شهد السودان على مدى عقود طويلة انتهاكات كثيرة لحقوق الإنسان، كان أغلبها بسبب الاستبداد وديكتاتورية نظام الحكم، إلى جانب الصراعات والحروب الأهلية التى مرت بها الدولة.
من أبرز هذه الصراعات هو صراع الجنوب والذى بدأ قبل استقلال السودان فى عام 1955 بدعوات للانفصال عن السودان، واستمر هذا الصراع حتى عام 2005، وانتهى بانفصال الجنوب فى عام 2011.
وهناك أيضا الصراع فى دارفور، وله امتدادات تاريخية انفجرت فى عام 2003، وانتهى بتحويل ملف هذه القضية إلى المحكمة الجنائية الدولية بقرار من مجلس الأمن الدولى، وأصدرت المحكمة فى عام 2009 مذكرات اعتقال بحق عدد من المسئولين السودانيين على رأسهم الرئيس السابق عمر البشير.
كما أن هناك الصراع فى الشرق، والذى نتج عن التهميش الذى تعرض له الإقليم من الحكومة المركزية، إلى جانب افتقاره إلى البنى التحتية والتعليم والصحة والرعاية الاجتماعية. وفى عام 2006 دخلت الحكومة السودانية فى مصالحة مع «حركات الشرق» وأبرمت اتفاقا مع «جبهة شرق السودان»، ولكن اُعتبرت هذه اتفاقية ضعيفة وهشة، مما يُرجّح رجوع التمرّد والانفلات الأمنى مرة أخرى فى أى وقت.
• • •
قام الرئيس السابق عمر البشير فى عام 1989 بانقلاب عسكرى، واستمر فى الحكم حتى عام 2019 عندما قامت ثورة شعبية أدت إلى الإطاحة به. وشهدت فترة حكمه العديد من انتهاكات حقوق الإنسان لاسيما فى الأقاليم التى شهدت صراعات مسلحة كالجنوب والشرق ودارفور.
فمنذ عام 2003، ارتكبت الحكومة السودانية والميليشيات المتحالفة معها المعروفة بـ«الجنجاويد» جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب فى دارفور، ومنها قتل وتعذيب الآلاف من المدنيين، واغتصاب العديد من النساء، ونهب البلدات والقرى، والترحيل القسرى لمئات الآلاف من الأسر. كما وثقت المنظمات الدولية لحقوق الإنسان أدلة على الاستخدام المتكرر لأسلحة كيميائية ضد المدنيين والمدنيات على أيدى القوات الحكومية السودانية.
وسعى نظام البشير بشكل متواصل إلى إسكات الإعلام المستقل فى السودان، عن طريق القبض على صحفيين ومضايقتهم وتعذيبهم، وفرض رقابة على الإعلام، والقيام بعمليات اعتقال تعسفى بحق النشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان والشخصيات السياسية الحزبية، وفرض قيود على حرية الرأى والتعبير.
وتعرضت النساء للعنف بسبب «قانون النظام العام» المطبق منذ عام 1996 والذى يقيّد الحريات العامة والفردية وينص على عقوبات مشددة مثل الجلد والسجن بحق النساء اللاتى يرتدين ملابس غير محتشمة. كما تعرضن فى مناطق الصراع للعنف الجنسى على أيدى القوات الحكومية أو الميليشيات التى تدعمها الحكومة، وطُردن من ديارهن وعشن فى ظروف بائسة فى مخيمات النازحين داخليا فى دارفور وأماكن أخرى.
يعتبر السودان تحت حكم البشير أحد أسوأ مناطق العالم التى يتم فيها استخدام الأطفال فى الصراعات المسلحة. فوفقا لإحصائيات المنظمات الدولية، هناك أكثر من 17 ألف طفل اشتركوا فى القتال إما إلى جانب الحكومة أو قوات المتمردين فى مناطق الصراع فى السودان.
وعانى السودان من الفساد المستشرى فى عهد البشير، حيث شاعت ظاهرة اختلاس الأموال الحكومية، والمحسوبية، واستغلال السلطة، وبيع الأصول الثابتة والمتحركة بمبالغ طائلة وصلت إلى نحو 80 مليار دولار فى أواخر عهده. وصُنف السودان كأحد أكثر دول العالم فسادا، حيث جاء فى المرتبة 172 بين 180 دولة فى عام 2018، وفق «مؤشّر مدركات الفساد» الذى تعدّه منظمة الشفافية الدولية.
تزامن مع ذلك، تردى الوضع الاقتصادى بشكل غير مسبوق فى أعقاب انهيار العملة الوطنية، وساءت تبعا لذلك الخدمات الأساسية مثل خدمات المياه والكهرباء والسكن والتعليم والصحة.
• • •
شهد السودان ثورة شعبية بسبب ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة وتدهور أحوال الدولة على كل المستويات. وأطاحت هذه الثورة بنظام حكم البشير فى عام 2019، وتولى المجلس السيادى الوطنى الحكم برئاسة الفريق أول عبدالفتاح البرهان قائد الجيش السودانى، ونائبه الفريق أول محمد حمدان دقلو الشهير بـ«حميدتى» قائد قوات الدعم السريع التى تم تشكيلها فى عام 2013.
أعقبت هذه الثورة إصلاحات كبيرة. لكن الانتقال المأمول إلى الحكم المدنى الكامل والديمقراطية تبدد مرة أخرى فى أكتوبر 2021، عندما نفذ البرهان ودقلو انقلابا عسكريا ضد الحكومة الانتقالية برئاسة عبدالله الحمدوك، حيث تم اعتقال الأخير مع آخرين. ومثّل هذا الانقلاب انتهاكا صارخا للوثيقة الدستورية التى تم الاتفاق عليها بين المجلس السيادى الوطنى و«قوى إعلان الحرية والتغيير».
وفى 15 أبريل الماضى، اندلعت مواجهات بين الجيش السودانى وقوات الدعم السريع بعد أن قامت الأخيرة بنشر عناصرها حول العاصمة الخرطوم، فى خطوة رأى فيها الجيش تهديدا له.
• • •
حدث بعض التحسن فى حالة حقوق الإنسان فى أعقاب الإطاحة بالبشير، ومنها رفع حالة الطوارئ فى مايو 2022، وإلغاء بعض القوانين القمعية التى تم سنّها فى العهد البائد ومنها «قانون النظام العام». إلا أن انتهاكات حقوق الإنسان مازالت مستمرة، ولا سيما فى أعقاب الانقلاب الذى قام به الجيش فى أكتوبر 2021، والتى كادت أن تكون أسوأ مما مارسه نظام البشير خلال الأشهر الأخيرة التى سبقت الإطاحة به.
إذ حدث تهاون من جانب السلطات الأمنية فى التعامل بعنف مفرط مع المتظاهرين الذين خرجوا إلى الشوارع للمطالبة بالحكم المدنى، وأسفر ذلك عن قتل العشرات وجرح المئات. كما شاعت حالات الاختفاء القسرى بين المتظاهرين. فضلا عن الحبس فى السجون ومراكز الشرطة من دون ضمانات دستورية وقانونية حتى بعد إلغاء حالة الطوارئ.
وما زاد الأمر سوءا هو انعدام ضمانات حماية الحقوق والحريات العامة والسياسية وغيرها، إضافة إلى غياب المجلس التشريعى والمؤسسات الدستورية، وبالتالى فالوضع فى غاية التعقيد ومحفوف بالأخطار، إذ لا توجد مساءلة للأجهزة الأمنية فى ظل الحصانات المطلقة.
وفى خضم الصراع الحالى، يتم استخدام الأسلحة الثقيلة ومنها المدفعية والدبابات والطائرات النفاثة فى المناطق المكتظة بالسكان فى الخرطوم مما تسبب فى مقتل نحو 800 شخصٍ، وجرحِ الآلاف، وتدمير العديد من الممتلكات، وفرار نحو 200 ألف شخصٍ، إضافة إلى نزوح مئات الآلاف داخل البلاد.
• • •
إن قدر السودان أن يظل بلدا يعانى من عدم الاستقرار منذ استقلاله والذى يتبعه حدوث انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وأن يكون على شفير احتدام الصراع بصورة مستمرة، وفى واقع ملتهب وقابل للاشتعال إلى أقصى درجة.
وبالرغم من أن سقوط نظام البشير مثّل فرصة ذهبية للسودان لاستعادة الاستقرار، وتمتع الشعب السودانى بحقوقه وحرياته، إلا أنه على ما يبدو أن البلاد مازالت مقيدة بالأزمات المتجذرة والتى كان آخرها الصراع بين الجيش وقوات الدعم السريع. ولا يبدو أن حلا قريبا لهذا الصراع يلوح فى الأفق، والاحتمال الأرجح هو استمرار الصراع لفترة طويلة لأن كلا الطرفين يعتقد بأنه قادر على تحقيق الانتصار عسكريا، مع احتدام القتال والنزوح واشتداد الأزمة الاقتصادية وتدمير البنية التحتية، بالرغم من كل المحاولات الإقليمية والدولية لوقف إطلاق النار ووضع حد للصراع.
باحث فى مجال حقوق الإنسان