وفرت تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس الشهر الماضي، ارتياحا لفترة وجيزة من المخاوف بشأن احتمال تخليه عن أوكرانيا لصالح روسيا.
وبدا أن الرئيس، يُحمل نظيره الروسي فلاديمير بوتين، مسئولية إطلاق المفاوضات الرامية لإنهاء الحرب في أوكرانيا وليس الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وألمح ذلك إلى أنه ربما يكون منحازا إلى أوكرانيا في نهاية المطاف، حسبما ذكرت أرميدا فان ريج الباحثة البارزة بالبرنامج الأوروبي في المعهد الملكي للشئون الدولية البريطاني (تشاتام هاوس).
وأشارت فان ريج، في تقرير نشره المعهد، إلى أن الأسبوع الماضي بدد أي أوهام من هذا القبيل، فقد حدد وزير الدفاع الأمريكي بيت هيجسيث، السياسة الأمريكية تجاه أوكرانيا (التي تغيرت بعد 24 ساعة) في اجتماع لوزراء دفاع حلف شمال الأطلسي (الناتو).
واقترح هيجسيث، تنازل كييف عن أراض لموسكو، وإبقاء أوكرانيا خارج حلف الناتو، واستبعاد القوات الأمريكية من ضمان أمن أوكرانيا، ثم كشف الرئيس ترامب أنه أجرى اتصالا مباشرا مع بوتين.
ومما زاد الأمر، هو نقل هذه التطورات بصورة فوضوية، حيث أدلى وزير الدفاع والرئيس، بتصريحات متناقضة الفارق بينها ساعات قليلة فقط، ويعتبر التراجع، و"التوضيح" وتغيير وجهات النظر سمة مميزة بالفعل للولاية الثانية لترامب.
ولفتت الباحثة، إلى أن الكرملين ألمح بعد المحادثة الهاتفية بين ترامب وبوتين إلى أنه سوف يكون هناك مساران متوازيان للتفاوض: أولا مسار أمريكي - روسي، والثاني تشارك فيه أوكرانيا، وقد تكون المفاوضات الثنائية مع الولايات المتحدة مواتية لروسيا، حيث سيأمل بوتين في "التلاعب" بترامب بدون تدخل أوروبي أو أوكراني، وسوف يكون الكرملين معذورا إذا اعتقد أن أصدقاء أوكرانيا في حالة فوضى.
وتشير فان ريج، إلى أن موقف الولايات المتحدة ينطوي على مصلحة ذاتية جلية تماما، حيث أوضحت تصريحات هيجسيث، أن الولايات المتحدة تنتقل من تشارك العبء في الدفاع عن أوروبا إلى التحلل من العبء (باستثناء المظلة النووية الأمريكية)؛ لتوفير موارد من أجل حدود الولايات المتحدة ومصالحها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، كما يتماشى تقليص الالتزامات تجاه أوروبا أيضا مع الخطط التي أعلن عنها إيلون ماسك لكبح الإنفاق العسكري الأمريكي، الذي يقول إنه غير قابل للاستمرار.
ومع ذلك، تعتزم الولايات المتحدة، في نفس الوقت، مواصلة بيع أسلحة لأوروبا على نحو "عاجل"، ومن ثم تضمن استمرار اعتماد أوروبا عليها.
وترى فان ريج، أنه يتعين على الأوروبيين التركيز على موقفهم، ويكمن التحدي في أنه ليس هناك إجماعا واضحا على الإسهامات التي يمكن أن تقدمها أوروبا لأمن أوكرانيا.
وهناك نقاش بشأن الدور الذي قد تضطلع به القوات الأوروبية في أوكرانيا، هل ستعمل كقوة مراقبة لوقف إطلاق النار، أم كـ"قوة أمامية، أم قوة رادعة"؟، ويمكن أن يكون لهذا تبعات خطيرة إذا انتهكت روسيا بنود وقف إطلاق النار أو أي اتفاق آخر، وهذا أمر محتمل، وحينها ينشب صراع مباشر بين القوات الأوروبية والروسية، ومن شأنه استبعاد حماية المادة الخامسة لهذه القوات وهو ما يبدو أن "هيجسيث" سيفعله، أن يضعف التأثير الرادع لأي قوات أوروبية، وبالتالي يزيد من احتمالية حدوث مواجهة مباشرة.
وقال زيلينسكي في دافوس، إن حماية أي خط ترسيم حدود جديد سيتطلب نشر 200 ألف فرد من القوات الخارجية، ثم خفض هذا العدد لاحقا إلى 100 ألف - 150 ألفا، ومن أجل المقارنة، يضم الجناح الشرقي للناتو 40 ألف جندي تحت قيادة الحلف، وأرسلت الولايات المتحدة حوالي 100 ألف فرد إلى أوروبا، لكنها تستبعد مشاركتهم في أي قوة تضمن أمن أوكرانيا.
وأوضحت الباحثة، أن الدفع بقوات على المدى الطويل سيكون صعبا حتى بالنسبة لبعض أخلص حلفاء أوكرانيا، ولدى بولندا أكبر قوات برية في أوروبا، لكنها تستبعد إرسال قوات إلى أوكرانيا حاليا؛ بسبب خشيتها على دفاعها، ويتألف الجيش الفنلندي من مجندين لا محترفين، أما إجمالي عدد أفراد القوات المسلحة النظامية في دول البلطيق فيبلغ 30 ألفا و200 فرد فقط، إلا أنه يمكن أن يزيد بواقع 135 ألف فرد إضافي عن طريق استدعاء قوات الاحتياط النشط والمتطوعين والحرس الوطني.
وأضافت فان ريج، أنه من المتوقع أن تقدم المملكة المتحدة إسهاما رائدا لأمن أوكرانيا، ومن المنطقي أن نفترض أن فرنسا أيضا ستقدم مساهمة؛ نظرا لأن الرئيس إيمانويل ماكرون كان أول قائد في العالم يدعو إلى نشر قوات أوروبية على الأرض في أوكرانيا، على الأقل طالما ظل في منصبه، وهو ما يمكن أن يستمر لعامين ونصف العام على أقصى تقدير.
الخطوات المقبلة لأوروبا
و ترى فان ريج، أنه على المدى القصير إلى جانب التوصل إلى موقف مشترك بشأن الضمانات الأمنية لكييف، يتعين على تحالف الراغبين أيضا تسليح أوكرانيا إلى أفصى درجة.. ومن المحتمل أن يتضمن ذلك شراء أنظمة الأسلحة الأمريكية الجاهزة؛ مما يضاعف آليات الاتحاد الأوروبي مثل آلية السلام الأوروبية، وللمفارقة يؤدي إلى تهدئة ترامب أيضا وتحقيق خفض محتمل في العجز التجاري بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في ذات الوقت.
وتابعت: "يجب أن تواصل أوروبا التنسيق عن كثب مع أوكرانيا والمكتب الرئاسي، فضلا عن اتخاذ وضع يجعلها جزءا من أي مفاوضات".
وترى فان ريج، أن الاجتماع بين رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين ورئيس المجلس الأوروبي أنطونيو كوشتا وزيلينسكي، صباح الجمعة الماضية في ميونخ، قد يكون رمزيا إلى حد كبير، لكنه سيكون بمثابة إشارة مهمة بعد أسبوع قاس بالنسبة لأوكرانيا، إلى أن النفوذ الذي يحظى به القادة الأوروبيون سيتمثل في النهاية في أنهم سيحتاجون إلى تطبيق أي اتفاق، والقيام بذلك من عدمه قرار سيادي يتعذر على أي طرف آخر سوى الدول الأوروبية اتخاذه.
وأشارت الباحثة، إلى أن أوروبا تحتاج في نفس الوقت لأن تتحسن كثيرا في إرسال رسائل حذرة لمواطنيها عن التهديد الروسي المستمر على الأمن الأوروبي دون أن تبث الفزع، وليس من المحتمل أن يؤدي أي وقف لإطلاق النار أو اتفاق سلام لسلام مستدام في أوروبا، حيث من المحتمل أن تعتبره روسيا مجرد مرحلة جديدة في الحرب.