تعد منطقة الشرق الأوسط نقطة تلاقى الأديان ورغم ذلك فقد دارت حولها صراعات الأوطان، فالدين كالماء سائل نقى يجمع الناس على عبادة الإله الواحد الأحد، ويدفعهم نحو الفضيلة وينأى بهم عن الرذيلة، وهذه قواسم مشتركة بين الديانات السماوية وحتى الفلسفات القديمة، فالشرائع السماوية والأرضية معًا تحاول دومًا الارتقاء بالإنسان وتهدئة الصراعات وإنهاء الخلافات، وتتفاوت الشعارات الدينية بين الرحمة والعدل، بين الحق والسلام، مع السعى للإنصاف بين الإنسان وأخيه الإنسان، لكن لأن الإنسان ولد جهولًا فقد قتل أخاه وحارب ذويه، وتملكته الأطماع وغلبت عليه غرائزه، وبذلك تحولت الدنيا أمامه إلى أشلاء ودماء وضحايا وشهداء، وانعدمت الثقة المتبادلة بين الناس وظهرت الكراهية، وانتشرت بين الطوائف والنحل وأصحاب الديانات على نحو لم نشهد له فى العصور الماضية مثيلًا، ورغم تعاقب الحضارات وشيوع الثقافات فإن العنف لا يزال هو لغة الخطاب المعاصر، ولم تعد للرحابة والتسامح مساحة كافية نعيش بها ولها.
دعنا نتأمل منطقة الشرق الأوسط وإقليم البحر المتوسط لندرك أننا أمام مشاهد عبثية تشير بوضوح إلى التدهور الواضح فى الرؤية بين كل الأطراف، وعلى مختلف المستويات بشكل يكاد يطيح بمفهوم التعايش المشترك بين البشر مهما اختلفت مشاربهم وتنوعت أوطانهم وتعددت دياناتهم، والذكر الحكيم يقول فى كتاب الله: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا» ما يعنى أن كلمة الله إلى البشر عامة وشاملة لا تختص بقوم دون آخر أو جماعة دون غيرها، وها هى المنطقة التى نعيش فيها من قلب العالم تواجه محنة حقيقية بين المفهوم المعتدل للأديان السماوية وبين عناصر التطرف ومظاهر العنف التى تكاد تطيح بالسلم والأمن الدوليين، إذ إن ما جرى فى سوريا، وهو إسقاط نظام أجمعت الآراء على فساده ووحشيته، وظهر أمامنا بعده حجم من الحقائق لم نكن نتخيل وجوده أو نعلم بشأنه، وأصبحت عاصمة الأمويين فى قبضة مجموعات جديدة قد تثير قلق البعض ومخاوف البعض الآخر فى ظل أوهام وهواجس قد تدفع بالمنطقة إلى مواجهات صعبة غير محسوبة ونزاعات دامية، فلقد أعلن الحكام الجدد من دمشق أنهم ينزعون رداء الفصائل التى كانوا ينتمون إليها والميليشيات المسلحة التى حاربوا معها لكى يتحولوا إلى عناصر عصرية تؤمن بالشعوب وتحترم حقوق الإنسان، وترفض كل الممارسات التى تؤدى إلى التعصب والغلو والتشدد، بل تقرأ أديان السماء قراءة شكلية لا تصل للجوهر، وإنما تكتفى بالمظهر مع أن الدين معاملة، وهو أيضًا وسطية واعتدال وحب للغير وحرص على الآخر.
ومنطقة الشام الكبير التى تبدو دمشق عاصمتها الأولى هى الأحرى والأجدى بأن تكون -كما كانت دائمًا- منبعًا للقومية ومستودعًا للعروبة وأرضًا للتعايش المشترك، لكن الحركة الصهيونية التى اختارت فلسطين مركزًا للاستيطان غير المشروع والعبث الذى لا مبرر له والعدوان الظالم على أصحاب الوطن الأصلى أحال كل شىء إلى نقيضه بعد الحرب الدامية على غزة لأكثر من عام والعدوان على أجزاء من الأراضى اللبنانية، ما أدى إلى سوء الظن واستشعار الريبة بأن ما هو قادم على سوريا قد يحمل فى طياته مشكلات جديدة وأزمات متعددة نتيجة الصراعات المتراكمة والنوايا السيئة، لقد سقط فى سوريا نظام كان يجب أن يرحل خصوصًا بعد ما شاهدناه من ممارساته وعرفناه من داخله، لذلك فإن البديل يجب أن يكون عادلًا ورحيمًا وعصريًا يؤمن بالحداثة، ويحترم العلم ويعلى رايات المستقبل، وذلك هو ما نصبو إليه وتتطلع إليه شعوبنا التى عانت طويلًا، وآن لها أن تستريح بعد أشواط طويلة من المواجهات الدامية والنزاعات العسكرية والحروب المتصلة والقطيعة المتأصلة التى تؤدى إلى خلق المزيد من العداوات وتوسيع الهوة حتى بين أبناء الوطن الواحد، وليرفع العرب فى أقطارهم المختلفة شعار المواطنة أى المساواة بين البشر رغم اختلاف دياناتهم وأعراقهم وأنسابهم وألوانهم، عندئذٍ تقف الأمة العربية على المشارف الحقيقية لرؤية العصر الذى نعيش فيه وتلتزم بما يجب أن تلتزم به، ولعلى أطرح هنا بعض الملاحظات، أهمها:
أولًا: إن الحكم على الأنظمة ومصادر السلطة فى البدايات هو حكم ظالم ومتعجل إذ لا بد أن يكون التقييم موضوعيًا لا يتأثر برواسب الماضى ولا يفكر بالضرورة إلا فى تطلعات المستقبل وأحلامه وآماله مهما كانت الظروف صعبة والأجواء ملبدة بالغيوم، ولا يعنى ذلك الغفران المطلق أو التجاهل التام أو النسيان الكامل، فالإنسان ابن بيئته ونتاج فطرته وتعبير عن طبيعته، لذلك فإننا ملتزمون جميعًا بالتعامل مع الواقع بمعطياته المختلفة وتبادل الرأى فى وضوح واستقبال الآخرين بغير رواسب، وأنا شخصيًا أعترف بأن بعض المشاهد والتصريحات فى أحاديث حكام دمشق الجدد لا زالت تشعرنى بشىء من القلق بل والخوف أيضًا على سلامة الأمة وصفاء روحها التى تشدها فى كل اتجاه.
ثانيًا: إن المسكوت عنه فى الخطاب السياسى السورى الجديد يدعو إلى بعض القلق المشروع أيضًا، وذلك اعتمادًا على سقوط الحقوق الفلسطينية من ذلك الخطاب، بل غياب التعابير القومية التى تدعم التزام القطر السورى بالمنهج القومى الذى رفعه العرب جميعًا خصوصًا فى الفترة الحالية التى تظهر فيها رائحة التآمر الدولى والعبث الإقليمى الذى يقوده فى تطرف واضح رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو قاتل الأطفال ومدمر المدن وهادم البيوت، إلى جانب سياسى شديد المراس صعب الفهم يجمع ما بين التراث العثمانى وبين الولاء الغربى الأمريكى، وأعنى به بالطبع السيد رجب طيب أردوغان الذى اكتشفت شخصيًا تطلعاته التوسعية حينما ذهب هو والسيدة قرينته منذ عدة سنوات فى زيارة رسمية إلى دولة الصومال يقدرون فيها ما يجب أن يحدث ويتأملون منها ما ينتظر أن يسود، ولا ننسى أيضًا سعيه لإقامة قاعدة عسكرية فى ميناء سواكن السودانى، فالزعيم التركى يسعى لاستعادة العرش العثمانى لكن بقبعة أمريكية غربية بديلًا لعمامة إسلامية قد لا تسمح الظروف بقيامها وقد مضت القرون وعبرت السنون على الجميع.
ثالثًا: إن موقف حكام دمشق الجدد الذين نعطيهم فرصة الظن الحسن هم المسئولون الأوائل عن إجلاء الحقائق وما جرى الاتفاق عليه بين القوى العظمى والمراجع الإقليمية، إذ لا بد من التأكيد على سلامة الكيان العربى وثبات الحق الفلسطينى والمضى فى طريق الكفاح والتفاوض معًا من أجل إقرار الحقوق واستتباب السلام فى أرض السلام، مع هذه الأيام التى ترتبط بميلاد السيد المسيح وبعدها أطلت تباشير الدعوة المحمدية لكى يلتقى الجميع على كلمة سواء.
رابعًا: إن محاولة تطويق العالم العربى من كل اتجاه لن تكون صائبة فى كل الظروف بل إنها قد تدفع إلى ما هو غير ذلك تمامًا، ويكفى أن نتذكر أننا أمام إدارة أمريكية جديدة وحكومة إسرائيلية لا تحترم الشرعية الدولية، ولا ترعى حقوق الإنسان بل لا تفكر فى مستقبل التعايش المشترك بين كل الأطراف، لذلك يتعين علينا جميعًا أن نرصد الواقع بعين فاحصة، فالدولة الشريرة التى بدأت بالحرب على غزة، وواصلت مسيرة العدوان إلى لبنان هى ذاتها التى تتحرش بالعراق وتطرح القضية السورية فى ذات الوقت على أشد ما تكون وأكبر ما يحتمل!
•••
وهنا تبقى كلمة لا بد من أن نزجيها للجماهير العربية، وهى أن التضامن بين الأنظمة مهما اختلفت والحكومات، وإن تباينت هو السبيل الصحيح لمواجهة الموقف الذى طرأ بعد العدوان على غزة ولبنان وتغيير نظام الحكم فى سوريا، حيث غطت الفرحة على الحقيقة، وكاد يسكرنا شراب الانتصار على النظام البائد فى سوريا حتى أصبحنا ننسى أن نظامًا جديدًا بفكر مختلف تمامًا يقبع الآن فى دمشق يدير الأمور ويحرك السياسات وهو نظام نرجو أن يكون عادلًا وعصريًا واضعين فى الاعتبار حالة الانقسام فى السودان والتضارب السياسى فى ليبيا والنزاعات المكتومة داخل صفوف القيادات الفلسطينية! دعونا ندعو الله أن يكون المستقبل العربى عادلًا وذكيًا مؤمنًا بالإنسان يفتح أبوابه للبشر جميعًا دون تفرقة أو تمييز، بلا تعصب أو تطرف أو إرهاب.
نقلا عن إندبندنت عربية