صدر حديثًا للمؤرخة البريطانية وباحثة الفولكلور، سارة كليج، كتاب بعنوان «موت الشتاء: احذر من كرامبوس وغيره من مخلوقات عيد الميلاد الشريرة» نقلت من خلاله مقتطفات من الأساطير الشعبية الأوروبية المظلمة لأعياد الميلاد والتى قد لا يعرفها الكثير من العامة، كما جمعت من خلاله بين سرد قصصى شيّق ونقد جاد لأفكار الباحثين السابقين.
وأخذت الكاتبة القراء فى رحلة ذات طابع المغامرات تتراوح بين التجول فى المقابر قبل الفجر، وأجواء الرعب فى «ليلة كرامبوس» بمدينة سالزبورج فى النمسا، التى سُميت تيمنا بالكائنات المقنعة المرعبة التى تجوب الشوارع فى الخامس من ديسمبر من كل عام.
وتناولت موسم الأعياد عبر صفحات الكتاب من منظور جديد تمامًا، حيث خصصت فصولا للكرنفال فى فينيسيا، ومهرجانات ساتورناليا فى روما القديمة، وطقوس ليلة عيد الغطاس (المعروفة أيضًا بالليلة الثانية عشرة)، واحتفالات الواسيل فى يناير، حيث يتمنى المحتفلون الصحة لأشجار التفاح من خلال التلويح بجماجم الخيول.
ويبدو أن ما يوحد هذه الاحتفالات دائمًا هو أجواء الفوضى والمرح الاجتماعى؛ حيث تشمل الممارسات «التنكر» بأزياء الحيوانات، و«المسرحيات الشعبية»، و«الدقّ»، حيث يطوف المحتفلون على الأبواب طلبًا للحلوى، بل ويسحبون السكان الممانعين للانضمام إلى الاحتفال. وغالبًا ما تتحول هذه الفوضى إلى عنف، خاصة فى بلدة ماترى بالنمسا، حيث تدخل شخصيات «كلاوبوف» الشبيهة بكرامبوس المنازل وتشتبك فى شجارات بالشوارع، مما يدفع السلطات لتحذير السياح من زيارة البلدة، بينما تستعد المستشفيات لاستقبال المصابين.
حتى «كليج» نفسها لم تجرؤ على زيارة بلدة ماترى لكتابة الكتاب، ولكن ليلة كرامبوس التى شهدتها فى سالزبورج لم تكن أقل إثارة، إذ تعرضت للضرب من أحد شخصيات كرامبوس بعصوين أثناء تجولها وسط أضواء الأسواق وأكشاك النبيذ الساخن، ورغم أنها وصفت التجربة بأنها «مرح احتفالى»، إلا أن الكدمات والجروح استمرت معها لمدة شهر بعدها.
ووفقًا للتقليد، فكرامبوس هو مساعد القديس نيكولاس (سانتا كلوز). لكن حتى سانتا نفسه ليس دائمًا لطيفًا كما يبدو، إذ يقتصر جانبه العقابى الآن كما تعرفه معظم الثقافات الغربية على حرمان الأطفال من الهدايا إذا كانوا مشاغبين.
ولكن هذا لا يُقارن بالعقوبات التى تنفذها شخصيات أخرى فى تقاليد الاحتفالات الشتوية؛ ففى شمال أوروبا على سبيل المثال، تُصور القديسة لوسى عادةً كفتاة لطيفة ترتدى الأبيض وتحتفل باليوم الخاص بها فى 13 ديسمبر، لكنها قد تتحول من اللطف إلى الوحشية إذا وجدتك تعمل بدلا من الاحتفال فى يومها، أو إذا نسيت وضع وجبة خفيفة لها ولرفاقها، وتقول الأسطورة إنها فى هذه الحالة تستمتع بلفّ أمعائك، وقد تغير أسلوبها فتأخذ الأطفال، وتزيل أعضاءهم الداخلية، وتحشوهم بالقش، وتعيد خياطتهم.
وفى القرن التاسع عشر، شهدت أعياد الميلاد تحولًا نحو سلوكيات أكثر تهذيبًا، خاصة فى بريطانيا الفيكتورية؛ فأصبح سانتا كلوز مائلا للسمنة وركب زلاجة تجرها غزلان الرنة، وتحولت الولائم من جلسات الشرب العامة الفوضوية إلى عشاء عائلى هادئ يرأسه رب الأسرة، مما عزز روح التقاليد.
وانتقلت الأجواء الفوضوية للأعياد إلى مناسبات أخرى مثل الكرنفالات وعروض البانتومايم، بينما ارتبط طرق الأبواب للحصول على الحلوى بعيد الهالوين، أما فى إنجلترا اليوم، فإن التقليد الصاخب لاقتحام المنازل فى عيد الميلاد يتجسد فقط فى صورة أقل رعبًا مع مغنى التراتيل على الأبواب.
كما ذكرت الكاتبة طقوسًا أخرى ذات طابع فولكلورى، على غرار طقوس «واسيلر تشبستاو» بجماجم الخيول المعلقة على العصى، وممثلى فرقة «مارشفيلد» فى ريف جلوسترشير الإنجليزى الذين يرتدون أزياء ممزقة ويؤدون عروضًا شعبية، وتلقى هذه الفعاليات إقبالًا كبيرًا، مما يشير إلى إحياء الاهتمام بها؛ حتى أن جولات كرامبوس أصبحت شائعة فى بعض أجزاء الولايات المتحدة.
وقالت «كليج» إن هذا ربما يعكس شعورًا متزايدًا بالاستياء من أجواء عيد الميلاد الفيكتورية المروّضة الحديثة خاصة فى ظل طابعها التجارى الحالى. إذ إن أجواء التسوق المحمومة أو محاولة حجز تذاكر السفر لا تنافس جنون الركض بأقنعة الحيوانات.
وأشارت «كليج» إلى أن القرن التاسع عشر هو الذى أوجد هذا النمط من عيد الميلاد، كما أوجد أيضًا مؤرخين جددًا كانوا يبحثون عن طقوس وثنية غامضة خلف التقاليد المهذبة؛ ففى عام 1890، حاول المؤلف جيمس فريزر فى كتابه «الغصن الذهبى» تفسير كل الأساطير من خلال طقس مزعوم لفصل الشتاء يتم فيه التضحية بالملك ليولد من جديد فى الربيع، وقد كانت الفكرة مثيرة، وأصبح الكتاب من أكثر الكتب مبيعًا. لكن المشكلة، كما ترى «كليج»، أنه لم تكن هناك أدلة قوية على وجود مثل هذا الطقس؛ فكان الكتاب، كما تصفه ــ مجموعة من الادعاءات الجامحة وغير المدعومة ــ مبنيًا على خيال مثير حول طقوس الخصوبة البدائية.
ورغم انتقاد «فريزر» مرارًا عبر صفحات كتابها، رأت «كليج» أن أفكاره لا تزال حاضرة فى ميلنا الحالى لافتراض أن الممارسات الحديثة متجذرة فى ماضٍ غامض ووثني. وأوضحت أن هذا التصور مضلل لعدة أسباب. أولًا، نحن نعرف القليل جدًا عما حدث فى الماضى غير الموثق. ثانيًا، يفترض هذا التصور أن الأوروبيين القدامى كانوا مجرد ناقلين سلبيين للتقاليد، بدلًا من أن يكونوا مبتكرين يعيدون تخيل احتفالاتهم عبر الزمن، فقالت: «لا يمكن اعتبار الفولكلور شيئًا قديمًا وثابتًا»، بل هو «إبداعى وديناميكى».
كما أن فكرة الغموض القديم تتجاهل جانب المتعة؛ فعندما استفسر أسقف رافينا فى القرن الخامس، بطرس كريسولوجوس، عن الاحتفالات المحلية، أكد له الناس أنها «فقط للمرح» ولكنه اعتقد أنهم يحاولون إخفاء شىء أكثر خطورة، بالنسبة للمؤلفة، الناس كانوا على الأرجح صادقين ولا يملكون «أجندات خفية»؛ لأنه إذا أُتيحت للناس عطلة وفرصة للمرح، فمن الطبيعى أن يركضوا متنكّرين بأزياء حيوانات، يشربون ويضربون بعضهم بالعصى، لأن الأمر ببساطة ممتع.
وأظهرت صفحات الكتاب أن المؤلفة متوافقة مع فكرة المرح كقوة ثقافية رئيسية، لأنها تمتلك حسًا قويًا به، ولذا جاء كتابها ممتع وملىء بالأفكار المثرية إلى جانب التعليقات الفكاهية الذكية.