من الحالات التى لن أنساها ـ وقبل أن أستعرض هذه الحالة، أن مكاتب سكرتارية الرئيس للمعلومات ومكتبى فى مقدمتها كان مفتوحاً لأى مواطن، ولم يحدث أن منع أحد من الدخول تحت أى مسمى أمنى أو سياسي، أما الحالة التى سأتناولها هنا وعرضت تفاصيلها على الرئيس عبدالناصر فكانت حالة طالب يدرس فى كلية الطب ساهم بشكواه فى اتخاذ العديد من القرارات.
وترجع القصة إلى أننى فى إحدى الليالى كنت أباشر عملى فى مكتبي، وفى اجتماع مع بعض الوزراء، وفجأة سمعت أصواتاً عالية فى مكتب سكرتيري الخاص محمد السعيد، ولما استفسرت منه عن الأسباب أخبرني أنه يوجد فى المكتب طالب فى كلية الطب فى حالة هياج شديد، ويكاد يكون منهاراً نفسياً، وهو يصر على لقاء الرئيس جمال عبدالناصر شخصياً وكان من بين ما يردده من عبارات: « ليه بترفعوا شعارات ما انتوش قادرين تطبقوها؟!»
أدخلت الطالب إلى مكتبى وعندما دخل ـ وهو مازال فى حالة ثورة ـ وجد نفسه يجلس وجهًا لوجه مع من يسمع أسماءهم فى الإذاعة أو التليفزيون أو يقرأ عنهم فى الصحف ـ وكما صرح لى بعد ذلك ـ أنه كان مع من صوروا له بأنهم حكام مصر الذين يستطيعون أن يأتوا من الأفعال ما لا يستطيعه أى إنسان آخر. وعملت على تهدئته وتطيب خاطره ، وطلبت له شاى ومشروب بارد، ولما هدأ نسبياً بدأ يسرد حكايته تفصيلاً حيث قال: إنه يقيم مع أسرته فى أحد المساكن المتواضعة فى حى السيدة زينب ، ويعمل والده فى جمع الصحف القديمة ويقوم بعمل « قراطيس» ثم يبيع فيها « طورشى بلدى» على ناصية الحارة التى يسكنون فيها، ويتقاضى لقاء ذلك قروشاً يومياً، واليوم الذى ينقطع فيه عن العمل يتوقف رزق الأسرة التى كانت تتكون من الأبوين وأربعة من الإخوة والأخوات ، ومع ذلك فقد جد واجتهد رغماً عن ظروفهم القاسية ولجوئه فى بعض الأيام للحلول محل أبيه فى مهنته البسيطة هذه ، وتمكن من استكمال تعليمه حتى حصل على الثانوية العامة بمجموع مرتفع ، ووفقا لمبدأ تكافؤ الفرص التحق بكلية الطب التى لم يكن يحلم مثله أن يدخلها فى يوم من الأيام ، إلا أنه فوجئ بمواقف لا يستطيع أن يتحملها كطالب، فالكتب غالية الثمن ولا يستطيع أن يشتريها، والأدوات الدراسية تفوق أسعارها ما يمكن أن تتحمل أسرته تكاليفها، وعلاوة على ذلك فهو كطالب فى كلية الطب عليه أن يظهر بمظهر يليق بطبيب المستقبل، إلا أن أحداً لم يرأف بحاله بل كان موضع سخرية الكل بدون استثناء سواء من زملائه أو من أساتذته فمن قائل له: «عملت لك إيه الإشتراكية ؟!» إلى من تكافؤ الفرص؟!».. «وعملت لك إيه مجانية التعليم؟!..» «إنك لن تستطيع أن تكمل تعليمك ودراستك بهذا الوضع لأنك من بيئة عادية ولايوجد مكان لأبنائها فى كلية الطب ومكانك فى حتة تانية ياشاطر..
وتصادف أثناء سرده لحكايته وحالته أننا كنا كلنا نستمع فقط دون أن نعلق، وبدأ صوته يرتفع ناعياً حظه وحظ أمثاله ، وفجأة أنارت اللمبة الحمراء للخط الساخن بينى وبين الرئيس، وعندما رفعت سماعة التليفون سكت كل من كانوا فى القاعة لأنهم يعرفون أن المتحدث هو الرئيس جمال عبدالناصر فيما عدا الشاب الذى واصل ثورته، وقد أدرك الرئيس أن فى الأمر شيئاً غير عادى فقال لى: «إنت عندك مين؟ وليه فيه هيصة؟ ومين اللى بيزعق عندك وليه؟ هو أنت بتتخانق مع حد يا سامي؟!».
فقلت: «لايافندم».. وحكيت له بسرعة حكاية الشاب.
قال الرئيس: «طيب عملت له إيه ؟».
فقلت: «أنا لسه باسمع قصته وسأحاول حل مشكلته بإذن الله».
وقلت للرئيس إننى مجتمع مع مجموعة تنظيمية من الوزراء.
فقال الرئيس: «ما تنساش بعدما تحل مشاكله إنكم تعملوا بحث اجتماعى لأسرته ومساعدتهم بأى شكل، حتى لا يؤثر وضعهم على الطالب نفسه فى المستقبل خصوصاً وأنه فى كلية صعبة، مثل هذا الشاب لازم رعايته رعاية خاصة لأن أمثاله قليلون، ويجب أن يكون هذا مثل يحتذى به لباقى الشباب من أمثاله الذين يتحدوا زمنهم وعايزين يقهروا ويكسروا حاجز الفقر بالعلم والارتقاء بمستواهم، وإلا حانكون فعلاً كما يقول هذا الشاب بأننا نرفع شعارات لانطبقها».
فكّرعبدالناصر للحظة ثم قال: «اسمع ياسامى، فيه فى الجامعة طبعاً حالات تانية مشابهة ويمكن تكون فى حاجة للرعاية بشكل ما.. تبحث الأمر مع الأمين العام للاتحاد الاشتراكى ومنظمة الشباب ووزير الشباب ووزير التعليم العالى.. وعايز دراسة عن الموضوع فى أقرب وقت ممكن».
وأنهى المكالمة دون أن يطلب منى ماذا كان يريد عندما طلبنى تليفونياً فلم استفسرت منه عما كان قال لي: «يا سامى.. ريّح الولد وخلّص الموضوع الأول وبعدين ابقى كلمنى».
التفت للشاب وقلت له : هل تعرف من الذى كنت أتحدث معه الآن؟
فقال: حا اعرف منين ؟!.
فقلت له إنه كان الرئيس جمال عبدالناصر، وقد سمعتنى طبعاً وأنا أحكى له قصتك بدليل إنك لما سمعت إسمك سكت وبطلت تزعق».
فوجئ الشاب بهذا الكلام وأصابه ذهول وصمت غريبين ولم ينطق بحرف.
فقلت له بعد أن هدأ : شوف بقى، الكتب حاتكون عندك الصبح وكمان الأدوات الدراسية المطلوبة منك والتى تحتاجها.
ثم طلبت السكرتير وقلت له : «يا محمد تاخد هذا الشاب دلوقت وتشترى له كسوة تليق بطالب فى كلية الطب بما فى ذلك الملابس الداخلية وكل ذلك على نفقة الرئيس الخاصة».
واتصلت بوزير الشئون الاجتماعية لعمل بحث اجتماعى لأسرة هذا الشاب، واتضح بعد البحث صدق كل ما ذكره.
كما اتفقت مع محافظ القاهرة لتخصيص شقة من الإسكان الشعبى لهذه الأسرة المكافحة، وتابعت التنفيذ حتى تم المطلوب، وتم انتقال الأسرة إلى المنزل الجديد فى خلال أسبوع.
كان عبدالناصر وكالمعتاد يتابع التنفيذ معى يومياً.
وقد ترتب على هذا الموضع الفردى الآتى:
تم تشكيل لجنة جامعية برئاسة وزير التعليم العالى وعضوية أمين الاتحاد الاشتراكى فى كل محافظة يوجد بها جامعة مهمتها تيسير الكتب الجامعية لكل الطلبة دون استثناء ولغير القادرين بصفة خاصة بأسعار رمزية أو بالمجان حسب حالة الطالب.
وتوفير ملابس تليق بطلبة الجامعات فى كل جامعة بأسعار رمزية.
ثم التوسع فى الإسكان الجامعى والذى بلغ إلى حد تخصيص عمارات بأكملها لإسكان الطلبة الوافدين من المحافظات المختلفة.