فى المساء.. عندما يطلب أطفالى قراءة قصة قبل النوم (أو خمس قصص فى بعض الأحيان!)، أحاول عبثًا مساعدتهم فى الاختيار لكى يتسنى لى قراءة أحب القصص إلى قلبى وأكثرها سلاسة فى الحكى. لى معايير مختلفة بعض الشىء عن أطفالى، وأتخيل أن أغلب الآباء والأمهات مثلى.
نريد قراءة نص سلس خالٍ من التعقيدات اللغوية، يحترم عقل الطفل (والأهل أيضا). به صور ممتعة تكمل أحداث القصة لا توصفها فحسب. هذا ما تعلمته فى برنامج تدريبى عن الكتابة للأطفال فى جامعة نوتجهام بإنجلترا الصيف الماضى. وهذا ما لاحظته من خلال تعاملى مع الأمهات منذ أن بدأت مشروع ورش الحكى للأطفال والأمهات، والذى يتيح الفرصة للأطفال للتعبير عن أنفسهم وأفكارهم، ويتيح لى أنا والأمهات مناقشة القصص التى نقرأها لأطفالنا. فقراءة قصص الأطفال أصبحت بالنسبة لى عملا بالإضافة لكونها شغفا وهواية.
أجد نفسى لا إراديا أعْقد مقارنات مستمرة بين ما أقرأه لأطفالى (فى البيت أو العمل) باللغة الإنجليزية وبين ما أقرأه لهم باللغة العربية. عادة ما تكون كفة اللغة الإنجليزية هى الرابحة، حيث عناصر القصة مكتملة وكل عنصر يؤدى وظيفته بنجاح. إذا أردت سريعا تلخيص هذه المقارنة فسوف نجد التالى، عناصر قصص الأطفال يمكن أن تتلخص فى:
١ــ النص (اللغة ــ رسم الشخصيات ــ ترتيب الأحداث).
٢ــ الصور (تقديم الشخصيات الأساسية ــ الصور كعنصر أساسي ــ الصور كعنصر مكمل ــ صور تحكى عكس النص).
٣ــ الحبكة والحل (بسيط ــ مركب).
٤ــ الوعى بالفئة العمرية (وتعتبر أهم العناصر حيث إنها تتداخل مع كل ما سبق ذكره من عناصر القصة).
إذا أردنا تحليل أى قصة أطفال يجب علينا أن نعرف أولا لمن تحكى القصة؟ وبالرغم من أننى مؤمنة تماما أن جميع القصص تصلح لأن تحكى لجميع الأعمار، فإن هذا الإيمان يتوقف بالأساس على قدرة الراوى على التبسيط أو التعقيد بعيدا عن النص الأصلى للقصة. لكن أصل الأمر هو أن كل كاتب يختار فئة عمرية يخاطبها. فى النص يخاطبنا الكاتب باختيار شخصيات تناسب المرحلة العمرية للقارئ. ويخاطبنا أيضا من خلال الصور والرسومات. وأخيرا، يخاطب الكاتب الفئة العمرية المختارة من خلال الحبكة ومقدار تعقيدها.
وأجد أن أحد أهم التحديات أمام كتاب الأطفال فى مصر والعالم العربى، هى تحديد المرحلة العمرية المناسبة للقصة. فنجد أن قصة جميلة كـ «حلم جديد» للكاتبة عفاف طبالة، وهى كاتبة مرموقة ومحبوبة لدى الكثير. شخصياتها كتبت ورسومها رسمت لفئة الأطفال الصغار من عمر ٣ إلى ٥ سنوات. أما النص إذا قمنا بتعديله قليلا، فسوف نجد أنه نص طويل يصلح للناشئين من عمر ٩ سنوات.
تدور أحداث القصة حول القرد «بادو» الذى تحدثنا الكاتبة عن مشكلته مع الأكل بشراهة وتأثير ذلك على سلوكياته فى نحو ١٨ صفحة من الكتابة والرسم. ثم تتحول أحداث القصة، فيتعرف «بادو» القرد على «سيلا» العصفورة و«مرمر» السمكة، ليبدأ خط جديد فى القصة يحكى عن الأحلام والكوابيس ويحكى فيه «بادو» عن كابوس ثعابين الموز وهو مشهد مزعج جدا فى القصة. ثم ننتقل بعدها إلى خط آخر يتناول موضوع الصداقة وتأثير صداقة العصفورة والسمكة على سلوكيات القرد. وبرغم كثرة الخطوط، هناك خط واضح يدور فى القصة وهو أن القرد لديه مشكلة سلوكية ولم يتمكن من تحسين سلوكه إلا بعد تعرفه على أصدقاء جدد.
إذا أخذنا فى الاعتبار أن الفئة العمرية المقدم لها النص هى فئة الأطفال الصغار (من ٣ سنوات إلى ٥ سنوات) وهى فئة لا تقرأ بنفسها. فطول النص يقف دائما عقبة أمام الأهل لعدة أسباب، أهمها أن الأطفال فى هذه السن أصبح معدل تركيزهم قليلا جدا، مجرد ثوان، يفقد الطفل اهتمامه بالقصة سريعا، ما لم يكن الشخص الذى يحكى متمرسا فى الحكى ويعرف جيدا كيف يجذب انتباه الطفل. ولكى نجذب اهتمام الطفل فما يحدث فى الواقع هو أن الأهل يقومون بقراءة نسخة مختصرة من تأليفهم بدلا من قراءة القصة كاملة، هذا فى أحسن الفروض. كما أن لغة القصة تميل إلى الفصحى المقعرة فنجد كلمات وتعبيرات معقدة لغويا على فهم واستيعاب السن الصغيرة. فعلى سبيل المثال نجد بالقصة تعابير مثل: (متضرعة ــ غشاوة ــ مستنكرة ــ معاينته ــ المصطفة ــ المفزع ــ منكمشة ــ فلسفة ــ مستعطفة ــ استطردت ــ على استحياء ــ مستدركة ــ رب البيت ــ نقتنص ــ المواتية ــ فأنصتتا ــ أراك خالى الوفاض ــ نهره الأب لعدم لياقته). من الرائع جدا أن نحاول إثراء لغة أطفالنا العربية بمصطلحات لغوية جديدة ولكن فيما أعتقد أن «حلم جديد» بها جرعة زائدة من المصطلحات الفصيحة والتعبيرات اللغوية المركبة، فى حين أنه كان الأجدر بالكاتبة التبسيط والاختصار فى مواقع كثيرة من القصة.
الصور فى قصة «حلم جديد» رسمتها المبدعة هنادى سليط، صور جميلة ذات ألوان زاهية. وحجم القصة المطبوعة وعدد الصفحات يسمح للرسامة بمساحة أعلى من الإبداع، من وجهة نظرى. لكن طول النص طغى على الرسم، فى حين أن الأطفال فى هذه السن تجذبهم جدا لغة الصور. حين لا حول لهم ولا قوة حيال فك طلاسم الحروف والكلمات، يستطيع الأطفال الصغار فهم ما يدور من أحداث القصة من خلال الصور. ولكن لا نستطيع أن نجزم تماما أن هذا ما حدث فى قصة «حلم جديد».
أما عن الحبكة، فهنا استوقفنى كثيرا أن هناك أكثر من معضلة فى القصة، تصلح لتحويلها من قصة صور واحدة (picture book)، إلى ثلاث قصص صور، أو إلى قصة فصول (chapter book). الفصل الأول: القرد «المفجوع» «بادو» كما سميته أنا وابنتى ومشكلة الأكل بشراهة وما يترتب عليها من أزمات. الفصل الثانى: أحلام وكوابيس وأصدقاء جدد. الفصل الثالث: رحلة تحقيق الأحلام.
كنت أستشير إحدى صديقاتى الأمهات فى موضوع هذه المقالة وعرضت عليها القصة، فما إن أخبرتها بعدد الصفحات، فابتسمت وقالت: لن أشترى قصة ٤٨ صفحة! مشيرة إلى طول النص لا طول الصفحات.
إن مهمة كاتب الأطفال العربى فى عصرنا هذا أعقد بكثير من أى وقت مضى، أقرب ما تكون لكابوس من كوابيس «بادو» المفزعة. فالمنافسة بين القصة الإلكترونية، سواء كانت قصة أم لعبة، متمثلة فى أى شاشة ما كانت (موبايل ــ آى باد أو غيرهما من الشاشات) وبين القصة المكتوبة منافسة قاسية ومحتدمة. ومن ناحية أخرى، المنافسة بين اللغة الإنجليزية التى أصبحت مع الأسف لغة أساسية فى المدارس، خاصة وأن الفئة التى تسمح لها مادياتها بشراء القصص لأبنائها، هى نفس الفئة التى يدخل أبناؤهم المدارس الدولية ومدارس اللغات. فتصبح القصص العربية محاصرة بشدة، ولا سبيل إلى فك هذا الحصار عنها إلا بنقدها وتطويرها؛ لتصبح قادرة على المنافسة، وجديرة بإعجاب كل من الطفل العربى وأهله.