فرض الله على المسلمين صوم شهر رمضان الكريم، ليكون ركنا من أركان الإسلام، وقاعدة من قواعد الدين، وقربة من أعظم القربات إليه، إذ قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" [البقرة: 183].
لهذا، عادة ما تكثر تساؤلات المسلمون الصائمون خلال شهر رمضان الكريم ويزداد طلبهم للفتاوى اليومية حول أحكام الصيام، وما يفطر وما لا يفطر، وغيرها من الأحكام المتعلقة بالصيام.
في سلسلة "فتاوى رمضانية" تقدم "الشروق" إجابات وفتاوى يومية عن الأسئلة التي تهم الصائمين في شهر رمضان الكريم.
ما حكم صيام من ركب طائرة تسير في اتجاه غروب الشمس؟
وصل لدار الإفتاء المصرية سؤال يقول: "أنا مصري مقيم في دبي، وكنت في رحلة عمل إلى أمريكا، وأنا صائم صيام رمضان، ويوم رحلة العودة كان يوم الجمعة وبدأته بالصيام ولم أفطر حتى بعد أن صعدت الطائرة؛ حيث بدأت رحلتي قبل المغرب بحوالي 3 ساعات، واستغرقت رحلتي 14 ساعة بالطائرة، ولم أشهد غروب الشمس طوال الرحلة، فأكملت الصيام حتى وصلت الطائرة وقت المغرب من يوم الغد إلى دبي.
ونظرًا لفروق التوقيت بين البلدين وصلت يوم السبت إلى دبي، وعلى الرغم من أنه كان يوم صيام طويلًا حوالي 28 ساعة، ولكن كان بالنسبة لي يومًا واحدًا بدلًا من يومين، فما حكم صيامي؟ وهل يجب عليَّ أن أقضيَ اليوم الناقص؟".
وردت دار الإفتاء المصرية حيث قالت: أمرنا الشرع الشريف بمراعاة العلامات الظاهرة في بداية الصوم ونهايته؛ كما في قولِه تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ [البقرة: 187]، وما رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» متفقٌ عليه، واللفظ للبخاري.
والعبرة في إمساك الصائم عن المفطرات بالتحقق من طلوع الفجر الصادق؛ إما حسًّا، أو بإخبار من يُعْتدُّ بإخباره، أو سماع أذان الفجر، وكذا الحال في الإفطار؛ فالعبرة فيه تكون بتحقق الصائم من غروب الشمس ودخول الظُّلمة؛ إما حسًّا، أو خبرًا، أو سماع أذان المغرب.
والأصل في مواقيت العبادات الشرعية وعلاماتها أن يجري حسابها وضبطها على ما يناسب عموم الناس وتكثر فيه سكناهم وحواضرهم، وهو مستوى سطح البحر، فإذا اختلف هذا المستوى اختلافًا تتغير معه هذه العلامات أو شيء منها، كان ذلك مستوجبًا لإعادة النظر في توقيت العلامات حسب التغير الحادث.
ففي حالة راكب الطائرة التي تطير مثلًا على ارتفاع أحدَ عشر كيلو مترًا فوق سطح الأرض يتأخر غروب الشمس بالنسبة لمن هم في الطائرة حوالي ثلاث عشرة دقيقة ونصف الدقيقة عن أهل البلد الذي تطير فوقه الطائرة، وذلك طبقًا للمعادلة الرياضية التي يُحسَب ذلك من خلالها على جهة الدقة، حيث قرَّر المتخصصون أن ارتفاع الطائرة يؤخر زمن غروب الشمس تبعًا للمعادلة: [(t = 0.129 (√h]؛ حيث (h√) هو الجذر التربيعي للارتفاع h بالمتر عن سطح البحر، وبذلك يكون تأخير الغروب نتيجةً للارتفاع بالطائرة 11كم حوالي 13.5 دقيقة.
والسبب في ذلك: انحناء سطح الأرض وكرويتها، وهذا يؤدي إلى ما يُسَمَّى بالأفق الظاهري أو الأفق التُّـرْسي؛ حيث تزداد سعة أفق الرؤية كلما زاد الارتفاع، فإذا صعد الإنسان ارتفاع مائة متر كانت سعة أفق رؤيته دائرةً نصف قطرها ستة وثلاثون كيلو مترًا، فإن ارتفع أربعمائة متر صار نصف قطر دائرة أفق الرؤية ثمانية وسبعين كيلو مترًا، فإن صعد كيلو مترًا واحدًا صار امتداد نصف قطر الدائرة مائةً واثني عشر كيلو مترًا، وهكذا.
وقد نصَّ الفقهاء على أن الارتفاع عن سطح البحر يتغير به وقتُ شروق الشمس وغروبها: فقال العلامة عبد الرحمن شيخي زاده الحنفي في "مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر" (1/ 237، ط. دار إحياء التراث العربي): [وفي الأقضية صحح رواية الطحاوي واعتمد عليها لقلة الموانع، فإن هواء الصحراء أصفى، فيجوز أن يراه دون أهل المصر، وكذا إذا كان على مكان مرتفع في المصر لاختلاف الطلوع والغروب باختلاف المواضع في الارتفاع والانخفاض. قال في "خزانة الأكمل": أهل إسكندرية يفطرون إذا غربت الشمس، ولا يفطر من على منارتها؛ فإنه يراها بعد حتى تغرب له، هذا على رواية الطحاوي، وأما في ظاهر الرواية فلا عبرة به] اهـ.
ومقتضى ذلك أن الإفطار المعتبر في حق المسافرين عبر الطائرة إنما يكون برؤيتهم غروب الشمس بكل قرصها -بالنسبة إليهم، وفي النقطة التي هم فيها- وقد تطول أحيانًا مدة الصيام لاستمرار رؤية المسافر الشمس ظاهرة في الأفق، نظرًا لطول ساعات التحليق في الجو؛ ولذا فلتحديد وقت الغروب الذي يجوز الإفطار فيه حالتان: الأولى: غياب الشمس ثم خروجها مرة أخرى من جهة الغرب، فهنا يفطر الصائم ولا يلتفت لردها وعودتها مرة أخرى، لتغير النقطة والمكان الموجود فيهما المسافر لتحرك الطائرة وسرعتها.
والثانية: استمرار سطوع الشمس وعدم رؤية غروب قرصها طوال الرحلة -وهي الحالة المسؤول عنها- وفيها مسلكان للعلماء: الأول: وجوب استمرار الصائم في صيامه حتى يتحقق من غروب الشمس -بالنسبة إليه وفي النقطة التي هو فيها-، وذلك لعموم الأدلة السابقة التي توجب على الصائم أن ينتظر في فطره حتى غروب الشمس، ولا اعتبار في ذلك بزيادة ساعات الصيام عن القدر المعتاد وإن ظلت الشمس ساطعة ولم تغرب إلا في آخر الرحلة أو بعد الوصول إلى البلد الأخرى.
فالعبرة في حق المسافر بالبلد المنتقل إليه لا المنقول منه، سواء في الإفطار أو الإمساك أو التعييد -كما قرَّره الإمام ابن حجر الهيتمي في "تحفة المحتاج" (8/ 87، ط. المكتبة التجارية الكبرى)-، كما أن الوقت مستمر بظهور الشمس ولم يخرج وإن طال، قياسًا على ما استفاده الفقهاء من حديث رد الشمس؛ حيث قالوا بتجدُّد الوقت برد الشمس. ينظر: "شرح مشكل الآثار" للإمام الطحاوي (3/ 92)، و"حاشية ابن عابدين" (1/ 360-361)، و"التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة" للقرطبي (ص: 141)، و"فتاوى الإمام الرملي" (4/ 325).
والثاني: التقدير في مدة الصيام، باعتبار أن هذه الحالة تلحق بحالة اختلال المواقيت لتحقق العلة في كلٍّ؛ وهي عدمُ انضباطِ الأسباب المعتادة التي أناط بها الشرع الشريف العبادة، فكما أنه حاصل في الاختلال، فإنه حاصل أيضًا في اختفاء الغروب في هذه الصورة.
والمُقتَرَحُ في هذه الحالة أن يسير تقدير الصوم للمسافرين بالطائرة إذا لم تغرب الشمس لديهم في النقطة التي هم فيها وزاد عدد ساعات صيامهم عن ثماني عشرة ساعة -على مواقيت مكة المكرمة؛ حيث إن الله قد عدها أمَّ القرى، والأم هي الأصل، وهي مقصودةٌ دائمًا؛ ليس في القبلة فقط، بل في تقدير المواقيت إذا اختلَّت، وعلى ذلك يبدأ المسافر بالصيام مِن وقت فَجر بلده المَحَلِّي، ثم يُتِم صومه على عدد الساعات التي يصومها أهل مكة المكرمة في ذلك اليوم، وذلك بالاطلاع على مواقيتهم، مع مراعاة أن الحد الأعلى لاعتدال النهار هو ثماني عشرة ساعة، وحده الأدنى ست ساعات.
وقد رخص الله تعالى للصائم المسافر أن يفطر وعليه القضاء، متى كانت مسافة سفره لا تقل عن مرحلتين، وتُقَدَّران بنحو ثلاثة وثمانين كيلو مترًا ونصف الكيلو متر، بشرط أن لا يكون سفره هذا بغرض المعصية، قال تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، فمتى تحقق وصف السفر في الصائم ولم يكن إنشاؤه بغرض المعصية جاز له الفطر؛ سواء أشتمل سفره على مشقة أم لا، وسواء أتكرر سفرُه هذا أم لا.
وبناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإن طول مدةِ الصيام بسبب السفر رخصة شرعية تبيح للمسافر الفطر، وعليه القضاء، وإذا ما أراد المسافر أن يتم صومه وظل مسافرًا على متن الرحلة لمدة متواصلة تجعل مجموع عدد ساعات صيامه في ذلك اليوم يزيد على ثماني عشرة ساعة؛ نظرًا لاستمرار ظهور الشمس وعدم غيابها في أي نقطة مرَّ بها أثناء التحليق في الجو؛ فالمختار في الفتوى في هذه الحالة أن يعتمد في إفطاره على توقيت أهل مكة، فيصوم عددَ الساعات التي يصومونها في ذلك اليوم، ويفطر في نهايتها، ولا يضرُّه ظهورُ الشمس أمامَه، ولا يحتاج إلى قضاء ذلك؛ لأنه اتبع أمرَ الشرع الشريف بالتقدير لاختلال العلامات حال سفره.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
اقرأ أيضا