف ولحّن وغنّى دور: عواطفك دي أشهر من نار. وهو دور يخيَّل إلى المستمع أنه أغنية عاطفيّة شكلاً ومضموناً، بكلامها ولحنها. غير أن قراءة زجل الدور تميط اللثام عن أمر آخر. يقول زجل الدور:
عواطفك دي أشهر من نار بس اشمعنى جافيتني آه يا قلبك
إنت اللطف وليه احتار سيد الكل أنا طوع أوامرك
حالي صبح لم يرضي حبيب لوم الناس زوّدني لهيب
ما اقولشي إن الوصل قريب يا مليكي والأمر لربك
خايف أحكي لمين أشكيك دبّرني علشان ارضيك
يمكنّي دايما أواسيك والعاذل ما يكونش شريك
يخطر لي دايماً مرآك من كتر حبي لعُلاك
صبّحني هجرك وجفاك رسم الظل يا نعم مليك
وسرت بين الناس كلمة السر، إذ ان جمع الحرف الأول من كل صدر وعجز في الشعر، يشكل عبارة: عباس حلمي خديوي مصر. فصار الناس يغنون الدور، وبذلك يهتفون عملياً باسم الخديو المعزول، دون أن تقوى السلطات البريطانية على تنفيذ قرارها منع ذكره. (صحيح أن عبّاس حلمي عاد في 1942، واتصل سراً ببريطانية ليتوسّل في تصيبه مكان الملك فاروق، الذي اتُّهم آنذاك بالاتصال مع الألمان في الحرب العالمية الثانية، لكن تلك قصّة أخرى ترويها وثائق التاريخ).
وفي عام 1918، وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، وكانت بريطانية قد وعدت بالجلاء عن مصر عند انتهاء الحرب. وكان إخلالها بهذا الوعد، من أهم العوامل التي أدّت إلى هبّة الثورة الوطنية بقيادة سعد زغلول عام 1919. وأسوة بما فعلت السلطات البريطانيّة عام 1914، منعت هذه المرة أيضاً ذكر اسم سعد زغلول في كل المحافل والصحف والتظاهرات والحشود الشعبيّة. فما كان من الشيخ سيّد إلا أن تشاور في الأمر مع صديق عمره بديع خيري، ليؤلف خيري، ويلحّن الشيخ سيّد، وتغني نعيمة المصريّة: يا بلح زغلول يا حليوه يا بلح يا بلح زغلول. فسارت الأغنية على ألسنة الشعب كالنار في الهشيم، من دون أن تقوى السلطات البريطانيّة على أن تنفذ قرارها الذي قضى بحبس كل من يهتف باسم سعد زغلول ستة أشهر، وجلده عشرين جلدة.
- نقمة شعبية على مسرحية للشيخ سيد
على أن الصورة ليست بلونين: أسود وأبيض، بل تُداخلها ألوان وظلال، تشابكت فيها عوامل التاريخ في تلك المرحلة من مسيرة مصر الوطنيّة. صحيح أن الشيخ سيّد كان مناهضاً بشدّة للاستعمار البريطاني، ومنحازاً تماماً إلى مشاعر شعبه وأحاسيسه، إلا أن تاريخ الشيخ سيّد لم يخلُ من سوء تفاهم بينه وبين الطبقات الشعبية وتناقض مع المشاعر الوطنيّة.
كان الوضع الدولي في الحرب العالمية الأولى قد شاء أن تكون السلطنة العثمانيّة عدواً لبريطانية في الحرب. وفي الوقت نفسه كانت هذه السلطنة العثمانية هي صاحبة السيادة النظريّة على مصر التي كانت من ممتلكات السلطنة، لكنها كانت في الوقت ذاته تحت نير الاستعمار البريطاني. وكان هذا الاستعمار هو الذي أطاح عبّاس حلمي، وأحل محلّه عمّه حسين كامل سلطاناً، ثم ملكاً هو الملك فؤاد، الذي كانت الحركة الوطنية المصريّة تناهضه لانحيازه إلى الحكم الاستعماري. وقد ازدادت الصورة تعقيداً، بكون الأعيان في طبقة الحكّام المصريّين، هم من الأسر العثمانيّة، الألبانيّة أو التركمانيّة. وكانت جمهرة الطبقات الشعبيّة تنظر إلى السلطنة العثمانيّة، على أنها الدولة الإسلاميّة الكبرى التي بدأ تاريخها مع ظهور الإسلام، ثم توالت على حكمها أسر عربية (الأمويون والعباسيون)، ثم سلالات من الأكراد والسلاجقة والتركمان (الأيوبيون والمماليك والعثمانيون). ولم تكن نظرة الجماهير العربية تنظر إلى الدولة العثمانية، على أنها دولة "استعمار".
وفي هذا الوضع، كتب محمد تيمور رواية: العشرة الطيبة، التي وضع أزجالها بديع خيري، ولحن أغنياتها الشيخ سيّد. والرواية التي كان أول عرض لها في يوم 11 آذار/ مارس 1920، مناهضة للطبقة الحاكمة، التي، وإن كانت طيعة في يد البريطانيّين، إلا أنها مرتبطة سلالياً وتاريخيّاً بالعثمانيّين والسلطنة. وكان الشعب المصري الغاضب من الاستعمار البريطاني، يرى في العموم أن انتقاد السلطنة العثمانيّة، في نهاية الحرب العالمية الأولى، هو نوع من الانحياز للاستعمار البريطاني. ولم يكن هذا هو موقف الشيخ سيّد ولا بديع خيري بالطبع. غير أن المسرحيّة أحدثت نقمة شعبيّة عارمة في تلك الظروف المعقّدة. فالمسرحية من بدايتها تبدأ بذم الأعيان من الأسر الحاكمة، وكأنها غضت النظر عن ذم الاستعمار البريطاني.
ففي الفصل الأول، يُضيع الراعي الصبي بعض الماعز من قطيعه فتقول له ست الدار: "طول ما هو ورا ستك الحاجة مميش أغا وقعتها طين". ثم بعد قليل يهتف المزارعون والبنات: "فوجو [أي فوقوا] يا مصريين"، فالصحوة المصريّة مطلوبة إذن ضد هذه الأغوات العثمانية من الأسر الحاكمة. وهكذا تواصلت المسرحيّة على هذا المنوال.
أما أوبريت شهرزاد (عرضها الأول في 30 حزيران/ يونيو 1921)، التي يقول بيرم التونسي إن عنوانها في الأصل هو شهوزاد (بالواو لا الراء)، للتلميح إلى شهوات الحكام، فمنعت السلطة ظهورها بهذا العنوان، عملا بالمثل الشعبي القائل: "مَن تحت إبطه مسلّة تنهزه" حينئذ تحوّل عنوان الأوبريت إلى "شهرزاد". وفي كلا المسرحيتين، لم يحظَ الشيخ سيّد برضى كامل لدى الجمهور.
- هل مات في اغتيال سياسي؟
كان من أهم المتعاملين في تأليف أزجال الأغاني صديقا سيد درويش: بديع خيري وبيرم التونسي، وكلاهما من المعاندين الأشداء للحكم، حتى أن بيرم كتب قصيدة زجلية شتم فيها الملك فؤاد الأول قائلاً:
ولمّا عِدِمنا في مصر الملوك جابوك الانجليز يا فؤاد قعّدوك
تمثّل على العرش دور الملوك وفين يلقوا مجرم زيّك ودون
ما شفنا الا عرشك يا تيس التيوس لا مصر استقلّت ولا يحزنون
فكلّفه هذا نفيه مرتين، مرة عام 1919 ثم مرة ثانية عام 1923. وقد صادف نفيه الثاني أن كان على مقربة زمنية من وفاة سيد درويش، حتى ارتبط في أذهان الناس الأمران معاُ، فواحد نفي والثاني قُتل.
وقد روت حياة صبري، المغنية التي غنت كثيراً من أغنيات الشيخ سيّد وشاركته في محاوراته، وقيل إنها تزوجت منه سراً زواجاً عرفياً، أن بعض الأعيان في الإسكندريّة من آل الجريتلي، دعوا الشيخ سيّد ليغني لهم، عشية وفاته. فذهب إليهم بعدما تعاطى جرعة كوكايين. وكان أحد أفراد آل الجريتلي قد اغتاظ من الشيخ سيّد لأنه رفض طلبه أن يلحن أغنيات لإحدى الفتيات المحظيات لديه، فدس له بعض الهيرويين في كأس الويسكي، فتفاعل المخدران، الهيرويين والكوكايين مع الويسكي،قتل الشيخ سيّد. (راجع في ذلك أحد ملحقات كتابنا: سيّد درويش المؤسس، دار نلسن- بيروت، ودار ريشة- القاهرة، 1923، ص 239). ورواية الاغتيال هذه أكدها لنا الشيخ حسن بن سيّد درويش، سنة 1994. فهل كان في الأمر اغتيال سياسي؟
- هل كل فنّ قومي أو وطنيّ فن جيّد؟
لكن عظمة الشيخ سيّد درويش ليست في مواقفه السياسيّة أو وطنيّته الصادقة هذه. فليس مكتوباً لكل فرد وطني الميول أن يخلد في التاريخ. فالذي خلّد الشيخ سيّد في التاريخ هو عبقريّته الموسيقيّة، التي وضعها في خدمة أحاسيسه الوطنيّة هذه.
في سنوات الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان (1978 – 2000)، ولا سيما في سنوات الاجتياح (1982 – 1985)، ظهرت في لبنان طفرة غناء، تخصّصت في تناول موضوع الجنوب اللبناني المحتل، وأوسعت الإذاعات والمحافل الموسيقيّة والمسارح الغنائيّة، مجالاً رحباً لهذا الغناء، تحفيزاً وتحريضاً، للنهوض من أجل مقاومة العدو. واستنح كثير من فناني المواهب المتواضعة هذه الفرصة، تدفعهم مشاعر لا نشك في وطنيّتها، فأخذوا يتسلّلون إلى الإذاعات، ويحتلّون ساعات بثّها، بفن سَوّغَت فيه الحاجة إلى الدعوة للقضيّة الوطنيّة رداءة المستوى الفنّي، في معظم الأحيان. وأخذت تظهر نظريّات وعقائد، ترفع صوت الحجّة السياسيّة في وجه منتقدي رداءة المستوى الفنّي، في هذا الغناء الوطنيّ.
وشاءت مساوئ الصدف (لا محاسنها هذه المرّة) أن وقف موسيقار العرب الأكبر محمّد عبد الوهّاب، وقفته التي أوخِذ فيها كثيراً، في استقبال أنور السادات، سنة 1978. فخُيِّل لبعض ممتهني الغناء الوطنيّ والسياسيّ في لبنان على الخصوص، أن فرصتهم سنحت ليوحوا أن الفن الجيد، هو الفن الوطنيّ الملتزم، وأن أي فنان يسقط سياسيّاً، يسقط فنياً أيضا.
ودار سجال، قاده البعض إلى طرح مسائل فاسدة، مثل مسألة الدفاع عن حريّة الفنان في موقفه السياسيّ. ولم تكن هذه في الحقيقة هي المسألة. بل كانت المسألة هي: هل يكفيني أن أختار شعراً وطنيّاً في مضمونه، وأن أُلبِسه أي لحن وأي غناء، حتى أستحق التقدّم على الفنّانين الكبار، الذين لم يسلكوا هذا السبيل الوطني الصريح؟
لقد استعان أصحاب دعوى الالتزام السياسي المفرَغ من أي موهبة فنية، بمثال الشيخ سيّد درويش وسلوكه، ليقولوا لنا إن الفنّ الجيّد الوحيد، هو الفنّ الملتزم، وكانوا يعنون بذلك الالتزام السياسيّ الصريح في مضمون كلام الغناء الوطنيّ، مع غض النظر عن المستوى الفني الموسيقي.
ولم يكن ادّعاؤهم صحيحاً. فالشيخ سيّد لم يخلُد لأنه وطنيّ. كان شعب مصر في عام 1919 كله وطنيّاً ثائراً على الاحتلال الأجنبي، وهبّ هبّة الرجل الواحد في وجه الاستعمار الإنچليزي. ولم يخلُد منه في ذاكرة الأمة وفي التاريخ، إلا قلّة من الرجال. ولم يخلُد فنّ الشيخ سيّد لأنه كان وطنيّاً، فكم من أغنية وطنيّة لم تعمَّر شهراً لا سنة. ذلك أن القيمة الفنيّة الراقية في أعمال الشيخ سيّد هي التي خلّدته، فكسبت به القضيّة الوطنيّة، ولم يتكسّب بها. وإلا لما كان ثمة فارق بين الشيخ سيّد، وعشرات بل مئات الفنّانين الذين عاصروه في ثورة 1919، وألفوا ولحنوا وغنوا لهذه الثورة، ولم يخلُد منهم الكثير، لتواضع مستواهم الفني.
الموقف الوطنيّ، ولو كان مخلصاً، لا يُغني عن الفن العظيم، وإن كنّا نتمنّى أن يكون الفن الوطنيّ، كل الفن الوطنيّ، ممتازاً، وأن يكون الفن الممتاز، كل الفن الممتاز، وطنيّاً. إلا أنك يمكنك للأسف، أن تكون وطنيّاً صافي النفس، سليم الاتجاه، فدائياً في القضيّة القومية، وأن يكون فنّك رديئاً. فلا يصحّ والحال هذه، أن تتّخذ من الموقف السياسيّ طوق نجاة للفن الرديء.
إن القضيّة الوطنيّة والقوميّة تنحدر في عقل الناس ووجدانهم، إذا لم تجد سوى الفن الرديء معبّرا عنها، وإذا لم تجد من حولها سوى مرتزق لا يفيدها، بل يحاول أن يستفيد منها، والتكسّب في السُمعة وغير السُمعة.
ثم إن هذا المفهوم المباشر للفن الوطنيّ، ضحلٌ وسطحي.
لقد كان للموسيقيّين الكبار دور وطنيّ أساسي في القرن العشرين لعبوه بجدارة. ويُحتَسَب لهم هذا الدور، حتى لو لم يقولوا كلمة واحدة في السياسة والوطنيّة. ذلك أنهم أنتجوا نتاجاً عربيّاً ثقافياً وتراثياً راقياً، ملأ الفراغ الثقافي الذي كان يمكن أن يملأه الغزو الموسيقيّ الأجنبي، لو لم يملأوه بنتاج عبقريّتهم.
أما الموسيقى الرديئة، فلا يمكنها أن تقف سدّاً في وجه الغزو الثقافي والموسيقيّ في وجدان الناس، مهما تسلّحت بأجمل الشعر الوطنيّ.
ولا يسعني سوى أن أختم بقول الزعيم العربيّ جمال عبد الناصر، حين قال في أحد أعياد العلم، رداً على سؤال عن الالتزام في الفن، إذ قال: الفن الملتزم، هو الفن الذي يرتقي بحياة شعبه.
وسيّد درويش جمع الحُسنيَين: الموقف الوطني، والارتقاء بموسيقى شعبه العربي.
تابع القراءة في ملف الشروق عن سيد درويش 100 عام من الإلهام