يحتفي الوسط الفني والثقافي في شهر سبتمبر بأحد أعمدة الموسيقى المصرية، الشيخ سيد درويش، في ضوء مرور 100 عام على رحيله، حيث رحل في 15 سبتمبر 1923، بعد رحلة قصيرة صنع فيها إنجازات فنية موسيقية عظيمة مازال أثرها باقيا حتى الآن.
تناولنا في حلقات أخرى من ملف الشروق "سيد درويش 100 عام من الإلهام" الكثير من التفاصيل المرتبطة بحياة سيد درويش سواء الفنية أو الشخصية، ونستمر في تقديم لقطات عابرة للتاريخ تحكي عن هذا الرجل وكيف كان يتأثر ويؤثر في البيئة المحيطة به، وذلك ما رواه ابنه حسن في كتابه "من أجل أبي".
وجاء في الكتاب أنه في إحدى مقالات عباس محمود العقاد قال إنه "اقتبس من ألحان الترك والأوروبيين والبدو ومن كل كلام يصافح أذنيه الموهوبتين كما استطاع أن يعبر عن الكلام الذي يطلب إليه تلحينه فليست الفرنجة هي الغاية وإنما الغاية هي إعطاء المعنى وتعليم الناس دلالة الألحان وأنها كدلالة الكلمات".
طريقة النطق الأصلية للكلمات ومساعدتها على التلحين
تعود فكرة دلالة اللحن التي ذكرها العقاد إلى أن الشيخ سيد درويش كان يمزج الأداءات والكلمات بطرق نطقها الأصلية لدى الفئة التي يتناولها اللحن، لكي يكون أكثر واقعية ومؤثراً بما يقدمه، ففي لحن مصطفاكي بزيداكي على سبيل المثال جعل مجموعة من الأورام ينطقون باللهجة الرومية في نغم قريب من أنغام لهجتهم، كما كرر ذلك في الأداء الفارسي في لحنه "احنا يافندم تجار العجم" حيث جعل المنشدين ينطقون بلهجة الأعجام، وأيضاً في لحن "دنجى دنجى" و"هليها للا" ، جعل المنشدون من أبناء النوبة ينطقون بلهجتهم النوبية وبنغم يقترب من أنغام النوبة والسودان، حيث كان يعطي كل جماعة اللهجة التي تناسبها داخل النغم الذي يصوره.
ذكر حسن بعض النماذج الأخرى التي كان يسلكها درويش في طريقة تلحينه، من أجل أن يضع درويش لحنه لهذه المشاجرة التي ثور فيها المغربي ويشتم ذهب إلى حي الفحامين ونادى أحد الغلمان وأعطاه قروشا بعد أن أوصاه بمضايقة أحد المغاربة، فإذا شتمه في رأيه فسوف يخرج منه اللهجة الأصيلة، ويعرف منها درويش كيف تبدو الكلمات أثناء الانفعال، وخرج لحن أغنية "الله يكثر فيكو الأوجاع".
ومن ألحانه التي برزت فيها موهبة تلحين حوار تضمن معركة حامية الوطيس ما بين فلاح مصري وشامي ونوبي وتركي في لحنه بوخمار خنفشار وكلماته: بوخمار خفنشار سان خرسيس
آن ديسوس يا عبدالله اضرب يا إدريس
آه يا نهارك الأسود في الواقعة داهية الخلطبيس
وعندما أراد أن يضع لحن "البرابرة" في مسرحية "أش" كان يذهب إلى نفر من أصحابه في "بوظة العلوة" في ميدان باب الخلق حينذاك، ويجلس حتى تدور رؤوس الزبائن ويأخذون في الغناء وهنا يلتقط درويش النغم من مصادره فيكسو اللحن بالثوب الأصيل له.
استغل درويش أن مصر كانت في هذه الفترة الزمنية عامرة بالجاليات العربية والأجنبية، وتمتلئ شوارعها وأسواقها باللهجات العربية المختلفة، وكانت مصر مسرحا كبيرا للمعاملات التجارية بين هذه الطوائف المتنوعة لا سيما في مواسم الحج من كل عام، وتعامل سيد درويش بفنه مع كل هذه النوعيات التي انتقلت مشاهدها من الحياة إلى المسرح الغنائي، ووفق ما ذكر في كتاب "من أجل أبي" كان درويش يحاول أن يكون صادقا في معالجته اللحنية لهذه الطوائف المختلفة، ويعيش في جو اللحن مع أهله وأربابه حتى يتقمص شخصياتهم ويستوعب لهجاتهم ويستمد من الطبيعة التي يعايشها صورة صادقة لما يريد أن يكون عليه اللحن.
لذلك كان درويش أيا كانت اللهجة التي يريد أن يضع موسيقاها شامية أو تركية أو أوروبية أو تنتمي لمناطق الصعيد والريف في مصر فإنه كان يركز على نبرة اللهجة في تصويره للحن حتى يتفق ويتناسب في غنائه مع واقع الشخصية التي عبرت عنها موسيقاه، على سبيل المثال فإذا تخيلنا لحن "طلعت يا محلا نورها شمس الشموسة "أو لحن" يا بوي يا ولدي عمي" باللهجة المصرية الدارجة دون انتمائه إلى لهجة الريف المصري فسوف يفقد اللحن إحساسه وطابعه.
تابع القراءة في ملف الشروق عن سيد درويش 100 عام من الإلهام