على الرغم من أن الحراك القضائي في مجال الحقوق والحريات خلال عمل المستشار طارق البشري بالقضاء، في الفترة بين منتصف الخمسينيات ومنتصف التسعينيات، لم يكن بالحيوية المعتادة الآن، من حيث تنوع الموضوعات المرتبطة بالمشكلات الإدارية الناجمة عن ممارسة الجهات التنفيذية لسلطاتها، إلا أن للقاضي الراحل إسهاماته القانونية الهامة، ممثلة في إرساء العديد من المبادئ القضائية الهامة التي استقرت محاكم القضاء الإداري على العمل بها حتى الآن.
وربما لا يعرف كثيرون أن المستشار طارق البشري على ضخامة إسهاماته الفكرية والبحثية في مجالي السياسة والتاريخ، ظل يعتبر نفسه من أبناء القضاء المصري بصفة عامة ومجلس الدولة بصفة خاصة، ومعتزا بمسيرته القضائية التي استغرقت ثلاثة وأربعين عاما من حياته.
ومما يتبادر إلى ذهن المتتبع للإرث القضائي الذي تركه البشري بمجلس الدولة، في مجال الحقوق والحريات -ومع تنوعه وتعدده- فقد كان من الممكن أن يتضاعف لو كان البشري قد أدرك وهو على منصة القضاء ظهور موجة التقاضي الاستراتيجي بمصر وتناميها في السنوات العشر السابقة على ثورة الخامس والعشرين من يناير، والتي استمرت بصور مختلفة بعد الثورة بغية إحداث تغييرات تشريعية وسياسية واجتماعية واقتصادية.
ورغم تقاعده لم ينقطع البشري -بخبرته القانونية والقضائية- عن متابعة ما يستجد من مبادئ وأحكام في قضايا الرأي العام، وكان يطل دائما بتصريحات من خلال "الشروق" في السنوات ما بين 2011 و2017 بتعليقات على الأحكام بالتأييد والتحليل وتوضيح الأثر أحيانا، وبالنقد أحيانا أخرى.
وتُظهر المراجع والمجموعات القانونية أن المبادئ القضائية التي تكفل حرية تكوين الأحزاب السياسية جاءت على رأس الإسهامات القانونية التي تركها البشري، باعتبار ذلك النوع من القضايا هي أبرز المنازعات ذات الطابع الحقوقي والسياسي التي عرضت عليه لدى عمله رئيساً لهيئة مفوضي الدولة.
وفي كتابه الصادر عن دار النهضة العربية بعنوان «الاجتهادات القانونية للمستشار طارق البشري في القضاء والإفتاء» أفرد المستشار الدكتور محمد هاشم، نائب رئيس مجلس الدولة، فصلاً كاملاً عن إسهامات المستشار طارق البشري المرتبطة بمنازعات الأحزاب السياسية وحرية تكوينها وفعالية ممارستها لدورها.
حرص البشري من خلال تلك الإسهامات كقاض إداري على إطلاق حرية تكوين الأحزاب، وأورد من بين تلك الإسهامات تقارير هيئة المفوضين التي أعدها البشري في دعوى تأسيس الحزب العربي الديمقراطي الناصري، ودعوى بطلان رفض تأسيس حزب الصحوة، وحكمه الهام الصادر بغل يد لجنة شئون الأحزاب السياسية عن التدخل في الشئون الداخلية للحزب كترجيح من له رئاسة الحزب.
• تقرير الحزب العربي الناصري
في مطلع التسعينات من القرن الماضي، أقام الحتامي الناصري ضياء الدين محمد داوود طعناً أمام المحكمة الإدارية العليا طالب فيه بوقف تنفيذ وإلغاء قرار رئيس لجنة شئون الأحزاب السياسية، بالاعتراض على تأسيس الحزب العربي الديمقراطي الناصري، وأحالت المحكمة الطعن إلى هيئة مفوضي الدولة لأعداد تقرير بالرأي القانوني فيه، وذهب الطعن إلى البشري باعتباره أحد أعضاء هيئة المفوضين لهذه الدائرة.
وعددت وقتها لجنة شئون الأحزاب في ردها على الطعن من أسباب قرار اعتراضها على تأسيس الحزب والتي كان من بينها سبق اتهام ثلاثة من طالبي تأسيس الحزب في جنايتين، ومخالفة الحزب لشرط التميز الظاهر عن برامج الأحزاب الأخرى، وعدم ذكر الحزب لمبادئ ثورة 15 مايو 1971 على النحو الذي يعد تجاهلاً من طالبي تأسيس الحزب لخطوات التصحيح الديمقراطي التي بدأت في 1971.
وأعد البشري تقرير الهيئة بالرأي القانوني في الطعن، والذي انتهى فيه إلى إلغاء قرار لجنة شئون الأحزاب السياسية بالاعتراض على تأسيس الحزب، غير مقتنعاً بما ساقته اللجنة من أسباب لتبرير قرارها، بعدما فند هذه الأسباب في التقرير وتولى الرد عليها جميعاً.
ففي رده على السبب الأول للاعتراض الخاص بسابقة اتهام ثلاثة من طالبي تأسيس الحزب في جنايتين، قال البشري في تقريره إن لجنة الأحزاب السياسية أخطأت في استنادها لهذا السبب في الاعتراض على تأسيس الحزب، باعتبارها قد خلطت ما بين مسألة تأسيس الحزب ومسألة أخرى متعلقة بمدى أهلية وكيل المؤسسين للعمل السياسي.
ولم يكتف بذلك فحسب بل اتهم اللجنة في تقريره بالتحايل على القانون باستنادها إلى سابقة الحكم على وكيل المؤسسين بناء على نص عقابي يحرم الفرد من ممارسة بعض حقوق المواطنة، وتحويل ذلك الأمر إلى شرط من شروط تأسيس الحزب وعائق أمام تكوينه، موضحاً أنها توسعت في قراراها دون مبرر ونقلت واقعة الحكم على وكيل المؤسسين في القضية المشار إليها من صدورها على حق شخص طبيعي وجعلتها كأنها حكم على شخص معنوي متمثل في كيان قد نشأ أو يجري إنشاؤه وقت وقوعها وبعد أن انقطع وانتهى أثرها.
كما كشف البشري في تقرير عن محاولة اللجنة باستنادها إلى هذا السبب بعث نص قانوني إلى الحياة بعد الحكم بعدم دستوريته، وذلك بالاستناد إلى واقعة الحكم على وكل المؤسسين من محكمة الثورة في القضية رقم 1 لسنة 1971 وأخذها كدليل جدي يمنع من تأسيس الحزب لأن أحد مؤسسيه قام بالدعوة إلى لما يتعارض مع المبادئ المقررة، وعاب على لجنة الأحزاب محاولتها الاستدلال بهذه الواقعة في مجال قانون الأحزاب كمانع لتأسيس الحزب رغم تسليمها بأنها ليست مانع من ممارسة العمل السياسي طبقاً لقانون حماية الجبهة الداخلية الساري وقتها، بسبب الحكم بعدم دستوريته، مشدداً على أن ما نسب لوكيل المؤسسين من أفعال بلغت تمامها في الماضي وانقطع وجودها في الحاضر ولا تصلح مانعاً لتأسيس الحزب.
وأورد البشري ضمن ردوده على السبب الأول أيضاً رداً احتياطياً آخر أكد فيه عدم تأثير وكلاء المؤسسي الثلاثة السابق اتهامهم جنائياً على فرض استبعادهم من قائمة وكلاء مؤسسين الحزب، لوجود عدد أكثر من العدد المحدد قانوناً لسلامة طلب تأسيس الحزب، حيث تضمنت قائمة الحزب عدد 84 مؤسسا في حين يشترط القانون توقيع 50 مؤسسا فقط.
وفي رده على سباب الاعتراض الثاني المرتبط بمخالفة الحزب لشرط التميز الظاهر عن بقية الأحزاب، قال البشري في تقريره إن بحث لجنة الأحزاب لمدى توافر شرط التميز الظاهر في الحزب لا ينبغي أن يتوسع ليكون بمثابة إجراء تقويم سياسي للحزب، كاشفاً خطأ اللجنة في التأكيد على عدم وجود وسائل وخطوات لدى الحزب لتحقيق الوحدة العربية، موضحاً أن برنامج الحزب تضمن من أسس وأساليب تحقيقها ما يجعله أساس دعوته السياسية وتميز البرنامج بتركيزه على الوحدة العربية واحتلالها مكاناً محورياً فيه.
أما سبب الاعتراض الثالث والمرتبط بعدم ذكر الحزب لمبادئ ثورة 15 مايو 1971، فقال فيه البشري إن السكوت لا يفيد قولاً بغير لفظ خاصة مع عدم وجود عرف بذلك، واستشهد البشري في تقرير ببرنامج الحزب وما ورد به من الأيمان بحرية تكوين الأحزاب ومطالبته بانتخاب رئيس الجمهورية انتخاباً حراً مباشراً وإلغاء قوانين التجمهر والحراسة وقانون حماية الوحدة الوطنية وغيرها من القوانين المقيدة لحرية الرأي وإلغاء الاعتقال في جرائمك الفكر والسياسية.
ووصف البشري تلك الأهداف تعبر عن نظر عميق في الأمور، باعتبار أن ذكر المبادئ يغني عن ذكر الوقائع التاريخية كحركة 15 مايو التي قد يختلف الناس حول أسبابها ونتائجها في حين أن المبادئ تعصم من الخلاف.
وتجدر الإشارة إلى أن المحكمة الإدارية العليا أخذت بما جاء في هذا التقرير وأصدرت حكماً في 19 أبريل 1992 بإلغاء اعتراض لجنة شئون الأحزاب على تأسيس الحزب.
• تقرير حزب الصحوة
وهو التقرير الذي يعتبره عدد من المتخصصين في الفقه والقانون الأهم في مسيرة أعمال البشري الدالة على مدرسته القضائية والفقهية، وتعود قصته إلى طعن أقامه الداعية الإسلامي الراحل الشيخ يوسف البدري، في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، طالب فيه بوقف تنفيذ وإلغاء اعتراض لجنة شئون الأحزاب على تأسيس حزب الصحوة الإسلامية.
وكان اعتراض لجنة الأحزاب السياسية على تأسيس ذلك الحزب منصباً وقتها على أن الحزب بُني على أساس من الدين الإسلامي والشريعة ويفرق بين المواطنين ويهدد الوحدة الوطنية.
وعلى الرغم من إيداع رئيس دائرة المفوضين الأولى بالمحكمة الإدارية العليا تقريراً أمام المحكمة بالراي القانوني في هذا الطعن انتهى فيه إلى تأييد قرار الاعتراض على تأسيس الحزب، رأى المستشار طارق البشري وكان وقتها رئيس هيئة مفوضي الدولة أن يقدم تقريراً ثانياً بالرأي القانوني لأهمية ما يثيره موضوع الطعن من مسائل قانونية تحتمل وجهة نظر ثانية.
وأكد البشري في تقريره الذي انتهى فيه إلى التوصية بإلغاء اعتراض لجنة الأحزاب السياسية على تأسيس الحزب، أنه لا تعارض ولا منافاة بين أياً من أحكام النظام الداخلي للحزب المستندة إلى الشريعة الإسلامية، وبين المبادئ التي أوجب قانون الأحزاب مراعاتها، ولا يعد هذا من قبيل قيام الحزب على أساس ديني، مؤكداً أنه لا حجة لقول يرى في إسلامية الدولة أو مصدرية الشريعة الإسلامية ما يمس الوحدة الوطنية، إلا أن يكون قولاً يحكم على الدستور بالتناقض أو يجهل مفاد أحكامه، وبالتالي فلا تعارض بين النص في الدستور على مصدرية الشريعة الإسلامية وبين الوحدة الوطنية.
وأوضح البشري في تقريره أنه إذا كان الدستور قد أورد في صميم أحكامه التقريرية والتوجيهية أن دين الدولة هو الإسلام وأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع وغير ذلك مما يؤكد الإسلام كأصل للشريعة ومعيار للاحتكام وإطار للمرجعية في المجتمع ونظمه المتمثلة في التشريعات، وإذا كان الدستور قد أورد كذلك أن الوحدة الوطنية أمر يتعين تأكيده وصيانته وإبعاد ما يتهدده، ومن ثم فإن لا منافاة بين الإسلامية والشريعة الإسلامية من جانب وبين الوحدة الوطنية من جانب آخر كما يلزمنا إدراك أن واضع الدستور بما وجه إليه في هذين الأمرين إنما رأى أن في وجود أيهما ما يزكي وجود الآخر ويدعمه، لا ما ينفيه ويضعفه.
وفرَّق البشري في التقرير ما بين حظر قيام الأحزاب على أساس ديني ووجود الدين كمرجعية للحزب، مؤكداً أن حظر قيام الأحزاب على أساس ديني يعني أن يكون الدين أساس للتمييز بين المواطنين في تولي الولايات العامة أو في الحقوق والحريات والواجبات وكذلك يكون بعدم جواز الانضمام إلى الحزب إلا على أساس ديني كأن يشترط في طلب الانضمام أن يكون العضو مسلماً أو مسيحياً أو يهودياً، وهو ما يتساوى مع قيام الحزب على أساس الجنس أو العرق أو المركز الاجتماعي، ولا يعني حظر قيام الحزب على أساس ديني بإقصاء الدين واستبعاده من أن يكون لع دوره في حياة المجتمع وفقاً لرؤية برنامج الحزب.
وتشير المراجع القانونية إلى أن حكم دائرة الأحزاب بالمحكمة الإدارية العليا، صدر برفض الطعن وبتأييد قرار لجنة الأحزاب السياسية بالاعتراض على تأسيسه، دون الرد على ما تضمنه ذلك التقرير سوى التأكيد على أنه ليس من حق رئيس هيئة المفوضين أن يقدم تقريراً في دعوى، وذلك على الرغم من قبول المحكمة ذاتها وبذات هيئتها التقرير الذي أعده المستشار طارق البشري بصفته رئيس هيئة المفوضين في طعن الحزب العربي الناصري.
• حكم غل يد اللجنة عن التدخل في شئون الحزب الداخلية
ولم تقتصر الإسهامات القانونية للقاضي والمفكر طارق البشري، في مجال حرية تكوين الأحزاب السياسية وفعالية ممارستها لدورها، على ما سبق ذكره من تقارير فحسب، بل أصدرت محكمة القضاء الإداري تحت رئاسته حكماً أكدت فيه إن لجنة شئون الأحزاب لا اختصاص لها في اختيار رئيس الحزب.
وأصدرت المحكمة هذا الحكم في النزاع على رئاسة حزب (مصر الفتاة) بين علي الدين صالح، وعبد الله رشدي، حيث صدر عن الحزب كتابين من كل من عبد الله رشدي يخطر فيه اللجنة بانتخابه رئيساً لحزب مصر الفتاة الجديد بمعرفة المؤتمر العام الطارئ للحزب، وثانيهما من عضو الحزب محمود المليجي يعترض على قرارات المؤتمر المشار إليه، ونظرت اللجنة النزاع وقامت بترجيح من له رئاسة الحزب وأصدرت قرارها بالاعتداد بقرار المؤتمر بسحب الثقة من علي الدين صالح، وانتخاب عبد الله رشدي رئيساً للحزب.
وأصدرت المحكمة حكمها برئاسة البشري وبعضوية المستشارين محمد السيد الطحان، و إدوارد غالب نائبي رئيس مجلس الدولة، بجلسة 30 يونيه 1992، في الدعوى رقم 6271 لسنة 46 قضائية، المقامة من علي الدين صالح، بوقف تنفيذ قرار لجنة الأحزاب السياسية، مؤكدة أنه لا اختصاص للجنة بانتخاب رئيس الحزب سواء كان ذلك الانتخاب مبتدأً أو نتيجة سحب الثقة من الرئيس المنتخب وانتخاب رئيس بدلاً منه، وبالتالي فلا ولاية للجنة شئون الأحزاب في ترجيح من يحق له تولي رئاسة الحزب عن الخلاف داخل تشكيلاته المختلفة، وعلى النحو المنصوص عليه في النظام الداخلي له وحسم الأمر بين المتنازعين سواء رضائيا أو قضائيا، واعتبر الحكم أن اللجنة نصبت من نفسها حكماً بين المتنازعين على رئاسة الحزب وهو أمر يخرج عن نطاق ولايتها المقررة قانوناً.
وأشار الحكم إلى أن إخطار لجنة شئون الأحزاب السياسية بأي قرار يصدره الحزب بتغيير رئيسه أو بحل الحزب أو اندماجه أو بأي تعديل في نظامه الداخلي، يستهدف فقط تمكينها من مباشرة الاختصاصات المنوط القيام بها في شأن الأحزاب من خلال الممثل القانوني للحزب وهو رئيسه الذي يمثله في كل ما يتعلق بشئونه.
وتشير المراجع القانونية إلى أن هذا المبدأ الذي استحدثه البشري أخذت به كل من المحكمة الإدارية العليا، والجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع في العديد من الأحكام القضائية والفتاوى الصادرة عنهما.