"نصوص نابضة بالحياة تمتزج فيها تفاصيل المكان وتفاعلات الإنسان داخل قالب سردي شيق"، هكذا أبدع الكاتب كمال رحيم الحاصل على جائزة الدولة التقديرية خلال أحداث رواية "بورسعيد 68" الصادرة عن دار العين للنشر.
قدم الكاتب كمال رحيم عملا له مجموعة من مقومات النجاح سواء الشخصيات التي تنبض بالحياة والأسلوب السردي الذي يربط القارئ بمختلف فصول الرواية والتي بلغت 29 فصلا تناول فيها صفحات من تاريخ مدينة بور سعيد وما عايشه اهلها خلال فترات الحرب.
♦ التقاط التفاصيل
استخدم الكاتب تقنية التقاط التفاصيل من خلال النص يستشعر معه القارئ أنه يمر في جولة سريعة عبر كاميرا ترصد بدقة الأحداث الصغيرة وتربطها مع الحكايات والتطورات الكبرى، فلكل قصة حبكتها المحكمة والمليئة بالعديد من التفاصيل شديدة الغنسانية والالتصاق بالواقع خلال العام 1968.
«البيت ملاصق للبيت والأب صديق للأب، والأمان، أمه وأمي كالسمن على العسل، وذات يوم تخاصمنا، هو المخطئ وسبب الخصام وأنا ركبني العناد، يتوسّل ويدعو للصلح وأنا لا أستجيب، لم تمض أيام ومات ميتة قريبة من ميتة ولد الرصيف، دهسته مركبة، رعشة تسري في الآن وأنا مستلق فوق سرير المخبأ وكأنها الدهسة التي اندهسها تدل عظامي أنا الآخر، والصوت الذي نبرته كشرارات الكهرباء يتهم ويقول بأني الفاعل ولا أفرق كثيرا عمن كان يحلق في السماء وسفك دماء ولد الرصيف هذا الصباح»
استند الكاتب كمال رحيم في قص الاحداث على تقنية التقاط التفاصيل وهي التي جاءت معبرة عن تفاعلات ثنائية مابين الحرب والسلام، الحياة والموت، الاستنزاف والاستشهاد، دلالة المكان وسياق الزمان.
♦ الاحتفاء ببورسعيد
شكلت محافظة بورسعيد بالنسبة إلى كمال رحيم "عروس الرواية" حيث وصفها في الإهداء الافتتاحي بأنها "الغادة الحسناء" مادحا أهلها قائلا أنه احبهم واحبوه قبل أن يطوف بالقارئ في جولة تعريفية بشخصيات الرواية وهم: عزام بك مأمور القسم، البطل مرسال، النقيب عاطف، سليمان المصري حتى النخاع روحا وقلبا وخفة ظل.
يطالعنا كمال رحيم في البداية بالتعبير عن كل مايمت بصلة إلى بور سعيد ونضالها وطباع أهلها وحالة التنوع الكبيرة بين مكونات المجتمع وقتها واصفا بدقة أحوال المواطنين في فترة الحرب ويجعل القارئ في حالة تعلق سريعة مع تلك الشخصيات البور سعيدية.
وتسمع زئير طائرات لحظة دخول هذا الديناصور علينا، ليس مجرد زئير مما كنا نسمعه عادة، زئير بتوحش، وطائرات طائرات وراء بعضها البعض وكما لو أنها تطير على وجه الأرض، والحافظ هو الله من الرهبة التي كنا فيها، ترج القلب وتزحزحه من مطرحه ! لم نفكر فيها نفعله الغرائز هي التي تصرفت، طيّرتنا أنا وهذا الزميل إلى أقرب مخبأ وغطسنا فيه، لسنا وحدنا، نحن وكثير غيرنا عساكر وضباط وأصحاب محال مجاورة وأناس كانت تمشي في الشارع بالمصادفة، وأول ما جاء في رؤوسنا أنها طائرات للعدو وإجرام وقصف بلا رحمة، مكثنا برهة ليست بالقصيرة على هذا الاعتقاد وبعدها بدأ الدوي».
تعمد مؤلف الرواية أن يربط القارئ بمجموعة من الشخصيات التي كانت قادرة على أن تثير في نفس القارئ الضحكات والسعادة قبل أن تحزن وتستاء ولا يتركك حتى تدرك أنهم مشبعون بالأمل والنصر والقدرة على العودة مرفوعين الرأس.
♦ تدفق السرد
لا يترك الكاتب قرائه أسرى لأي من لحظات الكلل أو الملل حيث امتازت فصول الرواية بأنها سريعة الإيقاع مقتضبة الحجم، مكثفة التفاصيل والأحداث معتمدا في ذلك على حالة من تدفق السرد التي استخدم خلالها لغة سهلة على القارئ تخللها الكثير من الألفاظ العامية التي امدت النص بروح مميزة من الدعابة.
اعتمد كمال رحيم على طريقة في سرد الأحداث جعلت العديد من الاخلاط المختلفة والطباع المتنافرة لأبطال الرواية وكأنها انسهرت في بوتقة واحدة تم من خلالها التعبير عن ميول مختلفة ومشاعر متنوعة أعلت من قيمة الانسان وقدرته على صد العدوان فالرواية اهتمت بالأشخاص أكثر من أي عامل اخر توثيقي أو سياسي.
وساهم السرد السلس في أن ينقل الينا الكاتب التفاصيل كما لو كنا نراها باعيننا ونعاين معه تفاصيل مقهى البورصة والميناء والبحر والالفة التي نشأت بين الإنسان والمكان لتصبح مدينة بور سعيد مع هذا التطور المتواصل في فصول الرواية "غادة حسناء" لها دلال خاص وقدرة ساحرة على الصمود.
«أفعال صحيح صغيرة، لكن من قال إن الصغي لا يحسب له حساب، فطلقة الرصاص على ضالتها قادرة على أن تُنيخ جملا وتمدده فوق الأرض، وأظل أقول في نفسي: في يوم كذا فعلت كذا وفي اليوم الفلاني كذا وكذا، وهلم جرا على خيابات فعلتُها أو نطقتها بلساني، ويصير حالي حال من يصارع أطيافا لها بيوت في الذاكرة ولن يجيئني منها صفح إلا بصعوبة، فالمرأة ذات الأحمر العنيف على الشفاه التي تعاملت معها أحد أيام قسم العرب، صاحبة الفستان ناقص الأكمام وتدويرة ذيل تكشف عن جزء ليس بالهين من الفخذ، وضحكات في ضحكات كلها دعوات وسخاءات».
حالة الاعتزاز التي اظهرها الكاتب لبور سعيد في زمن تلى أحداث الهزيمة التي تعرضت لها البلاد في نكسة 1967 تظهر بقور مع المضي غي فصول الكتاب والتي يرفع خلالها الكاتب من حرارة استدعاء الذكريات واعمال الجانب التوثيقي لينقل إلى الأجيال الجديدة ما عاشه الشعب البور سعيدى من تفاصيل العدوان دون ان يفقد طموحه وصموده والذي سيتجلى تاريخيا فيما بعد عند الوصول إلى نصر اكتوبر 1973.
استطاع الكاتب من خلال أسلوبه الذي تراوح مابين العربية الفصحى والعاامية المصرية في أن يدخل قالقارئ إلى عالم الرواية منذالأجزاء الأولى لنصوص روايته وهو الأمر الذي ينتج عن حبكة جيدة اعتمدت على البساطة في اللغة والعمق في البلاغة واستخلاص تفاصيل انسانية بحتة عن أبطال يسهل تعلقهم بالذهن.
الجدير بالذكر أن الكاتب كمال رحيم قد فاز بجائزة الدولة التقديرية منذ أيام، وقد وُلِد في العالم ١٩٤٧ بمحافظة الجيزة، وتحديدًا فى قرية المنصورية، وتخرج ضابطًا للشرطة فى العام ١٩٦٨، لينطلق في رحلة مهنية واعدة، حيث تدرج فى السلك الشرطى حتى وصل إلى تولى منصب المدير العام للإنتربول، وهو حاصل على دكتوراه فى القانون العام من جامعة القاهرة ١٩٨٦.
اعتاد كمال رحيم على صعود منصات التتويج والحصول على الجوائز المرموقة، حيث حصل على العديد من الجوائز من أشهرها: جائزة نادى القصة أربعة مرات على قصصه القصيرة؛ مرتين فى عام 1996م، ومرة فى عام 1997م، ومرة أخيرة عام 1998م، وجائزة الدولة التشجيعية عام 2005م عن روايته المسلم اليهودى «قلوب مُنهمكة»، وجائزة الدولة التشجيعية عام 2009م، عن روايته «أيام الشتات» الجزء الثانى من ثلاثيته الشهيرة.
وقدم خلال مشواره الإبداعى مجموعة متنوعة من الأعمال الأدبية الهامة من بينها: لقمة عيش: مجموعة قصص قصيرة، وأيام فى المنفى: قصة قصيرة، شىء حدث: قصة قصيرة، مشوار: قصة قصيرة، قلوب منهمكة: رواية، أيام الشتات: رواية، أحلام العودة: رواية، أيام لا تُنسى: رواية، قهوة الحبشى: رواية.