أعلن ضباط يوليو أنهم مع الشعب. وكان المُنتظر أن يساندوا العمال الذين هتفوا للضباط، اعتصم عمال كفر الدوار مساء 12/8/52 لتحقيق بعض المطالب الاقتصادية. وكانوا فى شبرا الخيمة وغيرها على درجة من التحضر فكتبوا على اللافتات «المصانع أمانة فى أعناقنا.. أرزاقنا فى هذه المصانع فحافظوا عليها»، هذا التظاهر السلمى واجهه الضباط المنادين بالقضاء على سيطرة رأس المال بمحاصرة المصانع بالدبابات.
تصاعدت الأحداث يوم 13 أغسطس، تم القبض على 576 عاملا، كان من بينهم أطفال فى سن العاشرة، بعد يومين صدر الحكم بالإفراج عن 545 عاملا والحكم على 29 بالسجن، وكان المطلوب إعدام 29 عاملا وتم الاكتفاء بإعدام عاملين: مصطفى خميس وعمره 18سنة ومحمد البقرى وعمره 19سنة ونصف، وصدر الحكم بعد خمسة أيام، تم جمع 1500 عامل فى النادى الرياضى بكفر الدوار ليسمعوا النطق بحكم الإعدام، وعن هذا المشهد الذى يستدعى من بئر الأحزان أحداث دنشواى، كتب المؤرخ العمالى طه سعد عثمان أن عاملا من الذين حضروا إعلان الحكم مجبرين قال: إن ما تعرض له جميع الحاضرين من العمال من مهانة وإذلال وإرهاب كان أقسى مما يمكن أن يتعرض له أسرى الحرب فى جيش مهزوم ومستسلم بدون قيد مما جعل المنتصر يعاملهم أسوأ من معاملة العبيد.
إن أحداث كفر الدوار الدامية درس فى مناهج قهر الشعوب، فقد كانت النية مبيتة لإظهار العين الحمرا بعد عشرين يوما من انقلاب يوليو، يؤكد هذا أن المحاكمة تمت فى يومين، وإن الأغلبية الساحقة من العمال لم يكن معهم من يدافع عنهم، وإن بعض وكلاء النيابة كان يحقق مع مائة عامل فى اليوم الواحد فى تهم عقوبتها الإعدام، وبعد أن وافقت المحكمة على أن يكون الصحفى موسى صبرى محاميا عن مصطفى خميس واتهامه له بالشيوعية، فإن مرافعته لو وُضعت فى الاعتبار لصدر الحكم بالبراءة وليس الإعدام، لكن الحكم كان معدا سلفا.
وبعد أن أدانت منظمة حدتو العمال وأيّدت الضباط اعترفت بموقفها الخاطئ وقالت فى بيان لها «إننا لم نحشد ونعبأ قوى العمال والشعب بدرجة كافية لإيقاف المحاكمة العسكرية الإجرامية للعمال وإنقاذ خميس والبقرى ورفاقهما الأبطال».
مانشيت جريدة المصرى عن محاكمة مرتكبى حادث كفر الدوار
ورغم أن طه سعد عثمان وعبدالمنعم الغزالى يطالبان برد الاعتبار لضحايا المذبحة، فإنهما يصران على أن مُحرضى الإضراب هم كبار الرأسماليين الذين من مصلحتهم القضاء على الثورة الوليدة والوقيعة بين العمال والضباط. إن هذا الكلام تنفيه الوقائع التالية: لماذا تم عقاب المنفذ العمال ولم يتم عقاب المحرضين؟ وهى حقيقة اعترف بها طه سعد نفسه الذى كتب: «استطاع المجرمون الحقيقيون أن يفلتوا حتى من مجرد البحث عنهم، كذلك ما معنى البيان الذى أصدره قائد عام القوات المسلحة يوم 16 أغسطس وفيه تحذير للعمال؟ ولماذا كانت حملة التفتيش القاسية التى قام بها نحو مائة جندى على مساكن العمال وعلى مسكن مصطفى خميس بالذات؟ ولماذا استمرت مطاردة المباحث للعمال بعد صدور الحكم؟ وما معنى أن يكتب محمد نجيب فى مذكراته عن حاله بعد أن صدّق على الحكم بالإعدام «لقد أثقل الحزن قلبى»، ولكن لأنه كان يلعب دور الواجهة فقد نفذ قرار مجلس الثورة الصادر بإجماع الآراء؟ ولماذا يتم إعدام عاملين، بينما اختلفت المعاملة مع عدلى لملوم «الإقطاعى» الذى أظهر معارضته للضباط صراحة، وهاجم هو وأفراد من عائلته قسم البوليس وأطلقوا عليه أعيرة نارية؟ وأثناء المحاكمة كان هو وأمه يسبان قادة الثورة والفلاحين. وكتب محمد نجيب «امتطى عدلى لملوم جواده ومعه 35 رجلا وحوطوا الفلاحين وأخذوا يُطلقون النار فى الهواء على طريقة رعاة البقر»، ورغم ذلك صدر الحكم بالأشغال الشاقة المؤبدة الذى انتهى إلى الإفراج الصحى؟
ولماذا وافق الضباط على انضمام عبدالمنعم أمين إلى حركتهم يوم 22 يوليو رغم اتصالاته بالسفارة الأمريكية واقتناعه بما تروجه الدوائر الأمريكية فى مصر عن الخطر الشيوعى وضرورة التصدى له بكل الوسائل، ولماذا يكون هو بالذات الذى رأس المجلس العسكرى لمحاكمة عمال كفر الدوار؟ وذكر المؤرخ العمالى أمين عز الدين أن عبدالمنعم أمين لعب دورا فى حملة الترويج الأمريكية حول الخطر الشيوعى فى مصر، لماذا تم اتهام خميس والبقرى بالشيوعية؟ وما مغزى هذا الاتهام عند ربطه بالدعاية الأمريكية عن الخطر الشيوعى؟ الإجابة ذكرها أمين عز الدين الذى قال: «وجدت المخابرات الأمريكية وعملاؤها فى أحداث كفر الدوار فرصتهم لكى يضاعفوا الترويج عن الخطر الشيوعى فى مصر. وراحوا يُقنعون نفرا من قادة حركة الجيش من بينهم عبدالمنعم أمين»، وما مغزى ما ذكره محمد نجيب الذى قال: لبيت دعوة إلى منزل البكباشى عبدالمنعم أمين. وكان حاضرا معنا جيفرسون كافرى وأربعة من رجال السفارة الأمريكية علمت فيما بعد أن اثنين منهم من رجال المخابرات الأمريكية، وكان معى عبدالناصر وزكريا محيى الدين. وفى لقاء آخر قال جيفرسون: إن حكومته تخشى تسلل الشيوعية إلى مصر وعرض معاونة أجهزة المخابرات الأمريكية، وكتب طه عثمان «وهكذا يتأكد دور المخابرات الأمريكية فى الأحداث بالتقارير التى أحاطت قادة حركة الجيش عن شيوعية مصطفى خميس وقادة العمال فى كفر الدوار والتخويف من تحركات العمال فى مناطق أخرى مثل شبرا الخيمة والمحلة الكبرى»، وذكر أيضا أن ما حدث فى كفر الدوار كان عربونا للأمريكان فى محاربة الشيوعية، وما مغزى ما ذكره طاهر عبدالحكيم «لم يكن قد مر على ثورة يوليو 52 أكثر من شهرين حينما سيق إلى السجن الحربى أعضاء اللجنة التحضيرية لاتحاد عمال مصر فى سبتمبر 52 على أثر العدوان الوحشى على عمال كفر الدوار. وقد مورس التعذيب عليهم لأنهم احتجوا على إعدام خميس والبقرى ولإثنائهم عن المضى فى تكوين الاتحاد»، وأضاف «إن النظام الناصرى كان يستخدم الفلكة والكرباج لتأديب معارضيه، ففى عام 53 ألقى القبض على حوالى 40 نقابيا قدموا عريضة يطالبون فيها بإصدار قانون للتأمين ضد البطالة»، وما مغزى أن يقول البكباشى عاطف نصار، وهو يتلو الحكم العسكرى أن مصطفى خميس كان يحارب الله ورسوله فحق عليه القتل؟ وما علاقة ذلك بموقف الإخوان المسلمين الذين اتهموا عمال كفر الدوار بالخيانة؟ وإذا كانت أحداث كفر الدوار مؤامرة دبرها الرأسماليون كما يزعم الناصريون، فلماذا تم اختفاء ملف التحقيق فى تلك الأحداث بعد أن قرأه أحد وكلاء وزارة العمل الذى كان متحمسا لعرضه على مكتب العمل الدولى؟ ولماذا أحيطت أقوال مصطفى خميس بسرية تامة ولم يُعلم عنها شىء؟ وما مغزى اختفاء الرسالتين المرسلتين لمصطفى خميس، إحداهما من لندن والأخرى من الأرجنتين قبل إعدامه؟ وعلق طه عثمان «إنه حتى الآن لا أحد يعرف شيئا عن محتوى الخطابين. ولا شك أنهما كانا فى صالح مصطفى خميس وإلا كانت كل الأجهزة بما فيها الصحافة قد فضحت ما فيهما بتضخيم كبير»، ولماذا قال السادات يوم 14/8/52 فى نقابة المعلمين أنه سوف يعلق المشانق فى شبرا الخيمة على أبواب المصانع إذا حدث أى تحرك من العمال؟ وما مغزى نصيحة أستاذ القانون د.الطماوى لضباط يوليو «لقد أعدمتم اثنين من العمال فسكت العمال جميعا. ويحتاج الأمر إلى إعدام اثنين من الطلاب كى يصمت الجميع»؟
بعد 60 عاما على منظمات حقوق الإنسان التفكير فى إقامة محاكمة شعبية ترد الاعتبار لضحايا كفر الدوار التى ارتكبها ضباط يوليو 52 بعد عشرين يوما من استيلائهم على الحكم مع سبق الإصرار.