في الذكرى المئوية لوفاة مجدد البعث الثالث للغناء والموسيقى العربية، فنان الشعب سيد درويش، حري بنا أن نتذكر من الوقائع والمعارك التي دارت رحاها حول عبقرية هذا الفنان الذي ترك رغم عمره القصير، بصمة لا تمحى في تاريخ موسيقانا العربية المعاصرة، وقد كان من العجيب أن تقوم تلك المعارك وتستمر حتى من بعد وفاته في 15 سبتمبر 1923م.
وفي عام 1960، وتحديدا 18 يونيو – أي بعد مضي عقود على وفاة سيد درويش - صدرت صحيفة "الجمهورية" وقد حوت كالمعتاد مقالا للكاتب راجي عنايت، معنونا مقاله بـ "رأي غريب"، ولكنه لم يكن رأيه بل كان يعرض ما طلب منه المطرب عبدالحليم حافظ أن ينشر على لسانه، فنقل عنه عنايت ما قاله وكتب: "قال عبدالحليم حافظ (أكتب على لساني.. سيد درويش أسطورة كاذبة.. موسيقاه كانت شيئا في زمنه.. أما الآن فموسيقانا التي نقدمها تفوق موسيقاه بمراحل عديدة)"..
أشهر المعارك الفنية..
ويشير الدكتور نبيل حنفي محمود، في باب "أشهر المعارك الفنية"، بمجلة "الهلال"، سبتمبر 2003، إلى أنه وفي كل التغطيات والموضوعات الصحافية عن عبدالحليم حافظ والتي سبقت ما نقله عنايت قد اتسمت بقدر هائل من الود غلف تلك الكتابات، ولم يحدث أن كتب كاتب خلال سنوات الخمسينات مقالاً أو خبراً يهاجم النجم الصاعد حينها ... وإنما كان الحنان والحب والتقدير هما سمه لكل ما يكتب أو يذاع.
وقد كان من الغريب وفقاً لحنفي محمود، أن يصدر مقال عنايت والذي تابع فيه قائلا: "كانت مناسبة هذا الكلام ما قيل إن محمد البحر ابن سيد درويش سيرفع قضية على محمد عبدالوهاب لأنه صرح لأحد الصحفيين بأن "الكوكايين" قضى على سيد درويش..
وواصل عنايت: "بدأ عبدالحليم حديثه مدافعا عن كلام عبدالوهاب، قائلا إنه درس هذه الحقيقة في معهد الموسيقى، وأن دفتر محاضراته يضم محاضرة عن سيد درويش، ورد ضمنها أن المخدرات قضت عليه، ثم استطرد عبدالحليم فجأة.. قائلاً رأيه في موسيقى سيد درويش مصراً على اعتبارها موسيقى متخلفة بالنسبة لما نسمعه من أغاني هذه الأيام..
ويختلف عنايت مع ما قاله عبدالحليم قائلاً: "أختلف مع عبدالحليم اختلافا تاما، فالذي أصبح عتيقاً عند سيد درويش، قد يكون التوزيع الموسيقى أو التأدية أو حتى كلمات بعض الأغاني أما موسيقاه فجوهرها ما زال متطوراً عن معظم ما نسمعه هذه الأيام، وهمسة في أذن عبدالحليم اسأل كمال الطويل.. على أي أرض تقف موسيقى «حكاية شعب»؟!"
ووفقا لما كتبه الدكتور نبيل حنفي محمود، فقد أحدث مقال راجي عنايت بالوسط الفني، دوياً وصدمة وحيرة لدى كل من قرأه، فلم يجد كل من قرأ المقال سببا مقنعا قد يدفع بعبدالحليم حافظ، الفتى الرقيق الحالم كما بدت صورته دوما في الصحف التي وصفته إحداها قبل شهر من هجومه بـ “البلبل الأسمر"، ليهاجم رائدا راحلاً من رواد الموسيقى، وقد أطلت المفارقة برأي محمود من سؤال يقول متى نبتت للبلبل الأسمر أنياب أنشبها في ذكري أعظم من أنجبت مصر من موسيقيين؟!.
وتحت عنوان دفاع وهجوم يذكر حنفي محمود، كيف توالت ردود الفعل على صفحات الصحف والمجلات، وانطلقت الأقلام تدافع عن سيد درويش وتهاجم عبدالحليم حافظ منددة بهجومه المستفز على سيد دروش ومفندة له، كان أولها من الكاتب المعروف أحمد حمروش، والذي عنون مقاله بجريدة "الجمهورية" بـ "الذين يظلمون تراثنا الموسيقي".
تجدد المعركة..
ورغم شهرة عبدالحليم الكاسحة، فبحسب محمود لم يكن ما قاله في أخبار اليوم أن يمر مرور الكرام، فقد انبرت أقلام عدة لكتاب وموسيقيين تفند ما قاله عبدالحليم وما حاول أن يمرره من آراء.
وكان أول من تصدى لما قاله عبدالحليم في كل من الجمهورية وأخبار اليوم، راجي عنايت -مفجر الطلقة الأولى- في المعركة على حد وصف حنفي محمود.
وقد ناقش راجي عنايت في مقاله بصحيفة الجمهورية بتاريخ 2-7-1960، كل ما ساقه عبدالحليم من دفوع، وأولها تشبيهه موسيقى سيد درويش بمصباح الزيت مقابل موسيقى عبدالوهاب التي وصفها بمصباح الكهرباء، وعن هذه الجزئية من حديث عبدالحليم قال راجي عنايت: "وهذا كلام يدل على أن عبدالحليم لا يفهم حقيقة الثورة التي بدأها سيد درويش، كما يدل على أنه لا يفهم طبيعة المعركة التي يجب أن تخوضها موسيقانا وفنوننا بشكل عام، فسيد درويش لم يخلق شعله خابية من الزيت ... وعبدالوهاب لم يخترع الكهرباء، وإذا أردنا أن نستعير نفس التشبيه الذي ابتدعه عبدالحليم، وجب علينا الاعتراف بأن سيد درويش قد أنجز اختراعاً ضخماً في موسيقانا ... وأن عبدالوهاب قد تألق عندما نجح في تشغيل هذا الاختراع.
الرجوع..
يختتم حنفي محمود مقاله بالإشارة إلى أن هناك من أرد يطوى صفحة تلك المعركة سريعا، لتخلوا الصحف والمجلات من أخبارها فجأة، لتمضي السنون وتطوى عقود، لكنه وحده عبدالحليم حافظ كان الوحيد الذي لم تمحِ الأيام من ذاكرته انه هاجم في يوم من الأيام فنانا كان أستاذاً للجميع بما فيهم أستاذة محمد عبدالوهاب.
فقد ظل شعور الذنب جاثما على صدر عبدالحليم حتى قبيل وفاته في لندن، حين زاره الناقد الفني حسن إمام عمر، ليكشف أمامه عبدالحليم عن بعض أخطاءه، والتي نشرها إمام عمر في مقال له في الذكري السادسة عشر لرحيل عبدالحليم حافظ، كان منها هجومه أواخر الخمسينات على الشيخ سيد درويش.
تابع القراءة في ملف الشروق عن سيد درويش 100 عام من الإلهام