اكتمل الوحي الإلهي، بقول الله -تعالى- في سورة المائدة: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا"، في يوم عرفة من حجة الوداع؛ ليكون الإسلام دينًا مكتمل الأركان مستندًا إلى كتاب الله وسنة نبيه -صل الله عليه وسلم-.
وبعد انتقال الرسول الكريم إلى الرفيق الأعلى، حمل العلماء على عاتقهم مسئولية فهم الدين واستنباط الأحكام، فكان الاجتهاد بابًا واسعًا أثرى الأمة بعلوم شتى، وعلى مدار أكثر من 1000 عام ظهر تراث إسلامي زاخرا بالكتب في التفسير والحديث والسيرة والفقه وغيرها من العلوم الشرعية.
وفي هذه السلسلة، نطوف معًا بين رفوف "المكتبة الإسلامية"، نستكشف في كل حلقة كتابًا أثرى الفكر الإسلامي، ونتأمل في معانيه وأثره في مسيرة العلم والدين.
الحلقة الثالثة والعشرون..
- ملك العلماء
يُعد أبوبكر بن مسعود بن أحمد الكاساني، المعروف بعلاء الدين الكاساني والمُلقب بـ"ملك العلماء"، أحد كبار فقهاء المذهب الحنفي في القرن السادس الهجري، وهو صاحب الكتاب الشهير "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع"، الذي يُعد من أهم المراجع الفقهية في الفقه الإسلامي.
وتلقى علاء الدين الكاساني، العلم على يد علاء الدين السمرقندي، وتزوج ابنته فاطمة الفقيهة، التي كانت من العالمات البارزات في عصرها، وجعل "بدائع الصنائع" مهر زواجه بها، حتى قال فقهاء زمانه: "شرح تحفته وزوّجه ابنته".
واشتهر الكاساني، بعمق علمه وسعة اطلاعه، وقدم إلى حلب رسولًا من صاحب الروم إلى السلطان نور الدين محمود زنكي، الذي ولاه تدريس المدرسة الحلاوية، وكان له حضور قوي في الجدل الفقهي، حتى قيل إنه في أحد مجالسه بدمشق لم يجد الفقهاء مسألة إلا ووجد لها رأيًا من آراء أصحاب أبي حنيفة؛ مما دل على غزارة علمه.
وألف أيضًا كتاب "السلطان المبين في أصول الدين"، وعُرف بوجاهته وكرمه وشجاعته.
وتوفي الكاساني، يوم الأحد 10 رجب سنة 587هـ في حلب، ودُفن داخل مقام إبراهيم الخليل خارج المدينة، وقد جاء في رواية أن روحه فاضت أثناء قراءته سورة إبراهيم عند قوله تعالى: "يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)"، فكان ذلك حسن خاتمته؛ ليبقى اسمه خالدًا في سجل الفقهاء العظام.
ويُعد كتاب "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع" للإمام علاء الدين الكاساني من أهم المراجع الفقهية في المذهب الحنفي، حيث جمع فيه مؤلفه بين التفصيل الدقيق للمسائل الفقهية والترتيب المنهجي الواضح؛ مما جعله من أكثر الكتب اعتمادًا في دراسة الفقه الحنفي.
ووفقًا لما ذكره ابن عابدين في "رد المحتار"، فإن الكتاب يُعد من أوسع شروح الفقه الحنفي وأدقها ترتيبًا، حيث يعرض كل مسألة فقهية مع ذكر أدلتها من القرآن والسنة والإجماع والقياس، مع بيان أوجه الاختلاف بين الفقهاء، مما يجعله أحد أبرز كتب الفقه المقارن داخل المذهب الحنفي.
- منهج الكتاب وأسلوبه
اعتمد الكاساني في "بدائع الصنائع" على أسلوب التحليل والترجيح، حيث يعرض آراء أئمة الحنفية مثل أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني وزفر، ثم يناقش أدلتهم موضحًا الراجح من المرجوح، مستعينًا بالأدلة الشرعية.
وحسبما جاء في "الهداية" للمرغيناني، فإن الكاساني لم يكن مجرد ناقل للمذهب، بل كان ناقدًا للأدلة، قادرًا على الترجيح بينها بأسلوب علمي رصين، كما قارن بين الفقه الحنفي والمذاهب الأخرى، خاصة المالكي والشافعي والحنبلي، مما منح الكتاب قيمة كبيرة في الفقه المقارن.
وجاء في "بدائع الصنائع"، أن المؤلف اعتمد ترتيبًا فقهيًا دقيقًا، حيث بدأ بأبواب العبادات مثل الطهارة والصلاة والصيام والزكاة والحج، ثم انتقل إلى المعاملات المالية مثل البيع والإجارة والرهن والشركات، ثم تناول الأحوال الشخصية مثل النكاح والطلاق والمواريث، ثم تعمق في القضاء والحدود والجنايات؛ مما جعله موسوعة فقهية متكاملة تغطي جميع جوانب الحياة الإسلامية.
- أهمية بدائع الصنائع في الفقه الحنفي
ورد في "نصب الراية" للزيلعي، أن كتاب "بدائع الصنائع" كان أحد المراجع الأساسية التي اعتمدها الفقهاء والمفتون والقضاة على مدار القرون، نظرًا لدقته في عرض الأحكام وترجيحاته الفقهية القوية، حتى قيل عنه إنه أفضل شرح معتمد في الفقه الحنفي بعد كتاب "الهداية".
وقال ابن بدران في "المدخل إلى مذهب الإمام أحمد"، إن بدائع الصنائع كان مرجعًا رئيسيًا في المحاكم الشرعية التي تعتمد الفقه الحنفي في إصدار الأحكام، خاصة في بلاد المشرق الإسلامي، مثل الدولة العثمانية والهند وأفغانستان وبعض دول العالم العربي.
- أثر الكتاب في الفقه الإسلامي
لم يقتصر أثر "بدائع الصنائع" على المذهب الحنفي فحسب، بل أصبح مرجعًا هامًا للباحثين في الفقه المقارن، حيث يعرض أدلة كل مذهب بموضوعية؛ مما يساعد على فهم الفروق الفقهية بين المذاهب الإسلامية المختلفة.
وأورد محمد أبو زهرة في "تاريخ المذاهب الإسلامية"، أن الكتاب يمثل نموذجًا علميًا لاستقراء الأدلة الفقهية وتحليلها وفق أصول الفقه الحنفي؛ مما جعله مصدرًا أساسيًا في الاجتهاد الفقهي الحديث، حيث يستفيد منه الفقهاء عند إصدار الفتاوى المعاصرة، خاصة في مجالات المعاملات المالية والأنكحة والقضاء.
اقرأ أيضا:
المكتبة الإسلامية (22).. المغني لـ ابن قدامة موسوعة الفقه المقارن