اللعنة على قطاراتي - حمدي عبد الرحيم - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 3:52 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

اللعنة على قطاراتي

نشر فى : الأربعاء 20 مارس 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الأربعاء 20 مارس 2013 - 8:00 ص

تنطلق قطاراتى بسرعة خرافية تدهشنى، ثم فجأة تتعطل، وعندما تصل إلى محطتها النهائية، تكون قد سجلتْ رقماً قياسياً فى التأخر، تصل قطاراتى دائماً ليلاً، حيث لا يكون فى استقبالها سوى ظلال أشجار بائسة تبدو كأشباح، وأرصفة خاوية تكنسها رياح الليل الباردة.

 

•••

 

كنتُ أمر من أمام مبنى جريدة الأهرام، لحظة أن كان هو يهبط سلمها الخارجى منحدراً إلى الشارع، كان ملاكأ أبيض ( يرتدى بذلة صيفية بيضاء وجورب أبيض وحذاء أبيض ) حتى شعره كان قد غادر شقرته وأصبح ناصع البياض.. كان يمسك بين أصابع يمناه بفرع صغير من شجرة ( ربما كانت السيسبان ) الفرع الصغير لا يزال يحتفظ بنداوة خضرته، كان يهبط واثقاً مثل ملك ويصفر بفمه لحن أغنية عبد الوهاب ( يا مسافر وحدك ).

 

كان صفيره منتظماً متقناً لا نشاز فيه، اندفعتْ إليه قطاراتى، تلك فرصة لن أفلتها، هذا هو يوسف إدريس، وهذا أنا عاشقه، ليس هناك من معجبين ولا أضواء كاميرات، الموقف مجرد من كل زخرف أو ضجيج. ليس هناك سوى كاتب يصفر لحناً، وقارئ يسيل الحب على جوانب قلبه. شكراً لقطاراتى لقد أقلتنى حتى وقفت أمامه تماماً. مددتُ يمينى، فنقل الفرع الصغير من يمينه ليسراه.

 

ـ أهلاً يا دكتور.

 

ـ أهلاً يا حبيبى إزيك؟.

 

ثم تعطلت القطارات اللعينة، يمينه تقبض على يمنى وعيناى معلقتان بوجهه الوسيم الباسم، لكن لسانى أصبح كقطاراتى معطلاً.مرتْ حوالى نصف دقيقة على خرسى، أفلت الرجل يدى ثم ضربنى ضربة خفيفة بفرعه الأخضر على رأسى، وأنطلق يكمل صفير لحنه، عابراً الشارع بخطوات ملك وسيم. هل رمانى بنظرة تعنى أننى « مخبول «؟

 

أم أنا الآن أتخيل أنه نظر لى معاتباً ومندهشاً.

 

هل من حقى الآن فلسفة خرسى بدعوى أن دفقة حب قد قد أصابت لسانى بالشلل؟

 

أم أن الأمر كله هو مزاج قطاراتى اللعينة؟

 

•••

 

أوقفتنى قطاراتى أمامها بعد تأخر دام عشر سنوات. قالتْ عيناها:» هيت لك «.

 

كان المطعم النيلى حنوناً فمنحنى سكينة أشقى بالسعى خلفها.

 

على المنضدة التى خلف ظهرها كان الولد يعانق فتاته، كانت فتاته مستسلمة لموجة شوق جارف.

 

هذه أنثاى وهذا أنا، هذا نيلنا الحنون وشاينا بنعناعه الفواح، لو مددتُ يداً فلن تُرد خائبةً، تقدمى قليلاً يا أيتها القطارات اللعينة البليدة، تقدمى شبراً واحداً ليس اكثر.

 

شبر واحد يفصلك عن الروح والريحان وجنة النعيم.

 

تعطلتْ القطارات البليدة وفر عصفور كان يدندن لحنه الأبدى على شجرة بالقرب منا. ذهب الفتى وفتاته وتركا عطراً خرافياً للحواس جميعها.

 

بعدها ستعاتبنى بصوت متحشرج:» ليلتنا كان قمرها غائباً لكنى رأيته يضيئنى. ليتك قلتها، لو قلت لى ليلتها أحبكِ ربما تبعتك حتى نهايات الأرض، أنت حتى لم تدفعنى لأن أقولها لك «.

 

سكتُّ لأن حبيبتى لا تعرف شيئا عن قطاراتى اللعينة.

 

•••

 

كان نجيب محفوظ متاحاً كالماء والهواء وباقياً كأنه النيل، لذا لم استعجل مقابلته، سأقابله متى أردتُ فالرجل متاح كالماء والهواء وباقٍ كأنه النيل.

 

طعنه مخبولٌ فى رقبته، فقلت سينجو وسأقابله متى أردتُ، ثم تكالبتْ عليه أيام الزمن، فقلت لن تنال منه وسأقابله متى أردتُ.

 

قبل رحيله بثلاثة أشهر، جاءنى الصديق سعيد شعيب وقال لى:«محفوظ يريدنى ليستوضح شيئا عن حوارى مع محمد مهدى عاكف مرشد جماعة الإخوان، لابد وأن تكون معى».

 

ذهبت مع سعيد إلى فندق على نيل المعادى حيث كان الأستاذ يستقبل زواره.

 

فى الاستقبال وبدون اتفاق قلنا للموظف:» نريد الأستاذ « هكذا بدون تحديد.

 

ابتسم الموظف وقال:» الأستاذ محفوظ يجلس فى الطابق الثالث «.

 

فرحتُ وسعيد بموظف يعرف أن الأستاذ هو محفوظ ولا أستاذ غيره.

 

صعدنا إليه فوجدنا حوله جماعة من أصدقائه وتلاميذه.

 

كنتُ عازماً على تقبيل يده، قبلةً أودعها كل محبتى له.

 

فى لحظة لعينة ظهرتْ قطاراتى ذات الحسابات العقلية الباردة، قلت فى نفسى:» لو قبلتْ يده ربما يظن المتحلقون حوله أننى شخصى استعراضى بغيض «.

 

ارتبكت خطواتى وسعيد ونحن على بعد أمتار من الشيخ الجليل، أراد سعيد أن أسبقه وأردت أن يسبقنى، لاحظ الشيخ بحس أولاد البلد الذى لم يغادره أبداً ارتباك خطواتنا فصاح بصوت مجلجل:» بالدور يا زباين «.

 

ضحكنا جميعاً وسلمنا عليه وجلسنا، راح سعيد يشرح للأستاذ خلفيات الحوار مع مرشد الجماعة، قطع موظف حديث سعيد قائلاً للأستاذ:» جاءت اليوم سيدة فرنسية مع ابنتها الشابة وتركت لك هذه البطاقة «.

 

باغت الأستاذُ الموظفَ سائلاً:» المهم الست حلوة والا لأه؟».

 

عدنا للضحك لكن الأستاذ كان جاداً عندما سلم البطاقة لصديقه المخرج توفيق صالح:» بص يا توفيق لا تستغل الموقف وتترجم على هواك، أريد منك ترجمة دقيقة، دى الست جاية من فرنسا مش من طنطا «.

 

كان سعيد مهتماً بمعرفة حقيقة رأى الأستاذ فى جماعة الإخوان. قال الأستاذ:» ولدتُ وفدياً ووفدياً سأموت «.

 

بعد نهاية المقابلة التى لم أفتح فمى خلالها بكلمة، نظر لى سعيد مغتاظاً:» كنتُ أنتظر تقبيلكَ ليده لكى أتشجع وأقتدى بك، لماذا لم تقبل يده؟».

 

سكتُّ لأن صديقى لا يعرف شيئا عن قطاراتى اللعينة.

 

•••

 

كانتْ قد أرهقتنى بعنادها الذى تعاقبنى به على تأخر قطاراتى اللعينة، أى مواجهة هى محفوفة بمخاطر فقدانى الكامل لها. استعنتُ على عنادها وقطاراتى بالكتابة فكتبتُ:

 

«حبيبتى

 

كنا معا، فجأة علتْ دندنتك، أكتشفت أن لك صوتاً جميلاً دسماً، كان الشارع كعادته مسكوناً بضجيجه الأزلي، تلاشي الضجيج، وتصدر صوتك المشهد، كنت متشوقاً أن تغني لي، لي وحدي:» بيطلع على بالي ارجع أناوياك ..أنت حلالي أرجع أنا وياك».

 

أعرفك جبانة تخافين البوح.

 

لماذا أحاصرك وأظن أنني حلالك وأنك تودين الرجوع معي؟

 

أحبك وأحب الأغانى حيث تجري القصص كما نريد لها أن تجري لا كما تفرضها أقدار عجيبة لا نفهم حكمتها.

 

هل ترين أن الأغاني والقصائد قد أضاعتني صغيراً ثم حملتني الخيبة كبيراً؟

 

أم تراها صنعتني علي عينها وأختارتني لأكون كما أنا (أحبك وأحب الأغانى ).

 

فهل أنبعث من رمادي علي يديك؟

 

سحقا لأنفي الذي يخزّن الروائح، هل هو أنفي أم تراه قلبي؟.

 

كنت متوحداً مع فايزة وهي تغني (قمري هو وشمسي هو ) ما الذي جاء بك لحظتها؟

 

 بل ما الذي جاء برائحة شعرك علي وجه التحديد؟.

 

كنا في قلب الميدان، كنت كطفلة مذنبة، لم أحتمل رؤية وجهك المعتذر، أقتربتُ منك كثيراً فهاجمتنى رائحة شعرك، ومن يومها وهى تسكننى.

 

هل سكنتنى أم بعثرتنى؟

 

لماذا أنا حاد هكذا ومتطرف هكذا؟

 

 تهاجمني أشياؤنا الصغري كلها دفعة واحدة،قد تمرين أنت عليها غير ملتفة ولكنها تبقي داخلي عمراً لتنعشنى وتصب على قلبى المزيد من الحسرات.

 

هل تعدينني بالغناء، لي وحدي؟».

 

•••

 

رفضتْ قطاراتى حمل رسالتى إليها، وها هى قابعة فى زاوية من زوايا القلب.

التعليقات