مئوية سيد درويش : الفنان د. أحمد إبراهيم يكتب: عامل البناء الذي أصبح فنان الشعب وبيتهوفن العرب - بوابة الشروق
الأربعاء 8 يناير 2025 2:19 م القاهرة

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مئوية سيد درويش : الفنان د. أحمد إبراهيم يكتب: عامل البناء الذي أصبح فنان الشعب وبيتهوفن العرب


نشر في: الإثنين 11 سبتمبر 2023 - 12:00 م | آخر تحديث: الإثنين 11 سبتمبر 2023 - 12:00 م

في الذكرى المئوية لموسيقار الشعب خالد الذكر سيد درويش، اختص الفنان د. أحمد إبراهيم الشروق بهذا المقال عن حياته وتأثيره في الفن المصري والعربي.

تمر هذه الأيام مائة عام على رحيل إنسان عزيز على كل مصري وعربي، علامة فارقة في تاريخ الموسيقى العربية، أصبح الغناء بعده شيئًا آخر، مبدع كبير تخرج من مدرسة التلاوة القرآنية والإنشاد الديني والموشحات العربية، وواحد من أهم مصادر الإبداع الموسيقى العربي في القرن العشرين، وهو أهم مشايخ عصر النهضة الموسيقية المصرية العربية.

نقل الغناء العربي من التطريب إلى التعبير، ومن مخاطبة الآذان والجسد إلى مخاطبة الروح والعقل بعبقرية متفردة وضعته في مصاف العظماء المبتكرين، ابتكر تيارًا موسيقيًا أصيلًا قائمًا على دعائم قوية من الفُلْكُلُور والوعي الموسيقي وأصول المقامات والإيقاعات المتنوعة والمتعددة، رائد ومؤسس المدرسة التعبيرية الأصيلة في التلحين والغناء.

إنه عامل البناء الذي أصبح أهم صناع تراثنا الموسيقى العربي، رائد نهضتنا الموسيقية الحديثة، أبو المسرح الغنائي العربي وملحن الطوائف الشعبية، فنان الشعب خالد الذكر الشيخ سيد درويش، مجدد الموسيقى العبقري الذي استحق شرف الريادة والأستاذية لكل من جاء من بعده، والذي لا تقل منزلته الفنية في الموسيقى العربية عن منزلة الموسيقار الألماني «بيتهوفن» في الموسيقى الأوروبية.

من إبداعاته:

أنا عشقت ـ أنا هويت وانتهيت ـ أهو ده إللي صار ـ بلادي بلادي لك حبي وفؤادي ـ بنت مصر ـ حرج عليا بابا ـ خفيف الروح بيتعاجب ـ الشيالين (شد الحزام على وسطك غيره ما يفيدك) ـ الصعايدة (يا ولد عمي يا بوي) ـ الصنايعية (الحلوة دي قامت تعجن فى البدرية) ـ ضيعت مستقبل حياتي ـ على قد الليل ما يطول ـ في شرع مين ـ منيتي عز اصطباري ـ والله تستاهل يا قلبي ـ يا بهجة الروح ـ يا شادي الألحان ـ يا عزيز عيني ـ يا غصين البان ـ ياللي تحب الورد ـ يا ناس انا مت فى حبي ـ يا ورد على فل وياسمين، بالإضافة إلى رائعته «يا عشاق النبي» التي ابتكر فيها إيقاع (الزفة) والتي لا تقام حفلات الخطوبة والزفاف بدونها حتى الآن، وهو صاحب نشيدنا الوطني «بلادي بلادي لك حبي وفؤادي»، وغير ذلك من بدائع الألحان في جميع القوالب الغنائية، التي أصبحت من عيون التراث المصري والعربي.

نشأته وتكوينه الفني:

السيد درويش البحر مصطفى ولد في 17 مارس عام 1892 بحي كوم الدكة الشعبي الفقير، بمدينة الإسكندرية التي جمعت ثقافات أجنبية متعددة، ولد من أبوين فقيرين بعد ثلاثة بنات اثنتان منهن تزوجتا قبل مولده، والده درويش البحر كان نجارًا بسيطًا يأمل أن ينشأ ابنه نشأة دينية، فألحقه بكٌتاب «سيدي أحمد الخياش» وحفظ قسطًا من القرآن الكريم خلال عامين، ثم انتقل إلى مدرسة «حسن حلاوة» وهناك ظهرت موهبته الفطرية في الغناء، وأعجب به أستاذه «سامي أفندي» لسرعته في الحفظ واستيعاب الأنغام فجعله رئيسًا لفريق الموسيقى بالمدرسة، وعهد إليه بتدريب التلاميذ على الغناء، فتعلق بالموسيقى والغناء منذ ذلك الحين، ثم التحق بمدرسة «شمس المدارس» بحي رأس التين، وتصادف أن يكون أحد مدرسيها واحدًا من أعضاء فرقة الشيخ «سلامة حجازي» هو«نجيب أفندي فهمي»، كان يَحفظ ألحان الشيخ سلامة ويلقنها لتلاميذه، وهنا ظهر نبوغ سيد درويش فى الحفظ والأداء فقربه إليه أستاذه وحظى برعايته الفنية.

كان سيد درويش بعد انتهاء اليوم الدراسي يجمع أطفال حي كوم الدكة لينشد لهم ما حفظه من ألحان سلامة حجازي وكبار الصييتة من المشايخ والمطربين، وكان ينال الاستحسان والتصفيق والتشجيع من أقرانه ومن أهل الحي، وفي عام 1905 التحق بالمعهد الديني بمسجد المرسي أبي العباس، ثم انتقل إلى مسجد الشوربجي ليستكمل عامه الدراسي الثاني، وأتم حفظ القرآن الكريم وتفوق على أقرانه في تجويده، وكان يؤذن للصلاة طوال العام في هذا المسجد، وذاعت شهرته بين الطلبة ونال استحسان وتشجيع مشايخ المعهد، فتغلبت ميوله الفنية على كل شيء، وكان يهرب من المنزل ويذهب إلى سرادقات الليالي والمناسبات الدينية للاستماع إلى كبار المقرئين ومشاهير المطربين، وفي مقدمتهم الشيخ أحمد ندا والشيخ حسن الأزهري، ثم يعود إلى منزله قرب آذان الفجر، لينال اللوم القاسي من أمه على السهر خارج المنزل وهو في هذا السن المبكر.

قارئ القرآن الكريم:

في عام 1906 توفى والده تاركًا الأسرة بلا عائل، وتحمل الشيخ سيد المسؤولية ففتح دكانًا للعطارة كان مكسبه قليلًا، وفي أحد أيام الجمع ذهب لتأدية صلاة الجمعة في جامع أبي العباس، فطلب منه شيخ المسجد أن يقوم بقراءة سورة الكهف بدلًا من المقرئ الذي تغيب، فنال استحسان المصليين، وبدأت منذ ذلك اليوم أولى خطوات شهرته.

دراسته للموسيقى:

كان لحفظ سيد درويش القرآن الكريم وتجويده وكذلك حفظه لبعض الألحان الصوفية وألحان الشيخ سلامة حجازي وكبار الصييتة من المشايخ والمطربين أكبر الأثر في تكوينه الفني، فتعلم النطق السليم لمخارج الألفاظ والأداء المتقن للألحان، وبدافع التعرف على أصول الصنعة تعلم المقامات والإيقاعات الموسيقية، وحفظ الأدوار والموشحات على أيدي المحترفين من شيوخ الفن، ثم التحق بمدرسة الكلية الحرة لدراسة علوم الموسيقى وكان صاحبها إيطالي، واجتهد فى التحصيل والدراسة وتفوق على الطلبة الأجانب، ولكنه لم يستمر في الدراسة بسبب ضيق الحال والالتزامات الأسرية.

عامل البناء:

تزوج سيد درويش وهو في السادسة عشر من عمره، وعمل مطربًا مع فرقة «كامل الأصلي» يردد ألحان الشيخ سلامة حجازي بمقهى «إلياس» بحي كوم الناضورة، وكان ذلك من أكبر أسباب فصله من المعهد الديني، وبعد فترة قصيرة تم حل الفرقة واضطرته ظروف الحياة الملحة أن يعمل مناولًا لعمال البناء، وأثناء عمله كان يرفه عن معاناته وعن زملائه بغناء بعض الأغنيات الفلكلورية الشائعة في ذلك الحين، وقد أفاده احتكاكه المباشر بالطوائف الشعبية في التعبير عنها في ألحانه فيما بعد.

الأخوين عطا الله وبداية مشواره الفني:

أثناء اندماجه في الغناء مع عمال البناء شاءت الأقدار أن يستمع إليه الأخوين أمين وسليم عطا الله، وكانا يجلسان في مقهى مجاور للموقع الذي يعمل به الشيخ سيد، فأعجبا بصوته وأداءه الغنائي، واتفقا معه على السفر إلى الشام ليعمل مطربًا في فرقتهما الجوالة.
سافر سيد درويش إلى الشام مرتين مع هذه الفرقة، المرة الأولى كانت عام 1909 ولم يوفق فيها، لأن الشيخ سلامة حجازي كان قد سبقه بالسفر قبل هذه الرحلة، وكانت المقارنة بينهما في غير صالحه، فاضطر إلى مزاولة فن التمثيل هناك، وعاد إلى مصر بعد مضي عشرة أشهر، وقد أفادته هذه التجربة كملحن فيما بعد.

أما الرحلة الثانية فقد كانت عام 1912، والتقى فيها بكبار الموسيقيين أمثال المشايخ: صالح الجذبة وعلى الدرويش وحُجة الموسيقى الشيخ عثمان الموصلي وغيرهم، وأخذ عنهم العديد من الضروبات والموازين الموسيقية، وتشبع بألحانهم وحفظها وغناها وتعلم منها، كما حفظ عددًا من القدود الحلبية والموشحات العربية القديمة، وأتقن العزف على آلة العود وتعلم التدوين الموسيقي، ثم عاد إلى مصر عام 1914 بعد أن طاف بمعظم أنحاء الشام والعراق وتركيا، وقد ساعدته هذه الرحلة في اكتساب خبرات ومهارات عديدة ساهمت في بلورة شخصيته الفنية، وبدأت ينابيع الفن تتفجر لديه في مجال التلحين في أول أدواره «يا فؤادي ليه بتعشق»، وكانت المرة الأولى التي يخضع فيها اللحن للنص الشعري في تصور موسيقي يعبر عن معاني الكلمات.

سيد درويش وسلامة حجازي:

بعد عودته من رحلة الشام بدأ يغني ألحانه في المقاهي ببعض أحياء الإسكندرية، وفي أحد ليالي الصيف استمع إليه أحد العازفين في فرقة سلامة حجازي، وأدهشه ما سمع فذهب إلى الشيخ سلامة يروي له ما حدث، فتوجه بدوره على الفور ليستمع بنفسه إلى الشيخ سيد درويش، وبالفعل نال إعجابه وأثنى عليه ودعاه للسفر معه ليقدمه إلى جماهير القاهرة، ولكن الشيخ سيد تردد في قرار سفره لارتباطه الشديد بالإسكندرية.

سيد درويش وزكريا أحمد:

ما قام به الشيخ سلامة حجازي فعله معه بدوره الشيخ زكريا أحمد في أوائل عام 1916م حيث كتب في مذكراته أنه أصر على اصطحاب سيد درويش للقاهرة، وبالفعل سافر معه وغني في مسرح محمد عمر، وبرغم أنه تقاضى خمسة عشر جنيهًا في هذه الليلة إلا أنه غضب بشدة، لأن أجر المطرب صالح عبد الحي كان مائة جنيه في الليلة، وعاد على الفور إلى الإسكندرية.

سفره للقاهرة:

انتقل إلى القاهرة عام 1917 وواجه صعوبات عديدة في بداية مشواره الفني، ووصل إلى أسماع الشيخ سلامة حجازي معاناته، فبادر بإقامة حفل يعرض فيه روايته «غانية الأندلس»، وخصص إيراده للشيخ سيد الذي اشترط ألا يأخذ مليمًا واحدًا إلا إذا كان له دور يستحق عليه المكافأة، فدعاه الشيخ سلامة للغناء بين فصول المسرحية، ولكن جمهور الحضور قابله بفتور شديد، وذلك لعدم استيعابهم أسلوبه الجديد في التلحين والغناء، ولإيمان الشيخ سلامة الشديد بموهبة سيد درويش خرج منفعلًا على الحاضرين وقال: «ومع ذلك فهو مستقبل الموسيقى والغناء في الشرق وهو خليفتي»، ولم ييأس الشيخ سيد لثقته بنفسه وإيمانه بقدراته وملكاته الفنية ولأنه يعلم أن الجمهور قد جاء لسماع سلامة حجازي، لكنه تيقن أن صوته لم يستطع منافسة أصحاب الأصوات الذهبية فى ذلك الزمن، فقرر عدم تقديم ألحانه بنفسه واتجه للتلحين للمسرح الغنائي.

سيد درويش أبو المسرح الغنائي:

قام بإحداث ثورة ونهضة كبيرة في المسرح الغنائي، وذلك من خلال تغيير الأسلوب الروتيني الذي كانت تلحن به الأوبريتات الغنائية، فابتكر قالب الحوار الغنائي وابتدع التصوير اللحني للكلمات، وتفنن فى التنوع في تلحين المقاطع الغنائية بشكل يعبر ببساطة وصدق وعمق عن مضمون العمل المسرحي، وربط الفن بالحياة اليومية من خلال الغناء التعبيري الجماعي والثنائي والفردي.

بدأت علاقة الشيخ سيد بالمسرح الغنائي منذ عام 1917 إلى عام 1923، فقام بتلحين (34) أوبريتًا غنائيًا تضمنت مئات الألحان من مختلف المقامات والإيقاعات والألوان الغنائية، وكان أول تعاون له في هذا المجال مع فرقة جورج أبيض في روايتي «فيروز شاه» و«الهوارى»، ثم تعاون مع فرقة نجيب الريحاني في (6) روايات كتبها بديع خيري الذي شكل ثنائيًا فنيًا وإنسانيًا عظيمًا معه، وتضمنت هذه الروايات العديد من روائع الأغنيات الشعبية التي غناها الريحاني بشخصيته المرحة (كشكش بيه)، كما تعاون مع فرقة علي الكسار في (11) رواية، ولحن لفرقة عكاشة (3) مسرحيات، كما لحن لفرقة منيرة المهدية: «كلها يومين» والفصل الأول وختام الثاني لرواية «كليوباترا ومارك أنطوان» التي أكمل تلحينها محمد عبد الوهاب بعد رحيله، ولفرقته الخاصة لحن: «شهر زاد» و«البروكة» و«العبرة» وأعاد تقديم رواية «العشرة الطيبة»، وتجلت عبقريته في أغنيات «الطوائف الشعبية»، ولعبت ألحانه للمسرح الغنائي دورًا هامًا في تطور الموسيقى العربية، فعاشت ألحانه واستقرت في ضمير ووجدان الشعب العربي الذي ما زال يرددها حتى الآن.

فنان الشعب وأيقونة ثورة 1919:

الفقر والجهل والاستعمار أثر في تكوين الشيخ سيد درويش، فسعى للنهوض بالمجتمع والاهتمام بالقضايا الاجتماعية من خلال ألحانه، وهو أول من ربط الفن بالسياسة والحياة الاجتماعية، ولم يكن لمصر أناشيد وطنية قبله إلا موسيقى السلام الوطني الرسمي من تأليف الموسيقي الإيطالي «فيردي» منذ عام 1869 في عهد الخديو إسماعيل، وانفعل الشيخ سيد بثورة 1919 وأوحت له بأناشيد وطنية جعلته أيقونة هذه الثورة، وأشعلت ألحانه الثورية روح المقاومة الشعبية ضد المستعمر الإنجليزي، واستطاع أن يسهم في الميدان الوطني إسهامًا كبيرًا فابتكر قالب «النشيد الوطني» وأبدع فيه، ورددت الجماهير أناشيده الوطنية العظيمة بكل حواسها وقلوبها ومشاعرها ومنها: «أحسن جيوش فى الأمم جيوشنا» ـ «إحنا الجنود زى الأسود» ـ «أنا المصري كريم العنصرين» ـ «بلادي بلادي لك حبي وفؤادي» ـ «قوم يا مصري» ـ «مصرنا وطنا» ـ «يا أباة الضيم يا فخر العرب» ـ «اليوم يومك يا جنود»، وغيرها من أعماله الوطنية في القوالب الغنائية الأخرى، وعندما فرض الاحتلال البريطاني عقوبة السجن لمن يذكر اسم سعد زغلول، جعل سيد درويش الشعب كله يردد اسم الزعيم السياسي لثورة 1919 دون أن ينال العقاب، وذلك من خلال طقطوقة «يا بلح زغلول» التي كتبها نصفه الثاني الشاعر بديع خيري، ولا ننسى طقطوقة «أهو ده اللي صار» الشهيرة التي غناها معظم نجوم الغناء المصريين والعرب، وكذلك أغنيات الطوائف الشعبية الرائعة: «الشيالين» و«السقايين» و«الصنايعية» و«العربجية» وغيرها، لذا استحق بجدارة أن يكون فنان الشعب.

أسلوبه في التلحين والغناء:

استوعب سيد درويش جميع روافد الفن وجمعها في بوتقة واحدة، وابتكر أسلوبًا خاصًا في التلحين والغناء، وأكدت مدرسته الغنائية الخالدة بصماته وأصالته وخلوده، فانتقل بالموسيقى العربية من التطريب المليء بالزخارف والحليات اللحنية إلى التعبير الصادق عن روح ومضمون ما يغنى، مستغلًا في ذلك ثقافته الموسيقية الواسعة ومعرفته التامة بأسرار المقامات والأوزان الإيقاعية، واتبع الأسلوب العلمي في التلحين والتدوين الموسيقي كما لو كان متخرجًا من أكبر المعاهد الموسيقية.

ومن أبرز خصائص أسلوبه في التلحين: وضوح شخصيته الفنية المتفردة التي تتجلى في كل لحن من ألحانه، من خلال اختيار الموضوعات وانتقاء الكلمات، فكان يقرأ النص الشعري جيدًا للوقوف على معانيه، ثم يقوم بوضع التصور الموسيقي للتعبير ببساطة وعمق عن جو هذا النص، وذلك باختيار النغمات ذات الجذور الشعبية المصرية الأصيلة، وصياغة الجمل اللحنية فى أبسط صورها، فى تراكيب حديثة متطورة باستخدام الإيقاعات المتنوعة المليئة بالحيوية، وكذلك حرصه على وضع المقدمات الموسيقية القصيرة المعبرة التي تمهد للغناء، وبراعته في الانتقالات المقامية وتنوع الأوزان الإيقاعية، واعتماده على الغناء التعبيري بما يؤكد ملامح الغناء العربي الأصيل، وتخلص بذلك من الطقوس الموسيقية التقليدية التي كانت تعتمد على حناجر الصييتة المحترفين في التطريب، والمبالغة والتكرار دون النظر إلى معاني الكلمات، فجاءت الألحان لأول مرة مواكبة ومعبرة عن معاني ومضمون الكلمات، وجعل بذلك الغناء في متناول الجميع.

الشيخ سيد هو أول من ابتكر مقام «الزنجران» في دور «في شرع مين» أول ألحانه في هذا المقام، وإلى جانب استخدامه التخت التقليدي المكون من القانون والعود والناي والكمان والرق استخدم أيضًا الأوركسترا السيمفوني الأوروبي المكون من الفصائل الضخمة العملاقة، من الوتريات وآلات النفخ الخشبية والنحاسية والإيقاعية والأصوات البشرية، وهو أول من أدخل «الغناء البوليفوني» في الموسيقى العربية والذي يعتمد على تعدد الأصوات، وذلك في أوبريتات فرقته: «العشرة الطيبة» ـ «شهر زاد» ـ «البروكة»، وبذلك أحدث سيد درويش انقلابًا مدويًا وغير وجه الموسيقى العربية في 6 سنوات فقط، وجعل من ألحانه الشعبية البسيطة فنًا راقيًا يحمل قيمًا فنية عالية، تثير إعجاب المتخصصيين ويحفظها ويرددها العامة في ذات الوقت.

سيد درويش والقوالب الغنائية:

كان عطاء سيد درويش فياضًا غزيرًا رغم قصر عمره وحياته الفنية، فهو صاحب أهم رصيد من الألحان التي صاغ إبداعها في جميع القوالب الغنائية العربية الأصيلة، بدأ مشواره بتلحين أربع «سلامات» لفرقة أمين وسليم عطا الله، وقالب «السلامات» عبارة عن غناء جماعي يؤديه المشتركين في العرض المسرحي قبل رفع الستار وفي ختام العرض، وتفنن في تلحين قالب «الموشح» وبلغ عدد موشحاته حوالي أربعين موشحًا من مختلف المقامات والإيقاعات، ولحن عشرة أدوار غنائية من أروع ما لٌحن في قالب «الدور» سجل منها بصوته تسعة أدوار، وأقبلت الجماهير على سماع وترديد ألحان سيد درويش في قالب «الطقطوقة» وجاء عددها نحو (132) طقطوقة، وفي قالب «الديالوج» (الدويتو الغنائي) لحن حوالي (18) ديالوجًا، وهو من ابتكر قالب «المونولوج» ولحن (23) مونولوجًا، بالإضافة إلى ابتكاره لقالب «النشيد الوطني» الذي لحن فيه (22) نشيدًا، أما قالب «الموال» فكان يغنيه في جلساته الخاصة.

وألحان سيد درويش في هذه القوالب الغنائية حققت شهرة كبيرة في سائر البلاد العربية، وغنى كبار الفنانين العديد منها، في مقدمتهم محمد عبد الوهاب ورياض السنباطي وسيد مكاوي وفيروز وصباح فخري ولطفي بوشناق وغيرهم، وكان لي شرف غناء العديد من إبداعاته، وأصبح قياس الثقافة الموسيقية للمطربين والمطربات في العالم العربي بما يحفظوه من أدوار وموشحات وألحان سيد درويش المتنوعة.

تكريمه:

نال الشيخ سيد درويش ما يستحقه من تكريم، ولم يحظ فنان عربي بما حظي به بعد وفاته، وقد كرمته الدولة من خلال اختيار نشيد «بلادي بلادي» ليكون السلام الوطني لمصر، وتم إطلاق اسمه على قاعة سيد درويش بأكاديمية الفنون بالقاهرة وأوبرا سيد درويش بالإسكندرية وأحد شوارع حي كوم الدكة بالإسكندرية، بالإضافة إلى إقامة تماثيل له في مسرح معهد الموسيقى العربية وأكاديمية الفنون وحديقة الخالدين ودار الأوبرا المصرية بالقاهرة، كما تم تكريمه بوضع لافتة «هنا عاش» على منزله بحي شبرا بالقاهرة من خلال مشروع وزارة الثقافة، وتم إصدار طابع بريد له بمناسبة مرور مائة عام على ميلاده، وكرمت وزارة السياحة اسمه من خلال مهرجان القاهرة الدولي الأول للأغنية، وتم إشهار جمعية أصدقاء سيد درويش من قبل وزارة الشئون الاجتماعية.

أمنية لم تتحقق:

كان سيد درويش يحرص على مشاهدة الأوبرات العالمية وانعكس ذلك على ألحانه، وأدرك مبكرًا أهمية دراسة علوم الموسيقى الحديثة، وكانت أمنيته أن يدرس الموسيقى والتوزيع الأوركسترالي في أوروبا، ورغم ما وصل إليه من نجاح وشهرة إلا أنه لم ينسى هذا الحلم، فأعد نفسه للسفر على نفقته الخاصة إلى إيطاليا لتحقيق حلمه ولكن لم تمهله المنية.

لغز رحيل خادم الموسيقى:

غني سيد درويش للوطن ولثورة 1919 وزعيمها، ولحن النشيد الوطني «مصرنا وطنا سعدها أملنا» بمناسبة عودة سعد زغلول من منفاه، وبذل مجهودًا مضنيًا في إجراء البروفات لخروج هذا العمل على أكمل وجه، ولكن جاءت مفارقات القدر لتجعل موعد عودة الزعيم هو نفس موعد رحيل فنان الشعب، وفاضت روح خالد الذكر إلى بارئها دون أن يستقبل سعد زغلول، ورفضت السلطات الرسمية إبان المستعمر الإنجليزي طلب أسرته بتشريح جثمانه لمعرفة سبب الوفاة.

رحل سيد درويش عن عالمنا بالجسد يوم 15 سبتمبر عام 1923، وعمره إحدى وثلاثون سنة، شهدت الست سنوات الأخيرة منها أهم إبداعاته الفنية شديدة الغزارة، وفي هذه الأيام نحتفي بمئوية رحيله، ومع ذلك مازال خالد الذكر رائدًا وأستاذًا لكل من جاء من بعده، وما زالت روحه الموسيقية تتجلى فى أعمال العديد من المبدعين وهم لا يخجلون من اقتباس بعض جمله الموسيقية في أعمالهم، ولما لا وهو خادم الموسيقى وفنان الشعب الذي خرج بالغناء من الصالونات والقصور إلى المسارح والشوارع والحارات، وعبر عن الجماهير العريضة التي رددت ومازالت تردد إبداعاته حتى الآن في ربوع الوطن العربي.

أسدل الستار على مشوار أعظم وأشهر ملحني العالم العربي سيد درويش، وذهب فنان الشعب وبقيت ألحانه خالده تمتع وتسعد ملايين المستمعين في العالم، وينهل من فيض إبداعاته الدارسون على مر الأجيال.

 

تابع القراءة في ملف الشروق عن سيد درويش 100 عام من الإلهام



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك