اكتمل الوحي الإلهي بقول الله -تعالى- في سورة المائدة: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا"، وذلك يوم عرفة في حجة الوداع للنبي محمد -صل الله عليه وسلم-؛ ليكون الإسلام دينًا مكتمل الأركان، مستندًا إلى كتاب الله وسنة نبيه -صل الله عليه وسلم-.
وبعد انتقال الرسول الكريم إلى الرفيق الأعلى، حمل العلماء على عاتقهم مسئولية فهم الدين واستنباط الأحكام، فكان الاجتهاد بابًا واسعًا أثرى الأمة بعلوم شتى، وعلى مدار أكثر من 1000 عام ظهر تراث إسلامي زاخر بالكتب في التفسير، والحديث، والسيرة، والفقه، وغيرها من العلوم الشرعية.
وفي هذه السلسلة، نطوف معًا بين رفوف "المكتبة الإسلامية"، نستكشف في كل حلقة كتابًا أثرى الفكر الإسلامي، ونتأمل معانيه وأثره في مسيرة العلم والدين.
الحلقة التاسعة والعشرون..
يعد كتاب "الشيخان" للدكتور طه حسين أحد أهم الأعمال التي تناولت فترة الخلافة الراشدة برؤية نقدية وتحليلية، حيث يركز على شخصيتي أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، وكيف أسهما في تأسيس الدولة الإسلامية بعد وفاة النبي محمد، وفي هذا الكتاب، لا يقتصر طه حسين على سرد الوقائع التاريخية، بللها بعقل ناقد، محاولًا فهم القرارات التي اتخذها الخليفتان وتأثيرها على الإسلام والدولة الإسلامية الناشئة.
-طه حسين ومنهجه في قراءة التاريخ
يتميز طه حسين بأسلوبه الفريد في التعامل مع التاريخ، حيث يعتمد على التحليل العقلي والنقدي أكثر من النقل الحرفي، وهو منهج تأثر فيه بالدراسات الغربية، خاصة في كيفية التعامل مع المصادر التاريخية الإسلامية، التي يعتبر أن بعضها يحتاج إلى تمحيص وتدقيق، بدلًا من التسليم المطلق بصحتها.
في "الشيخان"، يقدم طه حسين قراءة مختلفة عن السيرة التقليدية، حيث يطرح تساؤلات حول كيفية تمكن أبي بكر الصديق من إدارة أزمة الردة بعد وفاة النبي، ولماذا كان اختيار عمر بن الخطاب للخلافة أمرًا حتميًا في نظره، وكيف أثر أسلوب حكم عمر على مستقبل الدولة الإسلامية.
-أبو بكر الصديق: الحزم في وقت الأزمة
يخصص طه حسين جزءًا كبيرًا من كتابه للحديث عن أبي بكر الصديق، الخليفة الأول للمسلمين، الذي واجه أكبر أزمة سياسية ودينية بعد وفاة النبي محمد، وهي حروب الردة، ويحلل الكاتب كيف تعامل أبو بكر مع هذه الأزمة بحزم، وكيف استطاع أن يحافظ على وحدة الدولة الإسلامية بالرغم من التمردات التي انتشرت في أنحاء الجزيرة العربية.
ويشير طه حسين إلى أن قوة أبي بكر لم تكن في سلطته العسكرية فقط، بل في شخصيته الحكيمة والحاسمة، التي مكنته من اتخاذ قرارات صعبة مثل إرسال جيش أسامة بن زيد، رغم الظروف الصعبة، وعدم التراجع في مواجهة القبائل المرتدة.
-عمر بن الخطاب: عبقرية الإدارة والعدل
يخصص طه حسين الجزء الثاني من الكتاب للحديث عن عمر بن الخطاب، ويصفه بأنه الرجل الذي نقل الدولة الإسلامية إلى مرحلة جديدة من التنظيم والإدارة، ويعرض الكتاب كيف نجح عمر في وضع أسس الحكم الإسلامي الحديث، من خلال تأسيس الدواوين التي كانت نواة الإدارة الإسلامية، ووضع نظم مالية تضمن توزيعًا عادلًا للثروات، وإرساء قواعد العدل والمساواة، حيث كان شديد الحرص على محاسبة ولاته، والتوسع العسكري المنظم، حيث فتحت في عهده بلاد فارس والشام ومصر.
يرى طه حسين أن عمر كان شخصية إصلاحية قوية، لم تتردد في اتخاذ قرارات حاسمة، مثل عزل خالد بن الوليد رغم مكانته الكبيرة، لأنه كان يؤمن بأن الدولة تحتاج إلى قيادة سياسية قوية أكثر من اعتمادها على القادة العسكريين فقط.
-طه حسين ونقده لبعض الروايات التاريخية
من القضايا المهمة التي يناقشها الكتاب هو مدى صحة بعض الروايات التاريخية التي وصلت إلينا عن هذه الفترة، ويشير طه حسين إلى أن التاريخ الإسلامي، مثل أي تاريخ آخر، كُتب وفق ظروف سياسية واجتماعية معينة، وبالتالي يجب أن يخضع للنقد والتمحيص.
في "الشيخان"، يتعامل عميد الأدب طه حسين بحذر مع بعض الروايات التي كتبها المؤرخون المسلمون في العصور اللاحقة، مشيرًا إلى أن بعضها قد يكون متأثرًا بالصراعات السياسية بين الفرق الإسلامية، مثل الخلاف بين السنة والشيعة، أو النزاعات بين الأمويين والعباسيين.
الحلقة 28اقرا ايضا