قصة صفقة الطائرات الميراج الفرنسية
لمطالعة الحلقات السابقة لما كتبه سامي شرف عن الثورة الليبية..
سامي شرف يكتب عن: عبد الناصر وليبيا
سامي شرف يكتب: عبد الناصر وثورة الفاتح الليبية (2)
سامي شرف يكتب: عبد الناصر وثورة الفاتح الليبية (3)
سامي شرف يكتب لـ«الشروق»: عبد الناصر و ثورة الفاتح الليبية (4)
سامي شرف يكتب لـ«الشروق»: عبد الناصر وثورة الفاتح الليبية (5)
وفى أعقاب قيام الثورة الليبية وفى خلال شهر أكتوبر 1969 أبلغ السفير الفرنسى فى ليبيا الإخوة الليبيين باستعداد فرنسا لبيع أسلحة لهم ووافق مجلس الثورة من ناحية المبدأ وبناء عليه فقد تم بالتحديد يوم 15 أكتوبر 1969 أن طلب السفير الفرنسى فى طرابلس مقابلة أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة الليبية، فالتقى به عبد المنعم الهونى حيث عرض عليه السفير إستعداد بلاده لبيع مائة طائرة من طراز «ميراج» إلى ليبيا، وطلب منه دراسة هذا العرض وإبلاغه بقرارهم لإبلاغه لحكومته.
وطلب الهونى وبناء على تكليف من مجلس قيادة الثورة إبلاغ هذا العرض فورا للرئيس جمال عبد الناصر مشيرا إلى أن ليبيا ليست فى حاجة لهذا العدد من الطائرات وإذا تم شراؤها فستكون لصالح المعركة ضد إسرائيل، وعلى مصر إذا ما وافقت على التعاقد على هذه الصفقة أن تتكفل بالطيارين والفنيين الذين سيقومون على إدارتها وتشغيلها واستخدامها لأن ليبيا لا تملك القوة البشرية اللازمة لهذه الصفقة.
جاء العرض إلى القاهرة واجتمع الرئيس عبد الناصر مع الفريق فوزى وكان القرار بعد دراسة العرض هو السير فى إتمام الصفقة وفى نفس الوقت يتم توفير الطيارين والفنيين اللازمين، وتم إبلاغ مجلس الثورة الليبى بهذا القرار بواسطة كل من فتحى الديب الذى كان فى القاهرة فى هذه الفترة وتقرر عودته فورا حيث قام مع صلاح السعدنى بإبلاغهم بقرارالقاهرة، وكان رد الفعل الليبى هو سعادتهم للغاية بهذا القرار وتم إبلاغ السفير الفرنسى باستعداد ليبيا لإتمام الصفقة، و وعد السفير بترتيب الإجراءات مع باريس تمهيدا لتجهيز وفد فنى يسافر إلى فرنسا.
جرت المفاوضات فى باريس بين وفد ليبى برئاسة عبدالسلام جلود وضم فى عضويته طيار مصرى هو عبد الخالق مطاوع، وتم الاتفاق بالفعل على توريد 110 طائرة من طرازات مختلفة يتم استلامها وفقا للتوقيتات التالية:
4 طائرات تدريب فى نهاية سنة 1970
26 طائرة مقاتلة خلال عـــــام 1971
61 طائرة مقاتلة يتم توريدها فى 1972
19 طائرة مقاتلة يتم توريدها فى1973
وكانت القيمة الإجمالية للصفقة 300مليون دولار ، وأن تبدأ المراحل التدريبية خلال عام 1970.
ووضعت فرنسا شرطين فى بروتوكول الصفقة أصرت عليهما ، ويقضى الأول بعدم استخدام الطائرات فى حرب ضد فرنسا أو ضد أى دولة تربطها بفرنسا علاقات صداقة.
أما الشرط الثانى فقد كان يقضى بألا تعطى ليبيا الطائرات والمعدات لأية دولة أخرى لاستخدامها بأوامر دولة أخرى أو تتركز فى دولة أخرى . وعند استفسار المفاوض الليبى عن هذين الشرطين أوضح الجانب الفرنسى بأن المقصود بالدول الصديقة تونس والنيجر وتشاد ولا تتضمن إسرائيل بأى حال بل على العكس هم يوافقون على أى عمل ضدها . أما المقصود بالتمركز فهو أن يكون تمركزا دائما مصحوبا بنقل الورش والمعدات الثقيلة إلى دولة أخرى . وأشار الجانب الفرنسى أيضا إلى أنهم لا يعارضون هبوط الطائرات فى مطارات مصر ، وإذا لزم الأمر أن تقيم فيها مدة لا تزيد على خمسة شهور .. وأصر الوفد الليبى على تضمين هذه الشروح والتفسيرات بروتوكول الصفقة واستجاب الجانب الفرنسى لذلك.
كما وافق الجانب الفرنسى على تزويد الطائرات بقطع غيار فى حدود 20% تكفى احتياجات الطائرات ثلاث سنوات، ووافق الجانب الفرنسى على الشروط الليبية فيما يتعلق بالتسليح والتدريب ومعامل التصوير الجوى وأجهزة التنشين الآلى علاوة على إضافة ثمانية وعشرين طائرة هليكوبتر.
وبالإضافة إلى هذا فقد أبدت الحكومة الفرنسية اهتمامها واستعدادها للتعاون مع ليبيا فى ميكنة الزراعة كذلك.
لقد كان الهدف الأساسى للتحرك الفرنسى هو تسويق السلاح والمنتج الفرنسى ومن ثم كانت شروطهم السياسية محدودة للغاية وتتسم بالمرونة ؛ إذ لم يكن قد ثبت لدى القيادة الليبية أية نوايا عدوانية تجاه ما يسمى بأصدقاء فرنسا ولم تكن ليبيا فى حالة تسمح بفتح مواجهات عسكرية بطرق مباشرة مع دول أخرى، كما أننى أعتقد أنه لم تغب عن المفاوض الفرنسى وجود عناصر مصرية داخل وفد التفاوض الليبى ، كما لم يغب عنه بعد ذلك أن الطيارين الذين ذهبوا إلى باريس لتلقى التدريب على الطائرات الميراج كانوا مصريين يحملون جوازات سفر ليبية، وحتى إذا قلنا أن الصفقة كانت تنطوى على أهداف غير تجارية بشكل كامل فيمكن اعتبارها ووفقا للتقديرات الفرنسية أنها تتم بالكامل لصالح مصر ، وإن كان هذا الأسلوب ، أى إتمامها من خلال ليبيا يرفع عنهم الحرج سواء إزاء إسرائيل أو الولايات المتحدة الأمريكية فضلا عن ضمان التمويل الفورى للصفقة.
جاء إبرام هذه الصفقة مؤشرا لحجم التغيير الذى أحدثته الثورة الليبية فى توازن القوى فى المنطقة، فلم يحدث أن تقدمت أية دولة عربية تملك القدرة المالية على هذه المبادرة ، ذلك أن كل الصفقات التى كانت تنفذها الدول الغربية فى المنطقة وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وألمانيا الغربية (وقتها)، كانت تكبلها بعشرات القيود التى تحول دون الاستفادة بها فى المعركة فى نفس الوقت التى كانت تحيط فيه هذه الصفقات بحملات إعلامية تتيح لإسرائيل الفرصة للمطالبة بأسلحة تماثلها أو تتفوق عليها.
كما أنها كانت المرة الأولى منذ قيام الثورة التى يمتلك فيها سلاح الطيران المصرى المستخدم الحقيقى للصفقة طائرات ميراج لمواجهة مثيلتها التى تشكل العمود الفقرى لسلاح الطيران الإسرائيلى فى ذلك الوقت بعد أن كان اعتماده كاملا على المنتج السوفيتى فى كل مجالات التسليح .
ولما كان الرئيس عبد الناصر قد وضع موعدا مبدئيا لشن معركة التحرير هو ربيع 1971 فقد طلب من الجانب الليبى أن يمارس أقصى ضغوطه للتعجيل بتوريد أكبر جزء من الصفقة خلال عامى 1970/1971، وبالفعل فقد شاركت هذه الطائرات بدور مهم فى معركة أكتوبر 1973.
ومن جانب آخر لعب العمق الإستراتيجى الليبى دورا حيويا فى خدمة الموقف المصرى فى المعركة، فمع تزايد معدل الغارات الجوية الإسرائيلية فى العمق المصرى لم يكن هناك أدنى صعوبة بل على العكس رحبت القيادة الليبية بانتقال كل من الكلية البحرية والجوية إلى طبرق وكذلك بعض قطع البحرية المصرية من قاعدة الإسكندرية.
وتواصلت الخدمات الأمنية التى وفرتها ليبيا الثورة لمصر فى المواجهة مع إسرائيل، فعلى أرض ليبيا جرى أعمق تنسيق ممكن بين أجهزة المخابرات فى البلدين فى القبض على أخطر جاسوسة عرفتها مصر وهى المدعوة " هبة سليم" ، التى أقامت شبكة للتجسس لصالح إسرائيل لعبت دورا خطيرا فى كشف مواقع الدفاع الجوى التى كانت تقيمها مصر على الضفة الغربية للقناة مما عرضها للضربات الجوية الإسرائيلية طوال النصف الأول من عام 1970 وكان مركز هذه الشبكة فى باريس، ومن ثمّ تم استدراج الجاسوسة هبة سليم إلى ليبيا حيث كان يعمل والدها هناك وتم نقلها عبر الطريق البرى إلى داخل مصر، وكان انجازا يصعب الوصول إليه فى ظل الأوضاع السياسية والأمنية السابقة على قيام الثورة الليبية.
وبهذه المناسبة فإنى أذكر أن الرئيس جمال عبد الناصر قد أمرنى بإرسال برقية الى فتحى الديب لإبلاغها للعقيد القذافى وكان ذلك فى الأسبوع الأخير من سبتمبر1969 وكان ملخص هذه البرقية:
" ضرورة التأكيد على الإهتمام بأمن الثورة والتركيز على الأمن الشخصى للعقيد القذافى ، ذلك أن استمرار الأحوال على ما هى عليه ستزيد من الضغوط ضده بعنف".
وقد تم بالفعل اختيار عبدالمنعم الهونى للإشراف على جهاز المخابرات العامة واتفق على إيفاد مجموعات لتلقى التدريب فى القاهرة كما بدأ الاهتمام بتشكيل الحرس الجمهورى وسكرتارية قائد الثورة.
كما حمل محمد حسنين هيكل فى العاشر من أكتوبر 1969 رسالة أخرى من الرئيس عبد الناصر للعقيد معمر القذافى وهى تعتبر من أهم الرسائل التى تبادلتها القياداتان وكان ملخصها :
«التركيز على دراسة أساليب العمل الشعبى والارتباط بالقاعدة الجماهيرية وتنظيمها و وضع برنامج فى شكل ميثاق للعمل الوطنى والقومى، وأهمية دعم الثورة الليبية وضرورة اتخاذ كافة الإجراءات التى تكفل حمايتها وتأمينها».
طلب الرئيس عبد الناصر ضرورة استمرار تبادل الأفكار باعتبار أن ثورة ليبيا فى المكان وفى الوقت وفى الظروف والملابسات التى قامت فيها تشكل ضربة شديدة للاستعمار ، وتؤثر على موازين القوى فى المنطقة ؛ لذلك فإن القوى المعادية للأمة العربية التى فاجأتها الثورة ستتحين الفرصة لضرب الثورة رغم ما تقوم به من مداراة حفاظا على مصالحها وشرح ما صادفته ثورة 32يوليو من محاولات مضادة وقال إن مساندة مصر لثورة ليبيا ليست كلاما يقال ، ولابد من التخطيط المسبق لدراسة كافة هذه الاحتمالات، وهذا يحتاج لتنسيق على أعلى مستوى، وقدم إقتراحا بتكليف مجموعة عمل مشتركة للبحث والتحليل و الدراسة وتقديم الاستنتاجات والتقديرات للموقف.
وقد رد القذافى على رسالة الرئيس بالإيجاب والموافقة على كل ما جاء فيها مقدرا هذا الاهتمام رغم انشغال الرئيس عبد الناصر بالمرض وبالمعركة.
وتم إعداد تقرير بالموقف ناقشه مجلس قيادة الثورة بعد أسبوع من وصول هذه الرسالة واتفق على وضع تصور للاحتمالات المضادة وأسلوب مواجهتها.
وقد رد الرئيس عبد الناصر على الجانب الليبى بأن مصر فى حالة حدوث أى عدوان على الثورة والنظام الليبى فإن القاهرة تضع كل إمكانياتها بدون أى تحفظ تحت تصرفهم بما فى ذلك القوات المسلحة.
(وللحديث بقية... ) اقرأ في الحلقة القادمة والأخيرة..
موقف الرئيس عبد الناصر من الملك إدريس السنوسي.